بعد مرور ثلاثة عقود على تحول المنطقة الجبلية الواقعة وسط يوغوسلافيا المتفككة إلى أتون حرب تفجر فيها العنف الطائفي وجرائم الإبادة الجماعية، تبدو البوسنة والهرسك كأنها تتداعى من جديد. وقد ظهرت الأشباح القديمة المنذرة بالشؤم والمخاطر الجديدة في أوضح صورها أثناء احتفالات الذكرى الثلاثين لتأسيس كيان صرب البوسنة المعروف باسم جمهورية صربسكا في وقت سابق من الشهر الجاري.
هناك، على منصة الاحتفال في مدينة “بانيا لوكا”، وقف الرئيس الصربي البوسني الإشكالي ميلوراد دوديك، ووراءه فينكو باندوريفيتش، القائد السابق لـ”لواء زفورنيك” السيئ السمعة. ويزعم أن هذه الكتيبة مسؤولة عن المجازر التي ارتكبت بحق البوسنيين المسلمين في مدينة “سربرنيتشا” إبان الحرب الأهلية البوسنية، وقد أصدرت محكمة في لاهاي حكماً بسجن باندوريفيتش 13 عاماً بسبب ارتكابه جرائم حرب. وأطلق سراحه بعد قضائه 10 أعوام في السجن.
ولكن، في ذكرى تأسيس جمهورية صربسكا في 9 يناير (كانون ثاني)، لقي معاملة الأبطال. إذ وقف جنباً إلى جنب مع مبعوثين عن روسيا والصين ومسؤولين رفيعي المستوى من الحكومة الصربية اليمينية في بلغراد، إضافة إلى دوديك وحاشيته، الذين أعادوا تجديد الحديث حول الانفصال عن البوسنة والهرسك والاتحاد مع صربيا.
وأمام آلاف الأشخاص المصطفين في الشارع تحت سماء الشتاء الرمادية للمشاركة في الاحتفال الذي حكمت المحاكم البوسنية بعدم شرعيته مراراً وتكراراً، صرح دوديك بأنه “لا يمكن للشعب الصربي أن يتمتع بالحرية إذا لم تكن له دولة. إن جمهورية صربسكا هي دولتنا، مهما كان رأي البعض فيها”.
وعلى طول الشارع، أمام أنظار المسؤولين الأجانب والمحليين الذين اجتمعوا للمناسبة، مرت مركبات “ديسبوت” السوداء المدرعة المصنوعة في البوسنة، وقد وضعت عليها رسومات للقديسين الصرب الأرثوذوكس. وبعد مسيرة نادي الفنون القتالية المحلي وعمال الإنقاذ في دائرة الإطفاء، مرت عصابة “نايت وولف” (ذئاب الليل Night Wolves) الدراجة، المعروفة بأنها تنظيم شبه عسكري روسي مشبوه، والوحدة الخاصة في وزارة الداخلية التي ارتبط اسمها بجرائم حرب إبان الحرب الأهلية. وفي الليل، أضاءت الألعاب النارية السماء.
وفي تعليق له على ذلك، يرى الأستاذ وعميد كلية العلوم السياسية في “جامعة سراييفو”، سياد توركالو، أنه “إذا نظرت إلى الرمزية وطريقة التنظيم، ترى أنهم يوجهون الرسالة الخاطئة كلياً. إنهم يمجدون جرائم الحرب التي ارتكبتها جمهورية صربسكا. ما من أحد في أي دولة متحضرة يحتفل بتلك السنوات. أنتم تبعثون الرسالة الخاطئة إلى الشباب، فتقولون لهم إن تبجيل هؤلاء المجرمين أمر مقبول”.
أثارت احتفالات يناير قلق كثيرين في البوسنة. وفي المقابل، لم تكن الاحتفالات الإشارة الوحيدة إلى انحلال “اتفاق دايتون” الموقع في 1995 الذي أنهى الحرب، في هذه المرحلة التاريخية التي وصفها الممثل السامي للأمم المتحدة في البوسنة والهرسك كريسيان شميدت بأنها “أكبر خطر وجودي في فترة ما بعد الحرب”.
اندلعت الحرب في البوسنة والهرسك في عام 1992 بعد تفكك يوغوسلافيا. رفض الصرب أن يكونوا جزءاً من دولة يسيطر عليها المسلمون، وارتكبوا ما اعتبره خبراء في جرائم الحرب حملة إبادة جماعية وتطهير عرقي، هزت الغرب الذي أقسم بعد المحرقة اليهودية [هولوكوست] على ألا تتكرر “أبداً” حوادث تشببها. ولقد طوقت القوات البوسنية الصربية العاصمة سراييفو وقصفتها قصفاً عشوائياً.
في نهاية المطاف تدخل حلف الناتو بقوة، تحت قيادة الولايات المتحدة، في سنة 1995 وأنهى حرباً خلفت أكثر من 100 ألف قتيل، وهجرت عدداً أكبر بكثير من ذلك. وبعدها، قسم البلد إلى جيوب عرقية بموجب “اتفاق دايتون للسلام”.
قلة من الأشخاص تؤمن بإمكانية وقوع صراع تاريخي جديد. ففي الوقت الحالي، لا يتوفر ما يكفي من الأسلحة ببساطة، كما لم يتبق في البلد عدد كاف من الشباب يجعل هذا الاحتمال ممكناً. ويشير أستاذ العلوم السياسية في “جامعة بانيا لوكا”، ميلوش سولاجا، “لا يمكنك شن حرب بمجرد بضعة تصريحات. أنت بحاجة لجيش وأسلحة ومال وحلفاء”.
وفي المقابل، إن احتمال نشوب مواجهة مسلحة ليس بعيداً إلى هذا الحد، وقد عادت الهواجس القديمة والعصبية القومية إلى الظهور في عدة مناطق من البلاد. ويحمل كل يوم تقريباً معه أنباء عن أعمال تخريب ضد مساجد في مناطق البوسنة الصرب. كذلك تظهر بين ليلة وضحاها رسوم وجداريات تمجد راتكو ملاديتش، مجرم الحرب البوسني الصربي المسجون مدى الحياة بعد أن أدانته [محكمة العدل الدولية] في لاهاي، بسبب دوره في حصار سراييفو.
وفي سياق متصل، يرى سلافكو بوبيتش (56 سنة)، صاحب مؤسسة في مدينة “بانيا لوكا”، وأحد المشاركين في ذلك الاستعراض، أن “المشكلة هي أننا كنا غالبية، لكن الصرب أصبحوا أقلية الآن”. وفقاً لتعداد السكان الذي أجري في 2013، يتجاوز عدد البشناق المسلمين في البوسنة والهرسك 50 في المئة بقليل، مقابل 38 في المئة من الصرب و15 في المئة من الكروات.
كذلك يعتبر كثيرون أن المتهم الأساسي في حدوث المشاكل الحالية هو دوديك (62 سنة)، الذي شغل مناصب قيادية في جمهورية صربسكا منذ أواخر تسعينيات القرن العشرين، والعضو في المجلس الرئاسي الثلاثي للبوسنة والهرسك، بصفته رئيساً لكيان صرب البوسنة.
وقد تحول الرجل الذي اعتبر في البداية مصلحاً ومعتدلاً، إلى يميني، ربما لاستشعاره صعود الشعور القومي الصربي في قاعدته السياسية، وسعياً منه إلى أن يبعد عنه منافسيه القوميين المتطرفين، ومزاعم الفساد أيضاً.
وفي ذلك السياق، يذكر دراغان بورساتش، كاتب المقالات في إذاعة ومجلة “راديو سراييفو” وأستاذ الفلسفة “أعتقد أنه أمهر السياسيين في البوسنة والهرسك. كان اشتراكياً ثم أصبح مصلحاً وانتقل بعدها إلى المعارضة ثم تحول إلى حبيب الأميركيين قبل أن يصير شعبوياً”.
نادراً ما يتكلم دوديك باعتدال. لقد وصف سراييفو بأنها شبيهة طهران، عاصمة إيران. وكذلك يشير إلى البشناق بأنهم “المسلمون”، وقد قلل من أهمية مذبحة “سربرنيتشا التي وقعت في 1995 وقتل فيها 8 آلاف رجل وفتى من البشناق، واعتبرها “خرافة مختلقة”. وتكلم باحتقار عن البشناق العائدين إلى المنازل التي فروا منها خلال الحرب الأهلية في “وادي نهر درينا”، ووصفهم بأنهم “محتلون”. وأدان المعارضين والمنتقدين من البوسنيين الصرب الذين يسلطون الضوء على مزاعم فساده ونفيه وقوع جرائم الحرب، معتبراً إياهم “خونة” أو “مرتزقة” يعملون لمصلحة قوى خارجية.
ويقول فؤاد أفدتجيتش، الناشط وطالب القانون في سراييفو “إذا استمعتم إلى خطاب دوديك، ستجدون أنه مشابه لما قيل في الأشهر السابقة على سنة 1992. ففي كلامه كره للأجانب والمسلمين. وأنه يهين خصومه والمجتمع الدولي”.
في ملمح مغاير، يشير المدافعون عن دوديك إلى أنه لا ينوي الانشقاق عن البوسنة والهرسك، فيما يرى حتى بعض منتقديه أن القصد من خطابه يتمثل في الضغط على سراييفو كي تعطي جمهورية صربسكا مزيداً من السلطات. وبدا أنه يبعث الأمل والفخر في نفوس الحشود الملوحة بالأعلام في بانيا لوكا. “أنه يحترم اتفاق دايتون والدستور” برأي بريسيك دوسكو (57 سنة)، الموسيقي وصاحب المطاعم في “بانيا لوكا”.
وفي سياق متصل، تشير سنيجانا نوفاكوفيتش بورساتش، المشرعة البوسنية الصربية والعضوة في “تحالف الديمقراطيين الاشتراكيين المستقلين” الذي يرأسه دوديك، إلى أن “تصرفات دوديك هي في الأصل ردود فعل على من يسعون إلى تدمير دستورنا. لا نريد الانفصال. بل نريد استعادة صلاحياتنا الدستورية”.
وفي مقلب مغاير، لا تثق بدوديك سوى قلة من الأشخاص في الغرب. بعد العقوبات التي فرضت عليه في 2017، عاودت وزارة الخزانة في الولايات المتحدة إضافة عقوبات جديدة على دوديك، استناداً إلى خلفية تهم بالفساد والترويج لـ”خطاب قومي عرقي تقسيمي” يقوض “اتفاق دايتون للسلام”.
ولكن، تحت طبقة المشاكل والأزمات الحالية المتعددة الصعد، تظهر قيود وإخفاقات “اتفاق دايتون” نفسه الذي جمد النزاع بين الصرب والكروات والبشناق المسلمين من دون أن يطرح خريطة طريق نحو التئام الجراح والتكامل السياسي. ومع احتضار جهود الإصلاح، دمر الفساد المستشري والشلل السياسي ثقة الشعب في المؤسسات، وخلق أرضاً خصبة لانتشار الغوغائية واللامبالاة.
ويعتبر سرجن بوهالو، المحلل السياسي والمعلق البوسني الصربي، أننا “نتكلم عن عملية طويلة الأمد للقضاء على فاعلية البوسنة والهرسك كنظام، بمشاركة الصرب والكروات وبمساعدة النخبة السياسية من البشناق. لا أحد بريء. حتى هذا العنصر المسمى المجتمع الدولي متورط في هذه العملية”.
وفجأة، استفاق الدبلوماسيون. ورأوا الأزمة المتفاقمة في البوسنة والهرسك أثناء ديسمبر (كانون الأول)، حين أقر برلمان كيان صرب البوسنة قوانين تسمح له بتشكيل مؤسساته الموازية الخاصة وجيشه الخاص، مع حلول مايو (أيار) 2022. وقد بدأ بالفعل بإنشاء وكالة الخدمات الصحية الخاصة به، في خطوة يعتبرها البعض انتهاكاً لدستور البوسنة والهرسك.
في المقابل، يخالف بعض الصرب هذا الرأي. إذ يعتقدون أن البدء بنقل بعض الصلاحيات إلى “بانيا لوكا”، أمر مشروع تماماً. وكذلك يعتقدون أن الدستور مبهم ويحتاج إلى إصلاح. وتتمثل إحدى القضايا الأساسية في مسألة خضوع الأراضي العامة والممرات المائية في جمهورية صربسكا، لسلطة سراييفو أو اعتبارها خاضعة لسلطة “بانيا لوكا”.
ويضيف سولاجا، “لا نملك النص الأساسي للدستور، حتى إنه ضاع في مكان ما. وليس لدينا ترجمة رسمية يمكن نشرها في الجريدة الرسمية”.
في أي بلد آخر، تناقش الخلافات بين مختلف الهيئات على الصلاحيات العامة في المحاكم. ولكن القضاء في البوسنة والهرسك يعتبر مسيساً ومتحيزاً وقلة من الأشخاص، سواء من الشعب أو الجماعات السياسية، تثق فيه.
ويضاف إلى مشاكل البلد الاستياء والحماس للانفصال في أوساط البوسنة الكروات، الذين يختلفون مع البشناق حول الإصلاحات الانتخابية قبل موعد إجراء الانتخابات الوطنية في أكتوبر (تشرين الأول) المقبل.
واستطراداً، فحتى احتمال عودة النزاع بدأت كلفته تظهر. إذ يتردد البشناق في الاستثمار في البلاد، فيما تطول صفوف طالبي تأشيرات الدخول خارج قنصليات البلدان الغربية. ويقلل ذلك إمكانية نشوب الحرب. فبعد انقسام معظم البلاد أساساً إلى كيانات متجانسة عرقياً، وفرار الشباب إلى مناطق أفضل من أوروبا، من سيحارب ولماذا؟
وفي صورة عامة، إن الخوف ملموس في الأجواء. وفي سراييفو، يتحدث كثيرون عن تأجيل خططهم المتعلقة بشقق أو مؤسسات مستقبلية، أو يحاولون جهدهم السفر خارجاً بدل الانتظار كي يروا إن كان السياسيون سيحلون خلافاتهم. ووفق توكالو “لا يشعر الناس بالأمان”.
وكذلك يشير بورساتش، كاتب المقالات الذي انتقل إلى الولايات المتحدة هرباً من تهديدات بالقتل في جمهورية صربسكا، إلى أنه “حتى السنة الماضية، لم أكن أعتقد أن الناس يجمعون السلاح. ولكنني متأكد أن هذا الحال انقلب الآن”.
أسهمت جازمين بروتوس في إعداد هذا التقرير
المصدر: اندبندنت عربية