أصبح من المألوف، في السنوات القليلة الماضية، تداول الأخبار عن محاكمة أوروبية يخضع لها مقاتل سابق في الجيش السوري الحر أو في أحد الفصائل الإسلامية التي عملت في البلاد، بتهمة ارتكاب جرائم حرب أو بالإرهاب. ولهذا سياقه. فمع هجرة مئات آلاف الرجال من مناطق الثورة إلى الغرب، كان طبيعياً أن يوجد بينهم من شارك في القتال ثم تركه لسبب أو لآخر. وبالنظر إلى تسيّب المعلومات وسهولة الوصول إليها من المصادر المفتوحة، ووجود بعض المتصيدين أو الباحثين عن العدالة؛ يتزايد عدد المقاتلين السابقين الذين يواجهون الاستدعاء إلى تحقيق أوروبي لمساءلتهم عن صور يظهرون فيها مسلحين فوق جثث، أو لمجرد انتسابهم، في وقت ما، إلى جماعة مصنفة كتنظيم إرهابي على نطاق واسع، كجبهة النصرة، أو في بلد إقامتهم الحالي، كحركة أحرار الشام.
عام 2012، عندما كان بعض الناشطين الحقوقيين أو المعارضين المخضرمين أو الشبان الحالمين ببلد أفضل؛ ينبهون المجموعات المسلحة الثورية المتكاثرة إلى ضرورة الالتزام بقواعد الحرب كما حددتها القوانين الدولية؛ كانوا يواجَهون بسخرية تزايدت عبر السنين مع تنامي قوة هذه المجموعات وسيطرتها على الأرض، من جهة، وتصاعد وحشية النظام وعجز المجتمع الدولي عن وضع حد لانتهاكاته الجسيمة، من جهة أخرى. مما رسا فوق قناعة شعبية مستقرة، سورياً وعربياً وإسلامياً، بأن المعايير كذبة والضوابط خدعة، وأن حقوق الإنسان جزء تجميلي من البازار السياسي. فيما لم تُزِد المحاسبات الحالية هذه القناعة إلا رسوخاً؛ وإلا فلماذا تجري ضد مقاتلي الثورة وتتجاهل شبّيحة النظام؟ كما يقولون.
لا وقت لدى هؤلاء، ولا «خلق»، لفهم تعقيدات العالم. فمن جهة أولى إن أعداد المعارضين اللاجئين إلى الغرب أكبر من عدد المؤيدين، الذين اكتفت غالبيتهم برفع العلم الرسمي الأحمر وصور الأسد في المناسبات دون أن تتورط في قتال. ومن جهة ثانية تجري الآن محاكمة بعض المتهمين بارتكاب انتهاكات يوم كانوا في صف النظام، بمجرد توافر أدلة مقنعة يعمل على جمعها حقوقيون وصحفيون استقصائيون ومطارِدون مخلصون. ومن جهة ثالثة فإنه من الواضح أن الكتلة الأكبر من مجرمي النظام، عدداً وأهمية، ما زالت تقيم في كنفه المستعصي على العدالة، حتى حين.
ثم إن النظر إلى حقوق الإنسان وقوانين الحرب على أنها موضوع مقايضة، نلتزم بها إن استطعتم إكراه الطرف الآخر عليها؛ يستبطن عدم الإيمان بها أصلاً، أو ضعفه على أقل تقدير. مما يناقض الأهداف المرفوعة للثورة، والتي ستظل معلَنة ومُلزمة مهما جرى في «الباطن» وعلى الأرض من انتهاكات. إذ لا يمكن لأي معارضة ستجلس إلى أي طاولة أن تطالب بغير دولة القانون والعدل والمساواة. وهذا قيد مفيد مهما بلغت درجات شكليته وتهافته العملي وامتدت.
كما أن انتقال المساءلة، رمزياً، من محاسبة أفراد لاجئين معزولين إلى فصيل عامل هو أمر لم ولن يمر دون أثر. ونقصد هنا «أحرار الشرقية» وقائده أبا حاتم شقرا اللذين شملتهما العقوبات الأميركية منذ أشهر. وقد اتضح من ردات الفعل على القرار، وتطوع الكثيرين في المعارضة للتوسط و«إيضاح الموقف» للأمريكيين، أن خطوة مبدئية كهذه لا يُنظر إليها باستخفاف كما يجري في مناطق الأسد، وكما كان يجري في مناطق المعارضة بدعم من المزاج الذي يمجّد المروق عن النظام الدولي، والذي عززته داعش وجبهة النصرة. فاليوم يبدو سعي هيئة تحرير الشام، وريثة الجبهة، إلى الخروج من «التصنيف»، أبرز همومها ودافع تحولاتها، بينما يشاهد قادتها طائرات التحالف الدولي تطول حراس الدين، الفرع الرسمي للقاعدة.
لا شك أن المتضرر الأكبر من فوضى سلاح الثورة هو الثورة نفسها. غير أن هذا الحديث حمّال أوجه كما يقال. ففي حين استغل النظام وحلفاؤه الدوليون انتهاكات الثوار لتبرير مواقفهم؛ لا يبدو أن هذه المواقف كانت ستتغير بعدم وجود هذه الانتهاكات. لكن على المستوى الداخلي يبدو مؤكداً أن محاججات المعارضين للموالين، والطموح إلى اجتذاب ما يسمى بالتيار الثالث وإحراجه أخلاقياً؛ كانت أقوى مع حد أدنى من الجرائم التي مكّنت الكثيرين من المقارنة بين «الطرفين».
كما أن في عمق هذا النقاش عن الضوابط سجالاً جذرياً بين المؤمنين بالحق وعبّاد القوة. وقد ثبت أن الأخيرين ليسوا قليلي العدد إطلاقاً في صفوف الثورة، لا سيما بعد أن هاجر جيلها الأول، ابن شعاراتها العامة، وصار بعضه يراجع حملها السلاح من الأساس، ما دام قد أفضى إلى ما نراه.
خروجاً من نقاشات ليس وراءها طائل فإن تسلح الثورة أمر واقع الآن، فضلاً عن كونه حتمياً بالأصل في نظر أغلبية ساحقة من أبنائها ومن المراقبين الخارجيين. لكن ما لا يمكن التساهل معه هو ترافق التسلح بكل هذا القدر من العشوائية والظلم والسجون والطائفية والاقتتال الداخلي. وإذا كانت الجملة السابقة مثار سخرية المتنمرين لأعوام، لأنها كانت تصدر عن «منظّرين» عزّل وطلاب جامعات بحقائب ظهر، فإن تعزيزها بالعقوبة هو ما منحها الهيبة الآن. مؤسف أن هذه القوة تتوجّه نحو أبناء الثورة ومقاتليها، لكن يبدو أن هذا هو الطريق الممكن لتفهم الفصائل المعتدة بأنفسها، وقادتها المستخفّون بأقوامهم، أن للعدالة أنياباً وللقوانين شرطة.
وهو، بالضبط، الدرس الذي سيفهمه بشار الأسد وكبار مجرميه وقاعدته المقاتلة، بعد أن ينهار عرينه المنخور.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا