ما بعد الحداثة.. وتعدد الثقافات (*) (**) (1 – 3)

د- عبدالله تركماني

بداية يجدر بنا أن نؤكد أنّ عصر الحداثة لم ينغلق في نمط نهائي، بل هو في تطور متواصل، بهدف التعاطي المجدي مع التحديات التي تواجهها المجتمعات البشرية، عبر عقلانيته النقدية. ولكنّ مشروع الحداثة، الذي بدأ منذ عصر التنوير الأوروبي في القرن الثامن عشر، قد أوصلنا إلى مرحلة جديدة من تاريخ الإنسانية هي مرحلة ما بعد الحداثة. فقد نعى الفيلسوف الفرنسي جان فرانسوا ليوتار عصر الحداثة، حيث رأى أنّ أهم معالم المرحلة الراهنة للمعرفة الإنسانية، هو سقوط النظريات الكبرى وعجزها عن قراءة العالم. وفي المقابل، فإنّ الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس، وريث مدرسة فرانكفورت النقدية، نشر مقالة هامة تحت عنوان ” مشروع الحداثة لم يكتمل بعد “.

وهكذا، تظل الحدود ما بين الحداثة وما بعد الحداثة متداخلة متشابكة، وهذا ما دعا بعض المفكرين إلى القول: إنّ ما بعد الحداثة ليست نهاية الحداثة، بل كامنة في حالتها الوليدة، وهي حالة مستمرة.

وفي الواقع يتميز الخطاب الثقافي، في ظل ما تشهده المجتمعات المعاصرة من تحديات وتحوّلات في هذا الزمن المتغيّر، بأنه خطاب إشكالي: فمن جهة، هناك الانهيارات السياسية والأيديولوجية التي أصابت العديد من الأفكار والنظم والمشاريع. ومن جهة ثانية، هناك الطفرات المعرفية التي شهدتها الفلسفة وعلوم الإنسان، والتي أسفرت عن انبثاق قراءات جديدة للحداثة وشعاراتها حول العقل والحرية والتقدم. ومن جهة ثالثة، هناك الثورات العلمية والتقنية والمعلوماتية التي ندخل معها في طور حضاري جديد. ولعلَّ أحد أهم ملامح أزمة الخطاب الثقافي المعاصر تكمن في محاولة التعرف على عناصر ومكوّنات ثقافة العولمة/ثقافة ما بعد الحداثة وأدواتها الوظيفية، وكذلك ما تنطوي عليه من قضايا: الثقافة الوطنية، والهوية الحضارية، والخصوصية القومية، وتعدد الثقافات، والعنصرية، والأقليات، والهجرة. وإزاء كل ذلك، يبدو أنه من الضروري أن يعمل المرء على إعادة صياغة وترتيب أفكاره، بما يمكّنه من فهم وتشخيص هذه التحوّلات العميقة بداية.

ولعل منبع تجدد الإشكال الثقافي اليوم راجع إلى تصادم حقيقتين بارزتين: أولاهما، الالتزام الجماعي بمقتضيات الكونية الناتجة عن مسار تَوَحُّد البشرية واقتران مصائر أبنائها، من خلال الثورة الاتصالية والاندراج في الاقتصاد العالمي. وثانيتهما، الإقرار النظري والمعياري بحق الثقافات في الاختلاف والتمايز وتماثلها من حيث القيمة والمشروعية. والواقع أنّ مكمن الإشكال عائد إلى صعوبة صياغة تأليفية لهاتين الحقيقتين.

ومما يزيد الأمر تعقيداً أنّ الثقافة الكونية، التي وجدت في ثورة الاتصالات مرتكزاً وفرصة للانتشار الهائل، تتوقف عند بعض الرموز والإشارات التي يمكن فهمها والتعرف عليها في كل مكان، مهما تعددت الثقافات المحلية وتنوعت.

أصول مصطلح ما بعد الحداثة

ظهر لأول مرة في اللغة الإنكليزية لدى ناقد أمريكي هو تشارلز جيكينس حوالي عام 1975، وقد طبقه على فن العمارة أولاً قبل أن ينتقل إلى الفلسفة والميادين الأخرى لاحقاً. ولكنّ المصطلح لم يأخذ كل أبعاده الفلسفية إلا عندما أصدر المفكر الفرنسي جان فرانسوا ليوتار كتابه المعروف ” شرط ما بعد الحداثـة ” عام 1979. وفي رأي هذا الفيلسوف أنّ الأيديولوجيات الكبرى التي سيطرت علينا طيلة القرنين الماضيين كالليبرالية، والاشتراكية، والماركسية، لم تستطع أن تحقق للبشر السعادة على هذه الأرض. ولذلك فهو يدعوهـــــا بـ ” الحكايات الطوباوية ” أو ” الأساطير الكبرى “، وبالتالي ينبغي التخلي عنها ومحاولة البحث عن أيديولوجيا بديلة، وهي ما بعد الحداثة.

إنّ مفكري ما بعد الحداثة يرون أنّ النظريات الشمولية الكبرى والأيديولوجيات والتعميمات، التي أنتجتها الحداثة، أخفقت في الإجابة عن كثير من الأزمات خاصة في ادعائها بالتجانس والوضوح والتماسك والعلمية، لذا فهم يرفضون التعميم الشامل مقابل شرح الخصوصيات بسياقاتها ومستوياتها، ويرفضون التجانس الوهمي مقابل التنوع الواقعي، ويرفضون وضوح الفكرة مقابل التضحية بدقتها، ويرفضون الأجوبة القطعية مقابل الاحتمالات المتعددة للحالة، ويرفضون الأجوبة الكاملة مقابل الأجوبة الجزئية والنسبية.

وباعتبار أنّ حركة ما بعد الحداثة تشكل أحد مظاهر ثقافة العولمة فإننا نتناول أهم مبادئها، التي لها آثار عميقة على مناهج البحث في العلوم الاجتماعية والإنسانية، وخاصة ما يتعلق منها بتعدد الثقافات:

(1) – سعي حركة ما بعد الحداثة لتحطيم السلطة الفكرية للأنساق الفكرية الكبرى المغلقة، التي عادة ما تأخذ شكل الأيديولوجيات، على أساس أنها في زعمها تقدم تفسيراً كلياً للظواهر، وأنها ألغت حقيقة التنوّع الإنساني، وانطلقت من حتمية وهمية لا أساس لها.

(2) – لحركة ما بعد الحداثة أفكار محددة وجديدة حول التاريخ كعلم مستقل، أو كمدخل لكثير من العلوم الاجتماعية، تريد الحركة أن تنزله من موقعه وتقلل من أهميته ومن كثرة الاعتماد عليه. والتقليل من أهمية التاريخ يُرَدُّ إلى فكرة أساسية مفادها أنّ الحاضر الذي نعيشه ينبغي أن يكون هو محور اهتمامنا، وليس التاريخ مهماً إلا بقدر ما يلقي الضوء على الأحوال المعاصرة.

(3) – هناك لحركة ما بعد الحداثة أفكار عن دور النظرية، وعن نفي ما يطلقون عليه ” إرهاب الحقيقة “. والفكرة الجوهرية هنا أنّ الحقيقة يكاد يكون من المستحيل الوصول إليها، فهي إما أن تكون لا معنى لها أو أن تكون تعسفية. ومن هنا ترفض الحركة أي زعم باحتكار ما يسمى الحقيقة، لأنّ في ذلك ” إرهاباً فكريـاً ” غير مقبول.

وهكذا، يشهد العالم مرحلة إعادة نظر جذرية في قضية الثقافة، بل إعادة اعتبار لها من زاوية استراتيجيات المستقبل، خاصة وأنّ التطورات الجارية تبشّر بمستقبل جديد على مستوى الإنجاز المادي والتقدم التكنولوجي، ومراكز البث الإلكتروني، وبرامج التنفيذ في مجالات الإدارة والعمل الوظيفي.

ما هو التنوع الثقافي

بداية يُقصد بعبارة ” التنوع الثقافي ” تعدد تعبيرات الجماعة والمجتمعات عن ثقافاتها، وأشكال انتقال هذه الثقافات، بالمضامين الحاملة لها، أي المعاني الرمزية والأبعاد الفنية والقيم الثقافية المستمدة من الهويات الثقافية أو المعبرة عنها.

وتعتمد أطروحة التنوع الثقافي جملة مبادئ أهمها: تساوي جميع الثقافات في الكرامة وفي جدارة الاحترام، ومبدأ الانتفاع المنصف، ومبدأ الانفتاح والتوازن. ويعتني التنوع الثقافي بمبدأ الاعتماد المتبادل الذي يعني التعاون بين الأطراف الفاعلة في الوحدة الثرية بتنوعها‏،‏ والقادرة على أن تتيح لعناصرها حرية التباين دون القضاء على أساس الوحدة‏.‏

وفي الواقع، تواجه كثير من الجماعات الأصلية، وبخاصة في عالم الجنوب، خطورة احتمال اندثارها واختفائها من الوجود، ككيانات عرقية لها هوياتها وثقافاتها وتقاليدها، أمام زحف تيارات العولمة الهوجاء. وتعتبر هذه الجماعات الأصلية مجرد أقليات تعيش في شبه عزلة، بحيث أصبحت تؤلف ما هو أقرب إلى المحميات البشرية المتخلفة المهمشة التي لا يكاد يسمع لها رأي ولا تشارك مشاركة فعلية في اتخاذ القرارات التي يتعين عليها الالتزام بها، كما يساهم في هذا التهميش التقدم التكنولوجي الذي يتطلب توافر إمكانيات مادية وفكرية غير متاحة لتلك الجماعات في أغلب الأحيان.

إنّ الشرعة الدولية لحقوق الإنسان حين أقرت التنوع الثقافي استندت إلى المبادئ التالية: المساواة بين الثقافات، ورفض التمييز بين الأمم والشعوب، وعدم الاعتراف بفكرة التفوق أو الهيمنة الثقافية. وقد أكدت منظمة اليونسكو حق كل شعب في الحفاظ على هويته الثقافية، وتبنّى إعلان مكسيكو عام 1982 هذا الحق مؤكدا احترام الهوية الثقافية، وعدم السعي إلى فرض هوية ثقافية بالإكراه على أي شعب.

ويصعب على المرء أن يصدّق أنّ لغة واحدة من اللغات الأم التي تمتلكها شعوب العالم تختفي كل سنتين. وليس من باب المصادفة أنّ الكثير من الوثائق التي صدرت في إطار منظمة اليونسكو تتضمن إشارات مهمة إلى اللغات، ومنها الإعلان العالمي للتنوع الثقافي وخطة عمله في العام 2001، والاتفاق الخاص بصون التراث الثقافي غير المادي في العام 2003، والتوصية في شأن تعزيز التعدد اللغوي واستخدامه وتعميم الانتفاع بالمجال الإلكتروني في العام 2003، واتفاق حماية أشكال التعبير الثقافي وتعزيز تنوعه في العام 2005.

أما الاتفاقية العالمية حول التنوع الثقافي التي صدرت عن الدورة 33 لمؤتمر اليونسكو في العام 2005، فقد حظيت بإجماع عالمي شامل شذّت عنه الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل. ومن المعروف أنّ الاتفاقية المذكورة قد أتت تجسيداً مؤسسياً وتشريعياً للإعلان العالمي حول التنوع الثقافي بعيد اعتداءات 11 سبتمبر/أيلول 2001. وتعني هذه العبارة إضفاء الخصوصية على المنتوجات الثقافية، باعتبارها ليست مجرد سلع عادية للتداول، بل هي أنماط وجودية وأشكال تعبير عن الهويات المختلفة، وبالتالي يجب حمايتها بصفتها تراثاً إنسانياً مشتركاً، في مقابل نزوع الهيمنة الثقافية واللغوية.

وبعيداً عن المبالغات والتوصيفات والتهويمات الأيديولوجية، فإنّ مظاهر العولمة كلها تشير إلى أنّ الإنسانية تتجه نحو ثقافة عالمية ومشتركة، فلم تعد منظمة اليونسكو تتردد في الحديث عن أخلاقيات عالمية جديدة. ففي تقريرها عـن ” التنوّع البشري الخلاق ” دعوة واضحة إلى عولمة تتسم بوحدة وتنوّع الثقافة الإنسانية معاً. وقد أصبح الشعور بوحدة هذا الكوكب حقيقة وليس مجرد أمنيات، سواء أكان ذلك من خلال سرعة التعرف عما يجري في العالم، أو الإحساس بمشكلات قد تتجاوز حدود الدول مثل: الإرهاب والمخدرات والأوبئة والجريمة المنظمة وغيرها.

ثم أنّ معظم الشواهد تشير إلى أنّ أثر العولمة يكرس من الخصوصيات الثقافية بالمقدار نفسه، إن لم يكن أكثر، من نشره لقيم عابرة لتلك الخصوصيات. فما توفره العولمة من آليات تواصل وتكنولوجيا هي برسم الاستخدام من قبل أية ثقافة على الأرض، وهو ببساطة أمر غير مسبوق تاريخياً. وفي الحقيقة أنّ المستفيد الأكبر من العولمة هو الثقافات الأقل حضوراً من الثقافة الغربية، حيث وفرت لها وسائل العولمة الاتصالية قدرة على التواصل والإنتاج ما كان لها أن تتوفر عبر الوسائل التقليدية.

ومن جهة أخرى، ليس غريباً أن يربط كثيرون بين فكرة التنوّع الثقافي والنظم والمعتقدات الليبرالية في الغرب، فالفكرة بمضمونها المعاصر نشأت وتطورت في الدول الغربية، واقترنت بمسألة حماية الأقليات وضمان حريات الآخر. ولكن لا يمكن التسليم بصحة اعتبار الليبرالية الحاضن الفكري والسياسي للتنوع الثقافي على نحو مطلق.

وهناك بالتأكيد موقف ليبرالي متعاطف مع هذه الفكرة، ولكن هناك إلى جانب ذلك موقف ليبرالي يعارضه بقوة: لأنّ هناك تضاداً فكرياً كبيراً، في نظر العديدين، بين الليبرالية والالتزام بالتنوع الثقافي. فالليبرالية، خاصة تجلياتها في مرحلة ما بعد الحداثة، تشدد على حرية الأفراد وعلى المساواة فيما بينهم، وهي تجتهد في إزاحة وتفكيك كافة القيود المجتمعية والقانونية والمؤسسية، التي تحد من حرية الأفراد وتقيّد إراداتهم وتعطّل قدراتهم. وإذ تلطّف الليبرالية من مفاعيل الفردية الجامحة، التي تنتزع الفرد من الجماعة وتبعده عن أهله وأصدقائه، فإنها تفعل ذلك عبر تكوين التجمعات الطوعية. فهل تكون مساندة الليبراليين لمثل هذه التجمعات وحرصهم على حريتها هي التعبير عن التزامهم بالتنوع الثقافي؟

قد يكون الذين يرون أنّ الليبرالية هي النظام السياسي الأفضل لتطبيق التنوّع الثقافي على حق، ولكن ليس هناك من مسوّغ للاعتقاد بأنّ النظام الليبرالي وحده يوفر هذه الميزة. إنّ الليبرالية قد تأتي ولكن من دون أن يأتي معها التنوّع الثقافي، إنها عقيدة إنسانية كبرى، ولكنها لا تقدم حلاً لكافة المشاكل التي تعاني منها المجتمعات.

(*) – ملاحظة: تقتضي الأمانة العلمية الإشارة إلى أنّ هذه المقاربة لم يكن من الممكن أن تكون على ما هي عليه إلا بفضل الأعمال القيمة التي سبقتها، إذ أود الإشارة إلى كتابات الأساتذة الأفاضل: جان فرانسوا ليوتار، يورغن هابرماس، آلان تورين، أحمد أبو زيد، برهان غليون، السيد يسين، هاشم صالح، رضوان جودت زيادة، علي حرب، جابر عصفور، هشام شرابي، محمد عابد الجابري.

   (**) – محاضرة قُدمت في إطار المؤتمر الثالث والعشرين لـ ” منتدى الفكر المعاصر ” حول ” دور المؤسسات العلمية والمجتمع المدني في الحوار المتعدد الثقافات والتبادل المعرفي الأورو – مغاربي “، بدعوة من ” مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات ” بتونس، في الفترة ما بين 6 – 8 ديسمبر/كانون الأول 2007.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى