مقاربة أهم مشكلات التعدد الثقافي
(1) – خطر النزعات العنصرية وتنميط الثقافة
ثمة اتجاهات في الغرب تعمل على تعطيل الميل نحو ثقافة عالمية قائمة على التنوّع البشري الخلاق، ومن ذلك فكرة ” صراع الحضارات ” التي أطلقها صموئيل هنتغتون والتي تتناقض مع ثقافة العولمة. إذ يقول ” إنّ الحضارات هي القبائل الإنسانية، وصدام الحضارات هو صراع قبلي على نطاق كوني “. ويذهب إلى تعريف موضوعه بالقول ” إنّ الثقافة والهويات الثقافية، والتي هي على المستوى العام هويات حضارية، هي التي تشكل أنماط التماسك والتفسخ والصراع في عالم ما بعد الحرب الباردة “. ويبشّر بعالم تكون فيه الهويات الثقافية، العرقية والقومية والدينية والحضارية، واضحة، وتصبح ” هي المركز الرئيسي، وتتشكل فيه العداوات والتحالفات وسياسات الدول طبقاً لعوامل التقارب أو الاختلاف الثقافي”.
ولا شك أنّ نظرية هنتغتون حول ” صراع الحضارات “، خاصة إذا لاقت رواجاً في أوساط النخب السياسية والثقافية الغربية، تحمل في طياتها احتمالات تزايد ظهور أصوليات تسعى إلى إثارة الشعور بالهوية والانتماء، ومواجهة الآخر، وكأن استمرار ثقافة ما لا يتم إلا بالتهام أو إضعاف الثقافات الأخرى. في حين أنّ العالم أحوج ما يكون إلى حوار الثقافات كأسلوب جديد في التفكير، تفرضه التغيّرات الهائلة في عالم اليوم، إضافة إلى أنه تقليد قديم شهدته البشرية على مر العصور.
وفي الوقت الذي تتجه فيه العديد من الحركات الإسلامية في العالم العربي لمراجعة دعوتها لـ ” الدولة الإسلامية ” وتبنّي خيار ” الدولة المدنية ” لكل مواطنيها بغض النظر عن دينهم أو جنسهم أو عرقهم، وفي حين يضغط المجتمع الدولي من أجل دمقرطة المجتمع الفلسطيني، كشرط لإقامة الدولة الفلسطينية الديموقراطية المعادية للعنصرية في منظومة قيمها الثقافية والسياسية وفي دستورها ومؤسساتها، فإنّ إسرائيل تتجه نحو مفهوم عنصري للدولة ” إسرائيل دولة الشعب اليهودي “، يتناقض تماماً مع مفاهيم الديموقراطية التي تدّعيها. فقد قال متخصص إسرائيلي في علم السكان ” لقد كنت أعتقد لسذاجتي أنّ نظرية العرق الأرقى اختفت من العالم، لكن يبدو أنها متأصلة بشدة في دولة إسرائيل.. حتى في جنوب أفريقيا في ظل نظام الفصل العنصري لم يكن هناك قانون جنسية كما في إسرائيل.. لا يوجد في أي مكان في العالم قانون عنصري مثله، أو مثل قوانين إدارة الأراضي الإسرائيلية والصندوق التأسيسي لإسرائيل “.
إنّ الاعتراف بـ ” يهودية دولة إسرائيل “، يعني في أهم ما يعنيه، أنّ الأرض الفلسطينية هي ملك لليهود أينما وجدوا، وبالتالي فإنّ من حق كل واحد منهم الهجرة إليها، والاستيطان فيها، في أي وقت يراه مناسباً. كما يعني أنه يحق لإسرائيل أن تقول للفلسطينيين بعد ذلك ” هذه دولة يهودية، وبالتالي لا يجوز لأحد أن يستوطنها ما لم ينتمِ إلى الديانة اليهودية “.
ومن جهة أخرى، فقد ارتبط المفهوم الثقافي للعولمة بفكرة التنميط أو التوحيد الثقافي للعالم، فقد رأت لجنة اليونسكو العالمية للإعداد لمؤتمر السياسات الثقافية من أجل التنمية، التي عقدت اجتماعاتها في استكهولم عام 1998، أنّ التنميط الثقافي يتم باستغلال ثورة وشبكة الاتصالات العالمية وهيكلها الاقتصادي الإنتاجي، المتمثل في شبكات نقل المعلومات والسلع وتحريك رؤوس الأموال. ومن هنا اتخذ المفهوم الثقافي للعولمة بعداً اقتصادياً وإعلامياً، حيث الإعلام هو أداة التوصيل والتأثير بالأفكار الثقافية التي يراد لها الذيوع والانتشار. وبذلك ثمة خطر يهدد ثقافة العولمة، يتمثل في تسليع الثقافة، إذ يخضع الإنتاج الثقافي إلى متطلبات قوانين السوق، أي هاجس الربح، مما قد يفقر الإبداع الفكري والذوق العام، ويسدُّ في المجال أمام المواهب المجددة. إضافة إلى قيامها بعملية تسطيح الوعي، واختراق الهوية الثقافية للأفراد والجماعات والأمم. إنها ثقافة إعلامية، سمعية وبصرية، تصنع الذوق الاستهلاكي اقتصادياً، والرأي العام سياسياً، وتشيد رؤية خاصة للإنسان والمجتمع والتاريخ.
(2) – تنوّع الأقليات وتداعياته
قد يكون من الصعب الوصول إلى تعريف موحد للأقلية، نظراً إلى تعدّد أنواع الأقليات بتعدّد وتنوّع الأسس والمبادئ التي تقوم عليها واختلاف العناصر التي تميزها عن بقية سكان المجتمع الذين يؤلفون الأكثرية العددية، سواء أكانت هي عناصر سياسية أو اقتصادية أو لغوية أو دينية أو عرقية تنفرد بها عن كل ما عداها. ولكن بعض علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا المعاصرين يعرّفون الأقلية بأنها ” جماعة تختلف في تكوينها العرقي أو الديني أو اللغوي عن بقية سكان المجتمع الذي تعيش فيه، بل وقد تختلف في بعض الحالات عنهم بانتمائها في الأصل إلى جنسية أخرى “.
وعلى أي حال، فإننا حين نتكلم عن الأقليات فإنه ينبغي التفرقة بيــــن ” الأقليات الوطنية ” التي تنتمي منذ عصور طويلة إلى المجتمع الذي تعيش فيه، ولذا تعتبر من مواطنيه الأصليين، وبين ” الأقليات الدخيلة ” الطارئة على المجتمع والوافدة من الخارج بسبب الهجرات والتحركات السكانية، التي ازدادت حدتها في العقود الأخيرة بشكل خاص نتيجة للتغيّرات السياسية والاقتصادية الهائلة.
وعلى أي حال، ثمة إدراك عام في الوقت الحالي لطبيعة المشاكل التي تواجه الأقليات، حتى في الدول التي تقف من أقلياتها الوطنية أو الدخيلة موقفاً عدائياً وعدوانياً، كما أنّ ثمة وعياً متزايداً بخطورة التجاهل المتعمد وعدم الاعتراف بتلك الأقليات، وما يسببه ذلك من ألم وتمرد على الوضع القائم ورغبة في تغييره بشتى الوسائل بما فيها اللجوء إلى العنف.
وفي المجتمعات الغربية علينا ألا نغفل كون تركيبتها السكانية قد تغيّرت خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وذلك بفعل هجرة أبناء المستعمرات وأبناء الدول الأخرى غير الغربية. فالمجتمع الإنكليزي الخالص تحوّل، في بعض المدن الرئيسة، إلى مجتمع مختلط من الإنكليز والهنود والباكستانيين والأفارقة. ويصدق الأمر نفسه على فرنسا التي لم تعد فرنسية تماماً، إذ هناك الملايين من المسلمين الآتين من المغرب العربي ومن بلدان أخرى مختلفة. ولا شك في أنّ لهذه الأقليات مشكلاتها الخاصة وإرثها الثقافي، وهي ستعبّر عن تلك المشكلات وتستلهم ذلك الإرث من خلال الكتابة والتعبير بلغتها الجديدة.
ويرى بعض المفكرين أنّ التطورات التكنولوجية وازدياد وطأة العولمة جعلا من مفهوم الدولة/الأمة، التي تقوم على التجانس العرقي والثقافي واللغوي والديني، شيئاً من تراث الماضي الذي عفا عليه الزمن، وأنّ عالم اليوم تتنازعه قوتان متضادتان: تعمل إحداهما لتحقيق التقارب والتماسك وإذابة الفوارق والاختلافات، بينما تعمل القوة الأخرى على ترسيخ الاختلافات وإبراز الفوارق وتوكيد الهويات الثقافية الخاصة، والدعوة إلى الاستقلال السياسي والثقافي للأقليات عن مجتمع الدولة/الأمة لإقامة كيانات مستقلة سياسياً وثقافياً، وهو الأمر الذي ترفضه الدولة بطبيعة الحال وترى فيه تهديداً لوجودها كوحدة عضوية، ولكنه يفرض عليها في الوقت ذاته مراجعة سياستها من تلك الأقليات بحثاً عن طريقة تضمن استمرار وحدتها ومكانتها في المجتمع الدولي.
والواقع أنّ معظم الدول تمارس سياسة تعتمد على القهر ضد الأقليات وتلجأ إلى العنف لتنفيذ سياسة الاندماج، ففي دراسة مهمة أصدرها تد جور Ted Gurr عام 1993 تحت عنوان ” أقليات في خطر ” وجد أنّ هناك 233 جماعة عرقية/ ثقافية تعاني من الاضطهاد والقمع في أكثر من 100 دولة في مختلف القارات، وأنّ بعض تلك الدول كانت تزعم أنّ اتخاذ تلك السياسة هو أفضل وسيلة لتحقيق التجانس المفقود وإقرار مبدأ الاندماج، وترى في ذلك الرفض مبرراً أخلاقيا كافياً للجوء إلى العنف، الذي قد يصل أحياناً إلى حد الإبادة العرقية الجماعية باعتبار الرافضين للاندماج أعداء للمجتمع.
والواقع أنّ الهيئات الدولية المهتمة بمشكلة الأقليات في العالم تعطي أهمية بالغة لمسألة الاندماج، ولكنها تأخذ في الاعتبار، في الوقت نفسه، مسألة التكامل القائم على الحفاظ على الذوات الثقافية المتمايزة والظروف والأوضاع الخاصة بكل حالة على حدة، فالمشكلة معقدة ويصعب الوصول فيها إلى حل واحد ينطبق على كل الحالات وفى كل المجتمعات والثقافات، ولذا فإنّ معالجة وضع الأقليات المتمركزة في مجتمع واحد أو في دولة واحدة لابدَّ أن يختلف عن أسلوب التعامل مع وضع الأقليات المبعثرة أو المنتشرة في عدد من الدول المستقلة.
فليس من الضروري أو المحتم إذن أن يقتضي الاندماج محو وإزالة كل المقوّمات الثقافية الخاصة بجماعات الأقليات، وهو ما بدأت بعض الدول الغربية تعترف به بحيث نجد الآن، من بين مفكريها، من يؤمن بأنّ جهود الاندماج سوف تحقق نتائج باهرة في المجتمعات الأوربية التي تضم أقليات أجنبية عديدة بقدوم عام 2020 بعد ظهور أجيال جديدة، تنشأ على مبدأ التعايش والاعتراف بالآخر وتتقبل مبدأ التعدّد الثقافي كحقيقة واقعية لابدَّ من التسليم بها، بدلاً من النظرة القاصرة التي ترى أنّ التعدّد الثقافي يؤدي إلى الصدام بين الأقليات ونظام الدولة/الأمة الذي يتطلب توافر حد أدنى من التجانس على مختلف المستويات وفي كل المجالات.
وفي الولايات المتحدة الأميركية، وبسبب الزيادة الكبيرة في نسب المهاجرين الجدد القادمين من المكسيك وأميركا الجنوبية من ناحية والقادمين من دول آسيوية من ناحية أخرى، قررت الإدارة الاعتراف بالتعددية في المجتمع الأمريكي، وبحق الأقليات في الاحتفاظ بثقافتها ضمن تنوّع داخل النمط الأميركي، إذ أخذت بعض تجارب كندا واستراليا، وهما الدولتان اللتان مارستا سياسات دعم التنوّع منذ وقت طويل، فأصدرت تشريعات تدفع بأبناء الأقليات، وبخاصة الأقلية السوداء، نحو فرص متميزة في العمل والوظائف والتعليم والصحة وغيرها من تلك التي كان يحتكرها الأميركي الأبيض من أصول أنكلو – سكسونية وعقيدة بروتستانتية.
لقد وصل القرن الحادي والعشرون، ووصلت معه مشكلات استيعاب الغرب للهجرات الواسعة، التي استفادت من العولمة ومتطلبات النمو الاقتصادي في الغرب وسوء الأوضاع في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية ودول شرق أوروبا المتعطشة إلى الغرب وحرياته ووعوده ورخائه. وظهر في الجاليات الإسلامية تياران أساسيان: تيار تقوده أقلية نشطة، ينادي برفض الغرب الذي يعيش فيه، ويدعو لمقاومة ثقافته والانعزال عنها. وتيار غالب يرفض جوانب في ثقافة الغرب ولكنه مستعد للتعامل معها والعيش في ظلها بشرط أن يحتفظ بثقافته، ويطلب من الثقافة المهيمنة، أي ثقافة الأغلبية الأصلية، احترام ثقافته. كما ظهر أيضاً من يريد، أو يتمنى، الانصهار أو الذوبان في الثقافة المهيمنة ولكنه عجز لأسباب كثيرة منها اللون والشكل وربما اللغة وغيرها من مظاهر هوية لا يمكن إخفاؤها.
والمشكلة أنّ الجيلين الثاني والثالث من أبناء المهاجرين، الذين ولدوا ونشأوا في أوطان هجرتهم، وعاشوا أجواءها الثقافية وحرية مطالبها السياسية، وصارت لغاتها لغتهم الأم، مما أعطى لديهم شعوراً كاملاً بالمواطنة، بدون أن يتواكب هذا مع تمتعهم بكل حقوق هذه المواطنة.
(3) – نحو مقاربة جديدة للهجرة
أصبح موضوع الهجرة يحظى، في العقود الأخيرة خاصة، بأهمية كبرى ضمن مختلف الدراسات الأكاديمية واللقاءات الدولية، ويشكل محوراً أساسياً للعديد من الاتفاقيات الثنائية والجماعية بين الدول، وقد أسهمت في ذلك التحولات الدولية المتسارعة المرتبطة بعولمة الاقتصاد والسياسة والثقافة والقيم. فقد ذكر تقرير لمنظمة الهجرة العالمية صدر يوم 10 يونيو/حزيران 2003 في جنيف أنّ شخصاً من أصل 35 في العالم هو مهاجر يبحث عن ظروف حياة أفضل. وذكر التقرير أنّ 175 مليوناً من الأشخاص، أي نسبة 3% من سكان العالم، ينطبق عليهم هذا الوضع.
إنّ الهجرة مشكلة من جهة، وفرصة من جهة أخرى، وهي تشكل ظاهرة مجتمعية في بلدان جنوب وشرق البحر الأبيض المتوسط ورهاناً رئيسياً في العلاقات بين ضفتيه. ففي إطار دولي يتسم بالشك وتشنج الهويات لا بدَّ لأوروبا من التوجه نحو جيرانها في الحوض المتوسط غالباً، لأنّ تسارع الأحداث يظهر دوماً وعلى نحو قاطع أنّ مصير أوروبا لا ينفصل عن مصير جيرانها في الجنوب، فضلاً عن أنّ التعاون الأورو – متوسطي يمثل بالنسبة لها مشروعاً يحمل في ثناياه رؤية سياسية بعيدة المدى تزيد متانة التضامن.
ولعلَّ النموذج الأوروبي خير مثال على إمكانية تحقق هذا الهدف، فإذا كانت القارة الأوروبية لفترات طويلة ضحية المواجهات، وتمكنت اليوم من إعادة توحيد أطرافها، فإنّ تطوراً مماثلاً أصبح ممكناً في علاقات أوروبا مع البلدان المتوسطية الأخرى، إذا رغب الجانبان في العمل معاً بصبر وأناة على بناء منطقة للتعاون والرخاء المشترك.
إنّ عملية إقامة المهاجرين واندماجهم الاجتماعي والسياسي لا تناظر أي نموذج وحيد صالح في كل زمان، بل هناك صيغ متنوعة على قاعدة التبدلات التاريخية التي شهدها العالم منذ بدايات تسعينيات القرن العشرين، الأمر الذي يستدعى بالتالي أجوبة سوسيولوجية مغايرة. والمشكل يُطرح عندما يتعلق الأمر بكتل بشرية كثيفة تملأ الفضاء الأوروبي، وتصبح مطالبة بحقها في الاختلاف الثقافي الذي ينعكس في الملبس والمأكل والعادات وإقامة مراكز العبادة، أي حينما يتعلق الأمر بالمظهر الخارجي لوجود التنوّع الثقافي المقبول نظرياً، ولكنه يستقطب الانتباه بل يحث على التحرك المضاد، على حساب النواميس التي تسيّر الديموقراطية الليبرالية المعمول بها في أوروبا. علماً بأنّ أغلبية عرب المهاجر الغربية مولعون بإبراز خصوصيتهم كي يثبتوا أنّ الغربة لم تفعل فعلها فيهم، وأنهم أوفياء للجذور، ويعيش أغلبهم على هامش الحياة السياسية والثقافية وتحبيذ الانعزال وتجنّب الظهور وحب الانغلاق.
ويتطلب الأمر إذن نشوء ثقافة جديدة، تقبل الأجنبي المستقر، لتحلَّ محل ثقافة البلد ذي اللسان الواحد، والدين الواحد، واللون الواحد. وتطرح الهجرة على الدول الأوربية، عموماً، أن تستعد لتقبّل أمر واقع، يتمثل في التعدد الإثني والثقافي.
إنّ الواقع، الموصوف أعلاه، يتطلب نوعاً من المواطنة الثقافية، التي تعني حق الجماعات الفرعية والأقليات في الاحتفاظ بهويتها الثقافية الخاصة حتى لا يتم احتواؤها ودمجها تماماً في الثقافة العامة الرسمية السائدة في المجتمع، بشرط ألا يترتب على ذلك عدم المشاركة بشكل إيجابي وفعال في مختلف أنشطة الحياة والالتزام التام بالقوانين والقواعد الأساسية المنظمة للحياة العامة في الدولة. وهذا يعني تقبّل مجتمع الدولة لوجود هذه الجماعات المتمايزة ثقافياً، والاعتراف بحقها في الاحتفاظ بمقوّمات ثقافتها الخاصة، وتفهمه للمبادئ التي تقوم عليها تلك الثقافة والقيم التي تكمن وراء مظاهرها الخارجية من سلوكيات وعلاقات قد تختلف اختلافاً جوهرياً عما درج عليه الأهالي الأصليون الذين يؤلفون غالبية السكان.
ويذهب الأستاذ ريناتو روزالدو، أستاذ الأنثروبولوجيا في جامعة ستانفورد الأميركية، وهو الذي صاغ في الأصل تعبير ” المواطنة الثقافية “، إلى أنّ جماعات الأقليات التي تعيش في أي مجتمع وتعتبر أعضاءها مواطنين في ذلك المجتمع يمكنها الحصول لأعضائها على حقوقهم العامة، كمواطنين كاملي المواطنة، وعلى اعتراف الدولة والشعب بوجودهم ككيان متمايز داخل الدولة، وذلك عن طريق العمل الجاد من أفراد هذه الأقليات على نشر ملامح وخصائص ومقوّمات ثقافاتهم الخاصة، والحرص على التعبير عنها بقوة ومثابرة وبكل الطرق والوسائل إلى أن يتم ” حفرها ” وتثبيتها في ذاكرة المجتمع، وبذلك يفرضون ذاتيتهم وهويتهم الخاصة على المجتمع الكبير، بحيث يضطر في آخر الأمر إلى تعديل مواقفه المعارضة ونظرته الرافضة.
والمهم هنا، في ما يتعلق بالمواطنة الثقافية، هو أنّ الاعتراف بهذا التميّز الثقافي وقبوله واحترامه قد يكون عاملاً مؤثراً في إثراء الثقافة الوطنية، كما قد يحلُّ كثيراً من المشكلات الاجتماعية التي تعانيها مجتمعات الغرب في الوقت الحالي من الأعداد المتزايدة التي تفد إليها من الخارج، والتي تنتمي إلى ثقافات مختلفة تريد الاحتفاظ بها إلى جانب تمتعها بحقوق والتزامات المواطنة السياسية.
وفي كل الأحوال، فإنّ المقاربات المحكومة بالهاجس الأمني والتي أكدت الممارسة الميدانية عقمها وعجزها، ينبغي أن تتراجع لتفتح المجال لتدابير ديمقراطية أكثر عمقاً وعقلانية، تعتمد الأخذ بالعدالة الاجتماعية ضمن أهدافها وممارساتها، بالشكل الذي يتيح اندماجاً حقيقياً لهؤلاء المهاجرين، ويسهم في تدبير اختلافاتهم العقائدية والثقافية، ويوفّر لهم الشروط الموضوعية والضمانات اللازمة لتوفير عيش كريم، أسوة بباقي المواطنين الأوروبيين.
ولعل ما طرحه وزير الخارجية الإسباني الأسبق ميغيل أنخيل موراتينــــوس (صحيفة الحياة اللندنية – 8 أكتوبر/تشرين الأول 2007) عن تفادي التمييز وعدم التسامح تجاه الذين يعتنقون الإسلام، وخلق مناخ من التعايش السليم، الذي يتيح بسهولة ممارسة مختلف العقائد أصبح يمثل اليوم ضرورة ملحة وحاجة أخلاقية لا مناص منها. وخاصة قوله ” إنّ المطلوب من القوانين الداخلية للبلدان أن تأخذ بعين الاعتبار الحاجة إلى تشجيع التسامح وملاحقة السلوكيات التمييزية. وعلينا أيضاً أن نولي اهتماماً خاصاً بتنامي عدد المنظمات الإسلامية التي تمارس عملاً نشيطاً وبنّاء في مجتمعاتها “.
وهكذا، في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين تواجه البشرية خيارات مختلفة: إما إعادة إنتاج نظام الهيمنة القديم تحت شعار النظام العالمي الجديد، أو خلق نظام ما بعد الهيمنة والذي سيستمد مضمونه من البحث عن أرضية مشتركة بين التقاليد المكوّنة للحضارة الإنسانية، من خلال الاعتراف المتبادَل بالتقاليد المميّزة للحضارات الإنسانية المتعددة، وتجاوز نقطة الاعتراف المتبادَل والاتجاه نحو تقبّل التفاعل بين الهويات الثقافية المتعددة والتي تسمح بالتعايش بين مختلف التقاليد الحضارية.
(*) – ملاحظة: تقتضي الأمانة العلمية الإشارة إلى أنّ هذه المقاربة لم يكن من الممكن أن تكون على ما هي عليه إلا بفضل الأعمال القيمة التي سبقتها، إذ أود الإشارة إلى كتابات الأساتذة الأفاضل: جان فرانسوا ليوتار، يورغن هابرماس، آلان تورين، أحمد أبو زيد، برهان غليون، السيد يسين، هاشم صالح، رضوان جودت زيادة، علي حرب، جابر عصفور، هشام شرابي، محمد عابد الجابري.
(**) – محاضرة قُدمت في إطار المؤتمر الثالث والعشرين لـ ” منتدى الفكر المعاصر ” حول ” دور المؤسسات العلمية والمجتمع المدني في الحوار المتعدد الثقافات والتبادل المعرفي الأورو – مغاربي “، بدعوة من ” مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات ” بتونس، في الفترة ما بين 6 – 8 ديسمبر/كانون الأول 2007.