“نحن دائمًا نبالغ في تقدير التغييرِ الذي سيحدث في العامين المقبلين، ونقلل من شأن التغيير الذي سيحدث في السنوات العشرِ القادمة “بيل غيتس.
الشاعر الإنجليزي جورج هربرت George Herbert الذي قال في إحدى قصائدِه عام 1651 “قزمٌ على كتفي عملاقٌ يرى أبعد من الاثنين”. ويبدو أن هذه الصورةَ مشتقةٌ من الأساطير الإغريقية إذ يحمل العملاق الأعمى أوريون خادمَه سيداليون على كتفيه ليعمل كأعين له.
إن الوقوفَ على أكتاف العمالقة استعارةٌ تعني البناءَ على الأفكار والاكتشافات العلمية التي توصل إليها كبارُ العلماء والمفكرين من أجل إحراز مزيد من التقدم العلمي والمعرفي.
يتألف تاريخُ المعرفة ومستقبلها من 7 مراحل:
- 1. مرحلة التواصل المعرفي: وترتبط بظهور اللغة، ولا يوجد تاريخٌ دقيقٌ متفق عليه لظهور اللغات، إذ يعتقد أنها تطورت تدريجيًّا، ويرجح العلماء أن السلوكَ اللغوي الحديث بدأ بالظهور منذ نحو 100 ألف سنة (نعوم تشومسكي).
- 2. مرحلة التراكم العمودي للمعرفة: وترتبط باختراع الكتابة في الألفية الرابعة قبل الميلاد مع السومريين والفراعنة، ومن ثم جاءت الأبجدية مع الفينيقيين.
- 3. مرحلة الانتشار الأفقي للمعرفة: وترتبط باختراع الطباعةِ مع الألماني يوهان غوتنبرغ عام 1436م.
- 4. مرحلة الانتشار الآني للمعرفة (فور نشرها على الإنترنت): وقد أصبح ذلك ممكنًا بدءًا من توفر خدمة الإنترنت تجاريًّا في الولايات المتحدة الأميركية عام 1989م.
- 5. مرحلة انتشار المعرفة العابر للغات: بدأتِ الترجمةُ الآليةُ الفورية تحقق نجاحاتٍ مستمرةً بفضل دمج الترجمةِ العصبية العميقة بالترجمة الإحصائية و باستخدام تقنياتِ التعلم الآلي (ML)، ويتوقع أن تصلَ إلى مستوى الترجمة البشرية بين عامي 2024م و2030م.
- 6. مرحلة المعرفة الكلية المباشرة: وتتمثل بزرع شرائحَ إلكترونيةٍ صغيرة جدًّا في دماغ الإنسان، مرتبطة بشبكة الإنترنت مباشرة، وهي عملية بدأت على نطاق محدودٍ قبل سنواتٍ قليلة، ويتوقع أن تبلغَ مرحلة النضج عام 2040م على أبعد تقدير، من خلال “ربط قشرة الإنسان الدماغية، وهي القسمُ المسؤول عن التفكير، بالحوسبة السحابية”، وفق ما يراه العالم الأميركي ريموند كرزويل Ray Kurzweil.
- 7. مرحلة التفرد المعرفي: وتتمثل في معالجة المعرفةِ الكلية المباشرة في دماغ الإنسان المزودِ بشرائح الذكاءِ الاصطناعي فائقة السرعة، ما سيولد معارفَ جديدةً في كل لحظة (متوقعة بين عامي 2050م و2060م). ودمجُ الذكاءِ الاصطناعي بدماغ الإنسانِ حاجةٌ ملحةٌ وفق ما يراه إيلون ماسك Elon Musk وإلا “لن يكونَ بوسع البشرِ التنافسُ مع الذكاء الاصطناعي المتنامي”، وسوف “يصبحون كائناتٍ هامشيةً”.
يرجِّحُ العلماءُ أن الإنسانَ ظهر قبل نحو 300 ألف سنة، وبدأ منذ ذلك الحين مراكمةَ الخبرات. كان هذا التراكم بطيئًا في الـ 200 ألف سنة الأولى إذ اعتمد الإنسانُ على الإشارات والإيماءات في التواصل. وتسارعَ تراكمُ الخبرات مع ظهورِ اللغةِ وتطورها في الـ 100 ألف سنة التالية. المسافةُ الزمنية بين ظهورِ اللغة وظهور الكتابة 95 ألف سنة تقريبًا، وبين ظهور الكتابة وظهور الطباعة 5500 سنة تقريبًا، وبين ظهور الطباعة وظهور الإنترنت 550 سنة تقريبًا، وبين ظهور الإنترنت ونضوج الترجمة الآلية بين اللغات 50 سنة تقريبًا، وبين نضوجِ الترجمةِ الآلية بين اللغات وبلوغ المعرفة الكلية المباشرة يُقدر ب 15 سنة تقريبًا، وبين بلوغ المعرفة الكلية المباشرة والتفرد المعرفي يُقدره العلماء ب 15 سنة تقريبًا.
مع بلوغِ مرحلةِ التفرد المعرفي سوف تدخل البشريةُ مرحلة “الإنسان المتفوق” أو مرحلة ما بعد الإنسان،و بافتراض أن العلم والتكنولوجيا نجحا في توفير كلِّ الأدوات اللازمة لترقية الإنسان إلى الصورة التي سبق ذكرها، فهل يتوقع أن ينالَ جميعُ سكانِ الأرض الدرجةَ نفسها من تلك الترقيةِ المفترضة؟
إن استمرارَ النظام العالمي بوضعه الحالي لن يتيحَ على الأرجح توفير تقنيات الترقية للجميع، مما سيؤدي إلى بزوغ مرحلة جديدة من التمييز بين البشر تنقسم فيها الدول بل المجتمع الواحد إلى فئتين: 1) الإنسانِ الجديد المتفوق عقليًّا، 2) الإنسانِ الحالي المتخلف نسبيًّا، والسؤال هو: إلى أي نوعٍ سينتمي أحفادُنا المقيمون في البلدان العربية؟
خلال السنوات القليلة الماضية، استطاعتِ الصينُ التقدم في عدة مجالاتٍ تكنولوجيةٍ حيوية بسرعة كبيرة مثلت مفاجأةً للمراقبين الأميركيين. وأصبحتِ الصينُ منافسًا خطيرًا في التقنيات التأسيسية للقرن الـ21 مثل الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا الجيل الخامس،والكوانتم (Quantum) ، و علم معلومات الكم (QIS) ،وأشباه الموصلات، والتكنولوجيا الحيوية، والطاقة الخضراء. وبحسب تقريرٍ جديدٍ صدر عن جامعة هارفارد الأميركية ، فإن الولايات المتحدة الأمريكية ما لم تتمكن من تنظيم استجابةٍ وطنيةٍ مماثلة للتعبئة التي خلقتِ التكنولوجيات التي انتصرت في الحرب العالمية الثانية، فإن الصينَ قد تهيمن قريبًا على تكنولوجيات المستقبل والفرص التي ستخلقها.
إذا دخلنا في مناقشة فكريةٍ حول هذا الموضوع، يجب أن يصبحَ الهدفُ هو أن تكون الحقيقةُ نقطة التقائنا. لكن البشر بالعموم ينتمون إلى رتبة الرئيسات، وغالبا ما يكون هدفُ كلٍّ منهم أن يصبح هو المناظرَ المهيمن – أو المناظر “الألفا”،وهذا ما سنحاول الابتعاد عنه.
ابن خلدون -في ‘المقدمة‘- يقول إن “المغلوب مولعٌ أبدًا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزِيّه ونحلته وسائر أحواله وعوائده..، فالنفسُ أبدًا تعتقد الكمال في مَن غلبها”!! ومثال ذلك أنّ اللغةَ العربية إبان الحكم الإسلامي في الأندلس كانت لغةً عالميةً مهيمنةً، كما هو شأن الإنجليزية اليوم.
في المستقبل القريب ستكون شعوبُنا العربيةُ والإسلامية لا تنتمي لفئة الإنسان الجديدِ المتفوق عقليًّا.عندما يقارن الناس بين المتعةِ الآنية والمتعة بعيدة المدى، وبين الفائدةِ الآنية والفائدة بعيدة المدى يصبح الصراعُ كأنه صراعٌ ذاتيٌّ! على سبيل المثال، الإفراطُ في الأكل اليوم مقابلَ جسمٍ نحيفٍ غدًا، أو شراء الحلي اليوم في مقابل امتلاك أموالٍ كافية عندما يحين موعد السداد، وفي موضوعنا هنا الركونُ والاسترخاء لواقعنا الراهنِ مقابل الحرص على ألا نكونَ مع فئة الإنسان المتخلف العبد!
الصراعُ بين ذاتٍ تفضل مكافأةً صغيرة الآن، وذاتٍ تفضلُ مكافأةً أكبر لاحقًا شيءٌ مترسخ في النفس البشرية. ولطالما تمَّ تناولُ هذا الصراعِ في الفن والأساطير. في الكتب السماوية، نجد قصةَ أمٍِنا حواءَ التي تأكل التفاحة رغم تحذير اللهِ جلَّ جلالُه لها من أن ذلك سيؤدي إلى طردها و طرد أبينا آدمَ من الجنة. وهناك أسطورةُ النملة والجندب للكاتب الإغريقي إيسوب، حيث يقضي الجندبُ الصيفَ كلَّه في الغناء بينما تعكف النملةُ على تخزين الطعام، فيجد نفسَه جائعًا عندما يحل الشتاء.
لقد صاغت لنا الأساطيرُ كذلك إستراتيجية شهيرة للتحكم في النفس. فالملك أوديسيوس نفسُه أمرَ بأن يتمَّ تقييدُه إلى صاري شراعِ سفينتِه لكيلا يسحرَه غناءُ جنياتِ البحر ،فيترك السفينة تجنح وتتحطم فوق الصخور. أي أن ذاتنا في الحاضر تستطيع أن تهزمَ ذاتَنا المستقبليةَ من خلال تقليصِ خياراتها. في القرآن الكريم يقول تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (الجاثية 23) وقوله تعالى: فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ۚ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (القصص 50).
البروفيسور ستيفن بينكر Steven Pinker أستاذُ علمِ النفس بجامعة هارفارد الأمريكية ومؤلفُ كتابِ “العقلانية: ما هي؟ ولماذا تبدو نادرةً؟ وما أسباب أهميتِها؟” (Rationality: What It Is, Why It Seems Scarce, Why It Matters) يقول:
“نحن نبحثُ عن أنماطَ متكررةٍ في فسيفساء خبراتنا الحياتية لأنها قد تكون دلائلَ على وجود أسباب أو وسائل خفية. لكن ذلك يجعلنا عرضةً لتخيل أسبابٍ زائفةٍ لأشياء جزافية.
وبرأي بينكر فإن المبالغةَ في تأويل العشوائية خطر. فالعشوائيةُ قد تشيرُ إلى عمليةٍ فوضويةٍ تولّد بياناتٍ تفتقرُ إلى المنطق أو الإيقاع، لذلك يجب التوقفُ عن التفكير في أن كلَّ شيءٍ يحدث لسبب ما، وتفادي أن تكون خياراتُنا كبشر محكومةً بأسباب لا وجود لها.
ترتكز حركةُ ما بعد الإنسانية على آراء الفيلسوف البريطاني ماكس مور Max More التي تنادي بتسريع تطويرِ الحياة الذكية إلى ما هو أبعد من شكلها البشري الحالي والحد من القيود المفروضة عليها، وذلك عن طريق العلم والتكنولوجيا. وقد تم تأسيس الرابطة العالمية لما بعد الإنسانية (Transhumanism)من قِبل الفيلسوفان البريطاني ديفيد بيرس David Pearce والسويدي نيك بوستروم Nick Bostrom عام 1998 كمنظمةٍ غير ربحيةٍ مكرسة للعمل على إزالة العقبات أمام بروز ما بعد الإنسان “الإنسان المتفوق”.
تبشر هذه الحركةُ (والتي تعرف أيضًا باسم H+) بولادة ما بعد الإنسان وهو كائنٌ متفوقٌ أذكى بكثير من الإنسان الحالي، ومقاومٌ للأمراض، ولا تظهر عليه علاماتُ الشيخوخة، بل يمكن أن تمتدَّ حياتُه إلى آلاف السنين.
عندما نجمعُ فكرةَ الإنسانِ المتفوقِ عقليًّا التي تنادي بها حركةُ ما بعد الإنسانية، مع خطورة فهمِ العشوائية التي هي جزءٌ لامسه البشرُ عبر تاريخهم المتداول والمنقول لنا، لوجدنا أن فهمَ مبدأ المدافعة والتسخير والعبودية غالبًا سيبقى مستعصيًّا على الفهم البشري، وهنا تدخل القدرةُ الإلهيةُ لتحطيم مرحلةِ ما بعد الإنسان: إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ۚ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (يونس 24)
لكن النجاةَ على المدى البعيد ليست فقط بانتظار فشل مشروع H+ بقدرة إلهية بل بالعمل على إفشال تحولِ مشروع ما بعد الإنسانية إلى مشروع سيطرةٍ وعبودية بل تحويلُه إلى مشروع إعمار وهذا لا يتأتى إلا بالانخراط في التمكن من أدوات هذا المشروعِ وتأسيسِ حركةٍ الإنسانية -وليس ما بعد الإنسانية- الخاصة بنا كمؤمنين برسالتنا بالإعمار لمنفعة البشرية وليس للسيطرة والاستعباد! وهذا لن نتمكنَ منه إلا إذا استيقظنا من سُباتنا ورجحنا الفائدةَ بعيدةَ المدى على الفائدة والمتعة الآنيةِ التي تغرق بها شعوبُنا على وجه الخصوص ، وخرجنا كذلك من محاولة فهمِ العشوائية التي جعلتنا لوقت طويلٍ نؤمن بالأحلام أكثر من العلم والعمل!