تتجه إيران بخطى ثابتة نحو التحول دولة تملك سلاحاً نووياً في القبو، وهو سيناريو مرت به دول أخرى مثل الهند وباكستان وكوريا الشمالية التي كانت تملك كل مكوّنات السلاح النووي، وكان المجتمع الدولي مدركاً ذلك، الى أن قررت كل من هذه الدول، لأسبابها الخاصة وفي الظروف الدولية المناسبة، أن تعلن نفسها قوة نووية بعد إجراء تجربة تفجير نووي تحت الأرض رصدته كل القوى الكبرى. ومنذ تلك اللحظة، عمل المجتمع الدولي على التأقلم مع الواقع الجديد، المتمثل بانضمام أعضاء جدد في مناطق نزاع مرتفع الحدة الى النادي النووي العالمي. ورغم العقوبات والتهديدات من عواقب وخيمة نتيجة امتلاك هذا السلاح المدمّر، إلا أن قيادات هذه الدول آثرت امتلاكه تلبية لضغوط الحركات الدينية والقومية الداخلية، ولامتلاك قدرة ردع ضد القوى العظمى، ولممارسة سياسة الابتزاز السياسي والدبلوماسي عند الحاجة، كما تفعل كوريا الشمالية.
بالرغم من إعلان القيادات الإيرانية أن أهداف برنامجها النووي سلمية، إلا أن تطور الحوادث خلال السنوات الماضية وحتى تاريخه، يدل الى نيات عسكرية مبيّتة. أهم دلالات ذلك عدم سماح السلطات الإيرانية لمفتشي الوكالة الدولية للطاقة النووية بالدخول الى منشآت عسكرية، عُثر فيها على آثار لليورانيوم. كما أن تخصيب اليورانيوم الى ما فوق مستوى 20% لا يخدم أي برامج سلمية، وتصبح غاياته عسكرية فقط، وتقصير المسافة الزمنية للوصول الى 96%، وهو المستوى المطلوب لبناء سلاح نووي. وبالنسبة الى العديد من الخبراء، فإن بناء إيران ترسانة كبيرة من الصواريخ البالستية، وإصرارها على المحافظة عليها، هو دليل آخر الى سعيها لامتلاك سلاح نووي، لأن استخدامات هذه الصواريخ محدودة تكتيكياً وأهدافها استراتيجية ومرتبطة برؤوس حربية غير تقليدية لرفع منسوب الردع ضد خصومها.
الاستراتيجية الإيرانية الحالية قائمة على التقدم والتراجع التكتيكيين في محادثاتها مع القوى الكبرى، لتحقيق هدف واحد وهو تأمين الوقت الكافي لتخصيب ما يكفي من اليورانيوم لتصنيع سلاح نووي واحد على الأقل، ما سيجعل أميركا والقوى الأوروبية أكثر قابلية لتقديم التنازلات، ويتحول هدف المفاوضات حينها من وقف تخصيب اليورانيوم الى منع طهران من تصنيع السلاح واختباره، أي أن تمتلك ما يسمى بالقنبلة في القبو. واقع كهذا ليس بالجديد على المجتمع الدولي الذي اختبره مع الهند وباكستان وكوريا الشمالية سابقاً، ولم تفلح المغريات والضغوط في نهاية الأمر في ثني أي منها عن تصنيع السلاح واختباره. حتى في حالة إسرائيل، فهي تمتلك عشرات القنابل النووية، ولكن من دون الاعتراف بها أو بنفسها قوة نووية تمارس ما يسمى بالغموض النووي، وهو ليس حقاً بغموض فعلي، بل بتجاهل دولي متعمد، هدفه منع قوى إقليمية أخرى من السعي الى اقتناء سلاح نووي، ما سيؤدي الى سباق تسلح نووي خطير في الشرق الأوسط.
ماذا يمكن أن يفعل المجتمع الدولي إذا وصلت إيران الى مرادها بأن تمتلك قنبلة نووية في القبو؟ لا يبدو أن هناك تحضيراً فعلياً من الجانب الأميركي والأوروبي لعمل عسكري. على الأرجح سيكون هناك مزيد من العقوبات، لكن من طرف واحد وليس ضمن قرارات مجلس الأمن. فلا الصين ولا روسيا بصدد فرض أي عقوبات على إيران، في ظل سعيهما الى تعزيز العلاقات معها وتدهور علاقاتهما مع واشنطن. أما إسرائيل فتبقى هي الطرف الأكثر تضرراً من هذا الواقع، بحسب تقييم العديد من خبرائها الذين يعتقدون أن امتلاك أي من أعدائها سلاحاً نووياً قد يخيف العديد من اليهود في إسرائيل وخارجها، ويخفف من حماستهم للهجرة اليها أو العيش فيها خوفاً من حرب نووية. كما أن ذلك سينفي تفوّق إسرائيل العسكري في المنطقة، وقد يضطرها لإعلان نفسها دولة نووية لتطبق مبادئ الردع النووي في تعاملها مع إيران، بحيث ستعتبر أن إطلاق أي صواريخ بالستية إيرانية نحوها سيحمل إمكان أن يكون مزوداً برأس حربي نووي، ما يستدعي رداً فورياً بضربة نووية مضادة ضد إيران. فهذا ما قامت به باكستان فور إقدام الهند على اختبار أول رأس نووي، إذ عمدت الى اختبار سلاحها النووي وإعلان نفسها قوة نووية.
خيارات إسرائيل محدودة جداً، وهما اثنان لا ثالث لهما: إما التعايش مع إيران كقوة نووية ضمن معادلة الردع النووي، أو شن ضربات من الجو والبحر لتدمير أكبر عدد ممكن من المنشآت النووية، بالتزامن مع هجمات سيبرانية لضرب البنية التحتية للبرنامج النووي. الخيار الأول ممكن تطبيقه من دون أن يمنع إسرائيل من الاستمرار بمهاجمة أهداف لـ”حزب الله” أو الحرس الثوري في لبنان أو سوريا. فالسلاح النووي الإيراني هو لحماية إيران ونظامها الذي يدرك أن أي مواجهة نووية مع إسرائيل ستؤدي لزوال إيران عن الوجود. فإسرائيل تملك غواصات مسلحة بصواريخ نووية توفر لها القدرة على توجيه ضربة ثانية نووية في حال تعرضها لهجوم نووي من إيران أو غيرها. لذلك فإن السلاح النووي الإيراني سيرفع من منسوب الردع لإيران، ولكن لن يستفيد منه أي من عملائها في المنطقة. بل قد تجد إسرائيل نفسها مضطرة لإزالة القوى التابعة لإيران عن حدودها الشمالية لمنع انتقال أي سلاح نووي الى هذه الميليشيات.
أما خيار العمل العسكري لتدمير المنشآت النووية، فهو يعني دخول إسرائيل في مواجهة مفتوحة مع إيران، ستشعل جبهاتها الشمالية والجنوبية. هذا السيناريو سيدفع إسرائيل لاجتياح مناطق في جنوب لبنان وسوريا، وربما قطاع غزة، ولتبادل القصف بالصواريخ البالستية والجوالة مع إيران مباشرة، ولمواجهات بحرية بين الطرفين في مياه الخليج والبحر الأحمر. لا تستطيع إسرائيل تحمل حرب كهذه لفترة طويلة، ولن تتمكن أميركا من تجنّب الدخول فيها لنجدة حليفها الإقليمي الأول والأهم. لا أحد يستطيع أن يتنبأ بشكل مواجهة كهذه وعواقبها، وما إن كانت ستبقى محدودة وبين طرفين أم ستتوسع لتشمل دولاً أخرى. كما لا يمكن معرفة كيف ومتى ستنتهي هذه الحرب، وهل ستزيل برنامج إيران النووي كلياً أم تؤخره فقط لبضع سنوات. شيء واحد أكيد هو أنها ستخلّف أضراراً هائلة وخسائر بشرية كبيرة، ستكون آثارها كارثية على اقتصاد المنطقة والعالم.
لحظة الحقيقة بالنسبة الى إيران وإسرائيل وأميركا وكل القوى الكبرى والإقليمية تقترب، بخاصة مع انسداد أفق الحلول مع طهران، وعدم إحراز أي تقدم في محادثات فيينا. لذلك تسعى دول إقليمية مؤثرة مثل الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية لفتح أقنية حوار مع طهران، بهدف تخفيف حدة التوتر معها وتشجيعها على الوصول الى اتفاق نووي جديد يزيل عوامل تفجير الوضع والانجرار نحو حرب مدمرة. لكن الكرة تبقى في نهاية المطاف في زاوية إيران التي ستحدد خطواتها المقبلة مسار الصراع في المنطقة.
المصدر: النهار العربي