أسئلة قد تبدو للبعض غير مهمة، ولا قيمة عملية لها، أو هي أقرب للترف الفكري في وقت تتعرض فيه أوطان وشعوبنا إلى أخطار متلاطمة لا تتيح مجالا لمثل هذا الترف.
لكن وأنا أراجع كتابات وحوارات حول العلمانية كانت أبحاث معينة تذهب إلى ضرورة طي فكرة الهوية، واعتبار الوطن هو البديل الجامع لحياة الناس في بلد معين، واعتبار الهوية مفرقة للمجتمعات، ويذهبون إلى أن الحديث عنها يحمل الدولة ما لا يجوز أن تحمله، فالدول لا هوية لها.
وظهرت هذه المسألة أكثر ما ظهرت لدى قطاع من المثقفين السوريين وهم يبحثون عن مستقبل بلدهم الذي مزقته الحروب، بمثل ما مزقه الاستبداد، وخربت الطائفية بنيته الاجتماعية بمثل ما فعل الفساد ذلك، ثم جاء القتل والدمار الذي مارسه النظام القائم، ومارسته قوى العنف والطائفية المختلفة ليرسم مستقبلا مشكوكا فيه لوحدة السوريين مجتمعا ووطنا.
ولقد وضعت مفهوم الهوية ضمن بحث العلمانية لأن شطرا من أصحاب هذا الرأي هم من العلمانيين، وهم يعتبرون أن العلمانية تعارض فكرة الهوية، وفكرة أن يكون للوطن والمجتمع هوية محددة يقاس الناس عليها، وتكون حاكمة لهم أو عليهم.
ومفهوم الهوية هو بالأساس مفهوم للتمييز، أي لإظهار عناصر الوحدة بين مكونات هذا المجتمع أو ذاك، وعناصر الاختلاف عن غيره من المجتمعات، وليس الغرض في إظهار الاختلاف والتميز هو الدفع إلى الصراع والكراهية مع الآخر، وإنما تحديد أطر الحركة والتفاعل، وأولوية الأهداف والأدوات، وأيضا التمكين لعوامل القوة والاجتماع والتآزر في المجتمع الواحد حتى تفعل فعلها في بناء هذا المجتمع وفي التضحية من أجله، وفي تعزيز تقدمه و أمنه، أي أن وضوح هوية المجتمع: هوية الشعب والدولة إنما يستهدف وضوع استهدافات أجهزة الدولة ومؤسساتها وأولويات الحركة والبناء فيها.
وتحرص المجتمعات على تحديد هويتها في أهم وثيقة تلتقي عليها وهي الدستور، إذ في دساتير الدول تحديد لهوية الشعب أو الأمة أو الجماعة التي يحكمها هذا الدستور، وتخضع لموجباته.
هل للدولة أو المجتمع لغة أو لغات يعرف بها، وبالتالي يكون للدولة ومؤسساتها دور في حماية ودعم وتعزيز لغة المجتمع؟
هل المجتمع وللشعب فيه عقيدة أو دين معين، يعرف فيه وبه، ويكون للدولة التزام تجاهه، ودور في التمكين له وحمايته؟
هل للمجتمع قيم عامة جامعة تكونت عبر التاريخ وصارت بحكم رسوخها وتأريخيتها حاكمة للسواد الأعظم من الناس في هذا المجتمع، وما دور الدولة في حراسة هذه القيم، والتمكين لها؟
هذه مجموعة أسئلة هي في مجموعها وجوهرها تحدد معنى هوية الأمة وصلة الدولة فيها.
** لماذا يجتمع السوريون في سوريا، والأتراك في تركيا، ولماذا يجتمع الايطاليون في إيطاليا، ولماذا يعتبر الفرنسيون فرنسا وطننا لهم.
لا شك أن لسوريا وفرنسا وإيطاليا تركيا…. الخ جغرافيا محددة، فهل يصح أن نعتبر هذه الجغرافيا هي محدد الانتماء، ثم من أين أتت هذه الجغرافيا؟ كيف تم تحديدها؟ لماذا نوليها هذه الأهمية؟
** هل اللغة الخاصة بكل بلد هي التي تحدد هويته، فيكون من يتحدث الإيطالية هو الإيطالي، ومن يتحدث التركية هو التركي، ومن يتحدث الفرنسية هو الفرنسي، وهكذا؟
** هل الدين هو صانع الهوية وهو أساسها، فيفرق البشر على أساس أديانهم ومعتقداتهم الدينية، فيكون للمسلمين هوية واحدة، ويكون للمسيحيين هوية واحدة، ويكون للبوذيين هوية واحدة، ويكون للكونفوشيين هوية واحدة… الخ؟
** هل العرق، أو الانتماء العرقي يصنع هوية لمجتمع أو جماعة، فتصبح الأمم متميزة بأعراقها، الأبيض والأسود والأصفر… الخ، بغض النظر ما إذا كان هذا التميز يولد امتيازا “عنصرية” أم لا يولد؟
**هل التاريخ هو صانع الهوية، فيكون التاريخ الواحد لجماعة من الناس هو صانع هويتهم، وبالتالي هو من يتحكم فيمن ينتسب إلى هذه الهوية ومن يخرج عنها؟
** ثم هل سمة الهوية عنصر ثابت، أم أنه يمكن أن تجري عليه تحولات، فهي تزيد وتنقص؟
** وهل الهوية نتاج عملية تاريخية ممتدة، تصنعها حركة التاريخ وعوامله، أم أننا يمكن أن نُصنِعها، وبالتالي نجعل لهذه الجماعة أو لهذا المجتمع هوية معينة، والذي يَصنع هوية يمكن له أن يغيرها، وبالتالي هل يمكن تغيير هوية مجتمع ما؟
** هل البيئة والتحديات هي التي تصنع هوية الإنسان، فيصبح أولئك الذين يواجهون التحدي نفسه يمتلكون الهوية نفسها، وبالتالي يمتلكون الفرصة والحق في صنع مجتمعهم الواحد.
** هل الآمال والتطلعات والرغائب الواحدة هي التي تصنع الهوية فتصبح هذه التطلعات والرغائب ركائز تقوم عليها هوية قادرة على بناء مجتمع ودولة وتحقيق تميز يصنع فرقا.
** ثم هل وجود هوية واحدة لشعب أو أمة أو مجتمع يعني بالضرورة انتفاء وجود هويات أخرى فرعية فيه، يربط بين أفرادها عامل واحد أو أكثر من عوامل تشكيل الهوية، عامل موجود بشكل أقل أو غائب عن مكونات الأمة الأخرى.
** وأخيرا هل الهوية قضية فردية شخصية أم أنها قضية اجتماعية جماعية، هل يستطيع كل فرد أن ينشئ أو يقيم لنفسه، أو يحدد لها هوية خاصة، أم أن الهوية هي مجال يحيط بالإنسان ويحدد له خياراته. (هنا كمثال حديث عن الانتماء الطبقي)
هذه تساؤلات تطرح في مسألة الهوية، وهي كلها تصب في تبيان ما يميز مجموعة من الناس عن غيرهم تمييزا يسمح بأن يكون لها مجتمعها ومجالها الذي تظهر فيها الأنواع المختلفة لإبداعاتها، وبأن تشعر بالانتماء لهذا المجتمع وبأنه يمثلها فيكون هذا المجتمع بشكل ما “هي هذه الجماعة” لكن على نحو أوسع مدى، وأعمق غورا، وأكثر غنى، فتجد فيه ذاتها، فتطمئن له، وتضحي من أجله.
نقطة البدء في بحثنا أننا نتحدث عن الانسان وهويته من خلال وجوده الاجتماعي، أي أن كل مكون من مكونات هويته نقيسها ونحاكمها وندقق بها من زاوية “الوجود الاجتماعي للإنسان”، من زاوية دوره الاجتماعي وحقوقه، وواجباته، وتميزه، وفكره.
مستويات الهوية
وإذ كرم الله الانسان ب “العقل والمسؤولية”، فإن الانسان بهذا التكريم بات يقف على الأرضية التي يقف عليها بنو البشر جميعا، والتمايز بين الناس، والتفاضل بين الناس يكون بالعمل، وبما يقدم كل فرد لنفسه ولمجتمعه وللإنسانية جميعا، وبهذا التكريم يكون الله جل وعلا أعطى للإنسان هويته الأولى، باعتباره إنسانا، وجعل هذه الهوية سنة من سنن الكون، وهي سنة لا تتبدل ولا تتغير، وليس لأحد فضل فيها ولا منة عليها، ولا تميز فيها. هي عطاء من الله لكل البشر، ولكل المجتمعات، ولكل الأزمان، وفي كل الأماكن. هذا هو المستوى الأول للهوية، أو لنقل الهوية الأولى والأصيلة التي تميز الانسان، وهي بطبيعتها تفترض أن تكون كل هوية لاحقة منسجمة مع هذه الهوية الإنسانية الأصيلة وداعمة لها ومعززة لوجودها وميسرة لآليات تفاعلها وإبداعاتها.
يقول الله تعالى: “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم”. الحجرات 13
ويقول تعالى: “ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون”. الروم 21
ويقول الله تعالى: “ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين” الروم 22
ليس لذكر فضل على أنثى ولا لأنثى على ذكر، وليس لأبيض فضل على أسود، ولا لأسود على أبيض، وليس لعربي فضل على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي.
ثم بعد هذه الرتبة من المساواة، وهذا المستوى من الهوية التي منحها الله للإنسان، والتي تميزه عن غيره، تأتي كل هوية أخرى، ويأتي كل تميز آخر، وكل ما سيأتي تحت هذه الرتبة يجب أن يكون منسجما معها منضويا تحت ردائها.
الكل في سنن الله واحد، ولا ينتج أو يتخلف عن هذه الوحدة والرتبة أي تميز أو مكانة أو دور، وإنما التميز والمكانة والدور يتولد عما يقدم الإنسان لنفسه ومجتمعه والإنسانية كلها، ويتولد كذلك عن مقدار ما ينسجم ما يقدم مع سنن الله في كونه، وهداية الله للإنسان.
لقد خلقنا الله للتعارف والتعاون والتفاعل والعطاء، وإذ نتحدث عن الهوية، فإننا نتحدث عما هو في عمق الانسان، عمق عقله، ووجدانه، وخلقه، وفكره، ذلك المختزن في “القعر العميق” الذي يحقق له أكبر قدر من الاستقرار، والذي يتولد عنه الإحساس بالانتماء، والذي يؤثر في خيارات الانسان ويفتح له سبل التفاعل والعطاء. أي يجعله في أفضل حالات العطاء.
وهذه هي الهوية الثانية التي تصوغ الانسان في مجتمعه، والتي نبحث فيها وعنها، ونحاول ان نحدد مكوناتها.
وعلى خلاف الهوية الأولى المعبرة عن سنن اجتماعية أودعها الله في البشر، فإن هذه الهوية “مكتسبة”، يصنعها الإنسان في مسيرته التاريخية الاجتماعية، وينميها ويهذبها ويرسخها بما يتيح له بناء مجتمع إنساني فاعل ومبدع.
وإذا كان الهوية الأساسية للإنسان مستمدة من كونه “إنسان”، فإن هويته الثانية المتفرعة عن هذه مستمدة من كونه كائن اجتماعي مسؤول، أي أن التفاعل مع غيره سمة من سمات الإنسان، وبناء علاقات ومجتمعا وبيئة يعطي من خلالها ويتفاعل هو المعنى الحقيقي لقولنا إنه كائن اجتماعي، لذلك فإن هويته الثانية بعد الهوية الإنسانية هي تلك التي تتيح له هذا العطاء وتفتح له سبل التفاعل والبناء.
هذه هي الهوية التي نبحث فيها، ونعمل على تحديد عوامل تكونها ونموها، ونحن نفعل ذلك بهدف أن نحدد أفضل فضاء لعملنا وتفاعلنا، وكذلك لنحدد مسؤوليتنا تجاهها.
في علوم الطبيعة، علوم المادة، الحيوية وغير الحيوية، على اختلاف تنوعها، تكون الصفات الجوهرية صفات ثابتة هي التي تحدد هوية المادة محل البحث، أما في العلوم الإنسانية، التي تتعامل مع الانسان باعتباره كائن اجتماعي فإن الصفات الجوهرية التي تحدد هويته هي صفات مكتسبة تم اكتسابها عبر زمن ممتد حتى صارت ملاصقة للإنسان ومجتمعه، يعرف بها وتعرف به.
وإذ نثبت صفة “الاكتساب” للهوية، فإننا بذلك نقرر حقيقة أنها تمثل حالة حيوية تزداد فعالية ونموا وتجذرا، أو أنها تنحو في الاتجاه الآخر أي تتجه نحو التراجع والضعف والتفتت. لكنها على الوجهين تحتاج إلى زمن ممتد، وإلى ظروف ذاتية معينة، وإلى حاضنة وبيئة محيطة فاعلة.
إن اللغة، والعقيدة، والجغرافيا، والاستقرار، عوامل مجتمعة قادرة على إعطاء الانسان هوية خاصة به، وعلى توفير ظروف قيام بيئة اجتماعية توفر فرص الابداع والعطاء لهذا الانسان في إطار مجتمعه الخاص.
إن عطاءات الانسان وابداعاته الفنية والأدبية والفكرية والروحية أو لنقل كل عطاءاته الحضارية كلها تزهر في بيئة تتوفر فيها هذه العوامل، فيزيد الانسان بعطاءاته هذه قيمة وقوة وفعالية تلك العوامل، أي أن التفاعل يظهر على حقيقته بين الانسان وهويته، فتتيح له هذه الهوية فرص العطاء والتقدم، ويتيح بعطائه لهذه الهوية التجذر والجاذبية.
ولأن هذه العوامل بطبيعتها عوامل راسخة عنيدة مقاومة وقادرة على مواجهة التحدي، فهي بالتالي تسمح لنا أن نشير إليها باعتبارها الصفات الجوهرية النوعية لمعنى الهوية.
الغزو الأبيض للقارة الأمريكية استطاع أن يدمر ويقتلع هوية مجتمعات القارة الأمريكية المكتشفة، بتدمير تلك المجتمعات وإبادتها بشريا، وقد تمكن من ذلك عبر سلسة من الجرائم والمذابح لا نظير لها، كشفت عن أسوأ ما في الانسان حينما يفقد عناصر هويته الأولى والأساسية باعتباره إنسان. وأسوأ ما تلك المجتمعات حينما تنطلق من عقالها لا يوجهها إلا الجشع العنصري البغيض بعد أن تملك من القوة ما يستطيع بها أن يشبع ذلك الجشع.
الاستعمار الفرنسي الذي اخترع فكرة أن الجزائر قطعة من فرنسا، وجعلها المبرر لإلغاء هوية الشعب الجزائر لم يجد ما يساعده على تحقيق غايته إلا ان ينسف هوية هذا الشعب بالعمل على تغيير دينة ولغته باعتبارهما الأكثر رسوخا وتعبيرا عن هوية المجتمع بعد أن فات بفعل عوامل عدة فرصة إبادة هذا الشعب.
الاستعمار العنصري الأبيض لجنوب إفريقيا عمل جاهدا بالعنف والاستعباد والفصل العنصري كي يفرض هوية خاصة عنصرية بيضاء لمجتمع جنوب افريقيا وأن يغير الهوية الأصيلة لذلك المجتمع، لكنه عجز عن ذلك رغم كل ما فعله، ورغم كل الدعم الذي تلقاه من الغرب الاستعماري.
والاستعمار الصهيوني الاستيطاني في فلسطين المحتلة عمل ولا يزال عبر سياسة عنصرية ثابتة تتضمن الإرهاب والتهجير والطرد والاستيلاء على الأراضي والتمييز العنصري أن يدمر المجتمع الفلسطينية وأن يغير هويته.
لقد ارتبط النجاح الوحيد في تغيير هوية مجتمع وشعب بعملية الإبادة، إبادة الشعب إبادة حقيقية، قتل كل الناس، كل الهنود الحمر للسكان الحقيقيين لتلك البلاد، وخلاف هذا النجاح فإن كل المحاولات الأخرى رغم فظاعة ما تقوم به وتقترفه من جرائم، باءت بالفشل، وما بقي منها يقاوم هذا المصير فإن الفشل هو نهايته المحتومة مهما طال الزمن، فقد مضى عهد “الإبادة”، وما دام الانسان في مجتمعه موجود، فإن المقاومة مستمرة، وقدرة الهوية في التصدي لكل محاولات تفكيكها مؤكدة.
في مسار إنشاء الكيان الصهيوني وهو مسار أقامته ورعته قوى الاستعمار الغربي ومازالت، كانت سياسة تدمير وتفكيك الهوية الوطنية والقومية للفلسطينيين سياسة ثابتة: القتل والإرهاب، التهجير القسري، الاستيلاء على الأراضي وإقامة المستوطنات، العمل على اصطناع هوية لشتات اليهود المستقدمين الى فلسطين كي يصنعوا منهم شعب وأمة.
في عموم سياستهم تجاه اليهود يريدون أن يلغوا فعل التاريخ الحقيقي للمكون اليهودي، التاريخ المرتبط بمسارهم ومجتمعاتهم وعطاءاتهم في تلك المجتمعات، ويصطنعون مقابل ذلك كله تاريخا خاصا لهؤلاء، يقوم على “الدين العرقي السلالي”، ليجمعوه فيه ويريدون أن يعيدوا استنبات لغة موحدة لليهود.
ومن أجل تصنيع هذه الهوية فإنهم يزيفون قواعد علم الاجتماع حينما يخرجون اليهود من المسار التاريخي لتكًونِ وقيام المجتمعات فيجعلونهم خارج هذا المسار، وكثير من هذا المسار مسار ملتحم عضويا بالحضارة العربية الإسلامية وبالمجتمع العربي المسلم، بحيث يستطيعون هم وحدهم أن يتجاوزوا آلاف السنين ليصلوا ما انقطع من سالف تاريخ أولئك اليهود من بني إسرائيل، بحاضر ما تتم إقامته من مجتمع لليهود في فلسطين المحتلة، وفي هذا المسار فهم يزورون التاريخ، ويجهدون لاستنطاق الحجر والأثر عله يسعفهم فيما يريدون، بل إنهم يذهبون إلى أبعد من ذلك فيسرقون ويزيفون المنتج الاجتماعي الفلسطيني على تنوعه من الآداب إلى الأزياء إلى العادات، إلى أنماط الطعام بغية وضع حجر في تصنيع تلك الهوية المزيفة.
ومع كل هذا الجهد المكثف، ومع وقوف كل قوى الغرب الاستعماري والقوى الدولية العظمى إلى جانب هذا الهدف، ومع ما نراه راهنا من انتصارات يحققونها على غير صعيد لصالح هذا المشروع، ومن هوان وانصياع لأطراف عدة في النظام العربي، فإن الفشل هو المصير المحتوم.
والسبب الرئيس لمصير الفشل الذي ينتظر هذا المشروع الصهيوني أن الهوية راسخة عصية على الإزالة، وعلى التفتيت والتذويب، وأن صاحب هذه الهوية المستهدفة محاط من كل جانب بمن يحمل الهوية نفسها، فتكون هذه الإحاطة قوة حماية إضافية له.
هوية الشعب الفلسطيني هي التي تقاوم هوية الكيان والمشروع الاسرائيلي، وهي التي تنبت المقاومة المسلحة، والمقاومة غير المسلحة، وتغذيهما، وهي التي رسخت في أرض فلسطين المحتلة عام 1948، وجودا فلسطينيا مهما، فتجاوزت به محنة التهجير والمذابح، وباتت الآن الهوية الفلسطينية داخل مجتمع الكيان أحد عناوين فشل المشروع الصهيوني، وهي التي تعطي الأسرى الفلسطينيين في سجون العدو، والمهجرين واللاجئين الفلسطينيين في كل مكان القدرة على مواجهة كل الظروف الصعبة التي تحيط بهم والأمل في ان يستعيدوا كامل حقهم.
هي الهوية، هي الجوهر الاجتماعي المميز للإنسان في مجتمعه، وللمجتمع في محيطه الإقليمي والإنساني.
الهوية هي المكون الرئيسي لشخصية الإنسان، وذاكرته، التي تنتج في داخله حالة من الاستقرار والاطمئنان النفسي، وتمده بالقدرة على البذل والعطاء والتضحية، لذلك فإن من خصوصياتها أنها تختزن في داخلها اللغة والعقيدة والجغرافيا والتاريخ، أو لنقل إنها الناتج الحقيقي لتفاعل اللغة والعقيدة والجغرافيا والتاريخ، وعن تفاعل هذه العوامل تتولد العادات والتقاليد وأساليب الحياة وأنماطها، وحين ينتقص أي من هذه المكونات فإن خللا ما يصيب هوية الانسان/ المجتمع، فيتحول من حالة الاستقرار إلى حالة الحرج والقلق، ويبقى هكذا حتى يستعيد استقراره، أي يستعيد ما سلب منه، فيتجاوز النقص الذي طرأ عليه، فقلق الهوية بانتقاص أي من عناصرها أو العدوان عليه لا ينتج استقرارا في المجتمع وإنما يزيد من حالة هيجانه واضطرابه.
إن أكثر من يدرك هذه الأهمية والتأثير والوظيفة للهوية هم المهاجرون واللاجئون، الذين اضطرتهم ظروف طارئة ليتحولوا إلى هذه الحالة، وهم يعيشون في غربة حقيقية، وتنتقل هذه الحالة من جيل إلى آخر حتى يصل الأمر إلى أجيال قد انقطعت عن جذورها، عن لغتها، وعقائدها، وتاريخها، عن عاداتها وتقاليدها وقيمها، حين ذلك تكون قد أوجدت لنفسها هوية جديدة، لكنها بذلك لم تتحول إلى إضافة جديدة على تلك المجتمعات، وإنما باتت مجرد رقم إضافي، أي زيادة عددية في ذلك المجتمع.
والمجتمعات المتقدمة علميا واجتماعيا المجتمعات الواعية لهذه الحقيقة الاجتماعية باتت تدرك أن طمس هوية المهاجرين واللاجئين إليها، ذو أثر سلبي على هذه المجتمعات، لذلك راحت تدعو إلى الاهتمام بثقافة ولغة وقيم وعقائد هؤلاء المهاجرين باعتبار أن احتفاظ هؤلاء بدرجة من هذا المكون النفسي والثقافي والقيمي لهم يزيد من تحقيق توازنهم الذاتي في بيئتهم الجديدة، وبالتالي يزيد من غنى وثراء المجتمع الجديد الذي انتقلوا إليه.
إن هذا لا يعني ألا يندمج هؤلاء الجدد في مجتمعهم الجديد، ويتمثلوا هوية هذا المجتمع، لغته وتريخه وقيمه، وإنما يعني بدقة أن يضيفوا لمجتمعهم الجديد بتوازنهم وتفتحهم غنى وإيجابيات مجتمعاتهم التي قدموا منها.
هنا يبرز مفهوم استيعاب الجزء في إطار الكل، ولقد راعت الكثير من الدساتير هذه الحقيقة ـ التي باتت جزء من حقوق الانسان ومواثيقه الدولية ـ بتأكيدها على تعزيز خصائص الأقليات الثقافية واللغوية والروحية.
وإذا كان هذا صحيح ـ وهو صحيح بالتأكيد ـ فيما يتعلق بالمهاجرين واللاجئين الى مجتمعات جديدة، فكيف هو الأمر فيمن هم أصلاء في مجتمعاتهم يحملون هوية المجتمع نفسه، لكنهم يتميزون ببعض المزايا، ويحتفظون ببعض الخصائص الناجمة عن أصول ثقافية/ عرقية، أو دينية، أو جهوية. إن الأمر يصبح هنا ليس فقط ضرورة لتقدم ونمو المجتمع، وإنما قبل ذلك وبعده حق من حقوق المواطنة، يحرص المواطنون جميعا على توفيره وصيانته والتمكين منه.
في سوريا التي نتحدث عنها ونبحث فيها، فإن المكونات المختلفة للمجتمع السوري قديمة جدا، نقول ذلك دون أن نغفل أن هذا المجتمع تلقى هجرات وعمليات لجوء في مراحل مختلفة من تاريخه كان أحدثها في الربع الأول من القرن العشرين، وكانت هذه الهجرات على اختلاف ظروفها وتوقيتاتها تمثل شهادة لقدرة سوريا، بكل خصائصها اللغوية والثقافية والروحية والجغرافية والعرقية على أن تكون موئلا للقادمين إليها بحثا عن الأمن والاستقرار الذي افتقدوه في بلادهم.
وفي تدقيق المكون الثقافي والروحي واللغوي والعرقي السوري فإن عدد سكان سوريا “وفق المكتب المركزي للإحصاء في دمشق ـ المجموعة الإحصائية” للعام 2010 بلغ 20،619 مليون نسمة، ويرتفع هذا العدد إلى 23 مليون نسمة على الأقل مع حساب التزايد السكاني بمعدل نمو تقديري سنوي يبلغ 2،34%
ويشير تقرير وزارة الخارجية الامريكية للحريات الدينية إلى أن عدد المسلمين في سوريا على اختلاف مذاهبهم وطوائفهم يصل إلى 90% من إجمالي عدد السكان، وأن الباقي وهم 10% هم مسيحيون يتبع معظمهم الكنيسة الشرقية، أما اليهود فوجودهم ضئيل لا يمثل أي قدر معتبر من النسبة المئوية، حيث لا يزيد عددهم عن عدة الاف على أحسن تقدير، وتذهب تقديرات إلى أنهم باتوا يعدون بالمئات، وذلك بعد أن سمح لهم نظام الأسد بالمغادرة مطلع التسعينات من القرن الماضي.
وإذا كان مؤكدا أن جميع السوريين يتكلمون العربية، ويعتبرونها لغة التخاطب والتفاهم، ولو كانت لدى بعضهم لغته الخاصة، فإنه في إطار هذا التعداد السكاني تتجاوز نسبة من يصنف نفسه بأنه عربي في سوريا 90% من عدد سكان سوريا. فيما قد تصل نسبة الأكراد بصنفيهم (الذين كانوا مستوطنين سوريا منذ فترة طويلة، وأولئك الذي قدموا عقب هروبا من عنف السلطة الأتاتوركية بين عامي 1925 ـ 1935، وقدر باحثون عدد هؤلاء بنحو 25 ألف لاجئ أعطوا جميعا الجنسية السورية) إلى7%، وهناك أقليات عرقية من الأرمن والسريان والآشوريين والشركس والتركمان، وكل هؤلاء لا تصل نسبتهم مجتمعين إلى 3% من عدد سكان سوريا، ويتكلم هؤلاء الى جانب العربية وكل حسب عرقيته اللغات الكردية (على تعدد لهجاتها)، والآرامية، والسريانية، والأرمنية، والشركسية.
لقد ساهم هؤلاء جميعا في الحياة الاجتماعية والسياسية الثقافية السورية كل حسب الظرف والمرحلة التي وجد فيه، وفيما يختص بالمكون الكردي فإن القسم الأصيل القديم منه ـ وهو القسم الأكبر ـ لا يعرف لهم تميزا داخل المجتمع السوري لا على المستوى الحراك الاجتماعي والسياسي، ولا على مستوى العطاء الثقافي والعلمي والروحي، وهم مندمجون بالمصاهرة والسكن والتملك مع العنصر العربي، وجميعهم تقريبا ينتمون إلى الإسلام. وقد شارك هؤلاء دون استثناء في الهيئات العسكرية والدينية والأكاديمية والسياسية والحزبية في سوريا، وكان منهم أعلام وعلماء في اللغة العربية، وفي الدين الإسلامي، وفي الأدب، وفي الحياة العسكرية، وفي الحكومات السياسية، وفي قيادات الجيش.
ساهموا دون أي تميز في الانقلابات العسكرية، وتسلموا رئاسة حكومات، وشاركوا في الأحزاب والحركات القومية والوطنية والماركسية” الناصرية، والبعثية، والشيوعي، أحزاب الوطنية في مرحلة ما قبل الوحدة”.
بصورة إجمالية فقد صنع هؤلاء مع غيرهم من أبناء سوريا الحياة السورية في كل مراحلها، أي أن أنماط السلوك التي وسمت الحياة في سوريا صنعها السوريون جميعا،
وإذا كانت اللغة والدين والتاريخ المشترك، وأنماط السلوك هي المحددات الرئيسية لهوية مجتمع ما، فإن الأكراد ينتمون بشكل جلي إلى هوية المجتمع السوري وهي هوية “عربية إسلامية” لا لبس فيها.
وإذا كان الأشياء تعرف بأضدادها، فالسؤال الذي يطرح هنا، وإذا أردنا أن نبعد اللغة محدد لهذه الهوية لوجود جماعات لها لغة خاصة، وإذا أردنا أن نبعد الدين الإسلامي كمحدد للهوية لوجود من يتبع الدين المسيحي أو أديان وعقائد أخرى، وإذا كنا نرى أن هذه الجماعات كان وجودها في المراحل المختلفة وجود مستقل أو مميز، بمعنى أنه لم يستطع ان يقيم وحدة نسيج موحد لهذه المجتمع مع المكونات الأخرى، فما هي هوية هذا “المجتمع السوري”؟!
الأخطار على الهوية الوطنية
في الأوضاع الطبيعية لا يمثل وجود أقليات في المجتمع ـ أي مجتمع ـ خطرا حقيقيا على الهوية الوطنية، بل على العكس من ذلك فإن وجود أقليات عرقية ودينية وثقافية يمثل مظاهر قوة وغنى للهوية الوطنية، ودليلا على أن هذه الهوية تتمتع بالخصائص الإنسانية التي تتيح وجود هذه الأقليات، وتتيح تفاعلها مع مكونات المجتمع المختلفة، وكلما كان وجود هذه الأقليات راسخ في المجتمع كلما كان دور هذه الأقليات إيجابي.
لكن في الأوضاع غير الطبيعية قد يمثل وجود الأقليات خطرا على البنية الاجتماعية الوطنية وعلى الهوية الوطنية ومن المهم أن نقف على الظروف والأوضاع التي من شأنها أن قد تحول وجود الأقليات إلى وجود خطر:
1ـ أول هذه الظروف وأخطرها يتمثل بوجود سلطة سياسية في المجتمع تعتبر نفسها أو تصف نفسها بأنها “حامية للأقليات”، أو أن هذه من أولى وظائفها، ولقد أعطت سلطة الاحتلال الفرنسي لسوريا نفسها هذا الدور، وعملت بشكل مبكر على إقامة دويلات طائفية في سوريا، ولما فشل هذا المسعى بوعي السوريين جميعهم طبقت هذه السياسة على الجيش الذي اصطنعته لنفسها من أبناء البلد والبلدان التي تحتلها تحت مسمى “جيش المشرق” وتم بناء هذه القوة العسكرية على أساس طائفي وعرقي (علوي شركسي كردي درزي). ولم يكن هذا التوجه في السياسة الفرنسية خاص بسوريا وإنما نهج استعماري طبقته في كل الدول التي احتلتها، لكن الوعي الوطني، وعي أبناء الوطن أقليته وأكثريته لهذا النهج أمكن من إبطال مفاعيله، وإجهاضه بسرعة.
وإذا كان خطر وجود المحتل الفرنسي في سوريا خطر عابر وبالتالي فإن سياسته في حماية الأقليات لم تعد تعني شيئا، فإن هذه السياسية وجدت صداها في نظام الحكم الأسدي الذي صار وصفه بأنه حامي الأقليات مصدر اعتزاز له وميزة يشير إليها، وبات وصفا معتمدا من قوى النظام العالمي، شرقه وغربه، ولم يتخذ النظام الأسدي هذه الصفة إلا لأن حقيقة هذا النظام “طائفية أقلاوية”، ولهذه الطبيعة فإنه نظام استبدادي قمعي.
هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الامريكية السابقة كانت السباقة ومنذ العام 2011 إلى الحديث عن دور الأسد تجاه الأقليات وكيف أنها تلتف حوله، وفي مارس 2012، وفي أكتوبر 2012 ولعدة مرات بعد ذلك تحدث وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف عن خطورة وجود نظام سني في دمشق حال سقوط نظام الأسد مؤكدا عزم روسيا على منع قيام مثل هذا النظام، وعن قلقه على مصير الأقليات المسيحية والأقليات الأخرى كالأكراد والعلويين والدروز، كما تحدث عن نظرة موسكو الى الأسد باعتباره ضامنا وحاميا لوجود الأقليات.
2ـ وثاني هذه الظروف وجود مشاريع لأقليات داخل الوطن طامحة لإقامة كيان مستقل لها، وهذا لا يتأتى إلا بوجود دعم إقليمي، يستغل ويوظف هذا الطموح، وقد تمثل هذا الخطر في سوريا بالمشروع الكردي الانفصالي، الذي يلقى مثل هذا الدعم من الكيان الصهيوني والولايات المتحدة، ويلقى تفهما واستعدادا ضمنا من روسيا. ويعتبر القائمون على هذا المشروع وجود مثل هذا الدعم بمثابة الفرصة التاريخية لمشروعهم، لذلك يعملون على تعزيزه، وتسليط الضوء عليه، فالحضور الإسرائيلي واضح ومعزز في كل الفعاليات والتحركات والنشاطات التي يقوم بها هؤلاء في كل مكان.
وإذا كانت واشنطن تبرر دعمها للقوات الكردية الانفصالية التي تعمل تحت مسمى قسد ـ وهي امتداد لحزب العمال الكردستاني التركي ـ وذلك بدعوى محاربة الإرهاب، وهي دعوى كاذبة، فإن الدعم الصهيوني والإسرائيلي للمشروع الانفصالي الكردي قديم، ومستمر، وهو سابق على تمدد هذا المشروع إلى سوريا، حيث ظهر الدعم والوجود الإسرائيلي موثقا الى جانب المشروع الكردي في العراق منذ الخمسينات، وبتعاون مع شاه إيران.
إن وجود مثل هذه الحالة يمثل خطراً حقيقياً على الهوية الوطنية، لأنه قائم بالأصل على تفتيت الهوية الوطنية واستبدالها بهوية “أقلية اثنية” تجزئ الوحدة الوطنية، وتقسم الجغرافيا الوطنية، على أحسن تقدير.
3ـ وثالث هذه المخاطر تتمثل في المشروع الإيراني في سوريا، وهو مشروع طائفي عرقي، شديد الخطورة، أساسه فيما يتعلق بسوريا هدم الطبيعة الدينية الاسمية للمجتمع السوري، وهدم كل البنى التاريخية والثقافية والروحية المتصلة بهذه الطبيعة، وهذا يحتاج قبل كل شيء الى إعادة صياغة هوية المجتمع السوري بما يتفق وهذا التوجه “الشيعي / الفارسي”، الذي تمثله نظرية “ولاية الفقيه”.
ونحن هنا لسنا أمام أو في مواجهة المذهب الشيعي الذي لا وجود مؤثر له في سوريا، وإنما في مواجهة، فكر عنصري يستتر بالمذهبية الشيعية من خلال نظرية تجعل المسلمين السنة ـ الذين يمثلون في سوريا نحوا من تسعين بالمائة من مسلميها ـ هدفا لتغيير انتمائهم “الديني المذهبي”.
إن عناصر الهوية السورية الثلاثة: اللغة والدين والتاريخ مستهدفين في هذا التوجه الذي تمثله نظرية ولاية الفقيه في لونها الفارسي. الذي يتابع ما يجري الآن في سوريا سيجد شواهد لا تحصى على هذا الاستهداف، وعلى حقيقة هذا الخطر.
4ـ لا شك بأن الاستبداد والظلم الاجتماعي يمثل تهديدا للهوية الوطنية، لكنه من حيث الفاعلية هو أدنى عوامل التأثير والفعل في الهوية الوطنية، لأن الاستبداد والظلم الاجتماعي إن لم يكن قائما على ” الطائفية والاثنية” فإنه يصيب بشروره الوطن كله، كل أبناء الوطن، وكل مناطق الوطن، وكل فعاليات الوطن الثقافية والفنية والأدبية والروحية، لذلك فإن الوعي الوطني قادر على تشكيل جبهة مقاومة واحدة تتصدى لهذا النوع من الاستبداد والظلم.
ومن الطبيعي في مثل هذه الحالة أن يتفاوت الشعور بالاستبداد والظلم من مكون اجتماعي وطني الى مكون آخر، ومن منطقة جغرافية الى منطقة أخرى، وتتحكم في هذا التفاوت عوامل عديدة لكن الوعي الوطني العام من شأنه أن يتجاوز هذا التفاوت وينمي حالة مقاومة وطنية شاملة لنظام يحمل خاصتي الاستبداد والظلم الاجتماعي.
والأمر هنا يشبه على نحو ما التصدي الوطني للسياسات الاستعمارية التي أرادت أن تفتت الوحدة الوطنية للسوريين وتقيم تناقضات مزعومة بين أبناء الوطن الواحدة بإغراء الامتيازات والمصالح، لكن ذلك انهار أمام الوعي الوطني الذي تبدى لدى السوريين جميعا بكل تكويناتهم وفي كل مناطقهم.
فرص البحث عن هوية سورية جديدة
كل تلك المخاطر التي أشرنا اليها موجودة ماثلة في المجتمع السوري الراهن، غذتها ونمتها الحقبة السدية المستمرة، وفي وجود هذه المخاطر هل نحن مدعوون للبحث عن “هوية سورية جديدة تجمع السوريين على اختلاف أديانهم وطوائفهم وقومياتهم وايديولوجياتهم” كما بات البعض يطرح؟
إن المشروع الانفصالي الكردي هو المهدد الرئيسي لوحدة المجتمع السوري ولوحدة الوطن السوري، وهذا المشروع يقوم على خلق ” هوية كردية” مستقلة عما سواها، مستقلة لغة وتاريخا وقيما وجغرافيا، وهي في إطار مبتغاها تعمل على تحطيم كل العناصر المشتركة مع مكونات الشعب السوري الأخرى، بل هي تعمل في إطار المشروع الكردي الكبير على إعادة تقسيم المنطقة كلها، وتقسيم دولها الأربعة.
وحين يتحدث قادة هذا المشروع عن حقوق الأقليات الأخرى فهذا حديث يأتي في إطار تزوير المشكلة التي تطرحونها بتصوير أنها ليست خاصة بهم وأنها تمس مكونات عديدة أخرى.
والذي يبحث ويدعو إلى بناء هوية سورية جديدة جامعة عليه أن يطرح سؤال أولي قبل أن يدقق في معنى الهوية، والسؤال المحدد: هل مما يحفظ وحدة سوريا اجتماعيا وجغرافيا وسياسيا أن نخترع لها هوية جديدة؟ وهل سيقبل المشروع الانفصالي الكردي بهذه الهوية ويتخلى عن هدفه في إقامة كيان كردي منفصل مباشرة أو على مراحل؟ ثم هل يقبل حزب العمال الكردستاني، أو الكيان الصهيوني، أو الولايات المتحدة، أن تتخلى قسد وتنظيمها العسكري الرئيس “بي يي دي” عن مشروعها الانفصالي من أجل الحفاظ على وحدة سوريا!
وحين نتمكن من الإجابة الصحيحة والصريحة على هذه التساؤلات يأتي السؤال الحاسم الخاص بالهوية: هل يمكن البحث عن هوية! وهل الهوية ثوب نلبسه ثم نخلعه لنلبس غيره!
لا يمكن للسوريين أن يبحثوا عن هوية جديدة لوطنهم ولوجودهم، لكن عليهم أن يستعيدوا الهوية التي شوهها النظام القائم، وشوهتها سياساته وما تخلف عن هذه السياسات من تشوه في الحياة السياسية والاجتماعية السورية.
على السوريين أن يستعيدوا المعنى الحقيقي للمواطنة وهو المعنى الذي مسح لكل الأقليات العرقية والدينية والمذهبية أن تبقى في سوريا وأن تأتي إليها، وأن تستقر فيها، وأن تمارس فيها كامل حريتها.
على السوريين أن يبنوا بأنفسهم نظاما سياسيا يصون المعنى الحقيقي للمواطنة ولكرامة المواطن وحقوقه، فيكون جميع المواطنين أمامه سواء، وتكون ثروات الوطن كلها لرفاه المواطنين جميعهم.
على السوريين أن يعيدوا لوطنهم معنى أنه موئل الناس المظلومين في محيطه الإقليمي، يلجؤون إليه بحثا عن الكرامة والمساواة، فيجدون فيه ما فقدوه في بلدانهم، دون أن يفقدوا شيئا من خصائصهم وثقافاتهم وعقائدهم.
على السوريين أن يعيدوا لوطنهم معنى أنه قلب العروبة النابض ” لغة وعقيدة وثقافة وأدبا وحضارة” الملتزم تجاه أمته العربية وقضاياها، لا يثنيه عن ذلك ما مر به من محن، ولا ما تمر به الأمة من ضعف.