تقدّم تصريحات مسؤولين أكراد خدمات مجانية لطرفين متخاصمين (النظام السوري وتركيا)، من دون أي رسالة إلى الداخل الكردي بشكل خاص، والسوري بشكل عام، توحي بقرب حل شامل للصراع في سورية، أو حتى في مناطقهم على أقل تقدير، فالأكراد إما تحت عبء الحرب، أو الاستسلام للنظام السوري، فمن حديثين على مستويين مختلفين، أحدهما للقيادي المؤسس في حزب العمال الكردستاني، جميل بايق، في “النهار العربي” نهاية الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول)، والآخر مع قناة روسيا اليوم، بداية نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي، لعضو الهيئة الرئاسية المشتركة لحزب الاتحاد الديمقراطي في سورية، ألدار خليل، يمكن استخلاص أنهما يعبران عن تطابق الرأي بينهما، سواء لجهة الانفتاح وعمق العلاقة مع النظام، أو لجهة الحل للمسألة الكردية من بوابة الحكم الذاتي الذي طالب به الأول، وشرحه الثاني مفصلاً.
وتأتي التصريحات في موقع جيد للنظام السوري، فهي نداء له أنه حان الوقت أن يستعيد مكانته، ويرفع علمه في مناطق الإدارة الذاتية، لأنّه الوحيد القادر على حمايتها من أي تهديدٍ خارجي، وهو اعترافٌ ضمني يقدم للنظام بأنّ الرهان على الحماية الأميركية للقوات الكردية الحليفة لهم مشكوكٌ به حالياً ومستقبلاً. وهي تخدم تركيا، لأنها تصادق على كل ما تتهم به القوات الكردية في سورية من تبعيتها لأجندة حزب العمال الكردستاني المصنف “إرهابياً” ومصالحه، وبالتالي مشروعية حربها وتدخلها واقتحام قواتها لعمق الأراضي السورية، وفق ما تنص عليه اتفاقية أضنة الأمنية السرية الموقعة في عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد، عام 1998، حماية لأمنها ومصالحها.
والحديث عن شروط استباقية من خليل للحوار مع نظام الأسد يأتي من باب إنعاش التفاعل الإعلامي ليس أكثر، لأنه حديث يستبق موافقة النظام على حوارهم بوصفهم طرفاً ثالثاً في عملية حلّ الصراع في سورية، في وقتٍ ينكر فيه النظام وجود طرف ثانٍ معارض له، على الرغم من القرارات الأممية التي تمنح وفد هيئة التفاوض لقوى الثورة والمعارضة السورية هذه الصفة، وقد أرغم على الجلوس معها طرفاً مساوياً له في اجتماعات اللجنة الدستورية في جنيف، أي أنّ النظام الذي يرفض التعاطي مع قضايا دستورية تحدّد شكل الدولة تحت الضغط الدولي لن تعنيه تصريحات ورغبات في الحوار معه مقترنة بشروط ليعلن موافقته عليها.
وعلى الرغم من تدعيم الشروط بمغريات حيوية للنظام بفض الاتفاقات الموقعة مع القوى الغربية بشكل تدريجي، وهو ما يمكن أن يحقق مطالب وزير خارجية روسيا، سيرغي لافروف، التي أعلنها في 3 يوليو/ تموز الماضي “في إبداء استقلالية الأكراد وبدء الحوار مع دمشق” مع شرط يوضح ما قاله بايق، وهو مستمد من قوانين النظام (القانون 107) الموجود فعلياً، وتطوير بسيط يرقيه من قانون الإدارة المحلية إلى قانون اللامركزية يقرّ ضمناً الحكم الذاتي لمناطقهم، إلّا أنّ النظام لا يمكن أن يفهمها غير كونها رسائل تستعجل الحل الاستسلامي له، مقابل الحرب التي تلوّح بها تركيا، والتي تخوّف منها الأكراد، وهي مخاوف مشروعة لـ”قوات سورية الديمقراطية” بالقياس مع تجاربها السابقة، لكنّ اللجوء إلى تخويف النظام منها أسلوب مكشوف ومحفوف بالمخاطر، لم يحدُث أن تعامل معه في عفرين 2018 و في رأس العين (سري كانيه في التسمية) 2019.
لم تنفع نداءات القادة الأكراد سابقاً للنظام السوري إلى أن يكون طرفاً في حرب مع القوات التركية بشكل مباشر، ومن المفيد التذكير لمن يراهن على النظام حليفاً له ضد تركيا أنّ “الخارجية التركية أعلنت أنّها أبلغت دمشق ببيان خطي عن تفاصيل عمليتها في عفرين قبل الشروع بها”، ولم يغير نفي دمشق آنذاك هذا الأمر أي نتيجةٍ على الأرض، أي لم يجعل النظام يدافع عن مدينة سورية تتعرّض لهجوم خارجي كما يدّعي، ولا أن يقف مع حلفائه من الأكراد، فخضعت فعلياً عفرين للسيطرة التركية، وبعدها سري كانيه على الطريقة ذاتها، ومن دون أن ننسى أن تآكل حصة القوات الكردية في دير الزور كان نتيجة العملية التي نفذها النظام مع القوات الروسية غرب الفرات، أي أن الدروس السابقة التي لقنها نظام الأسد للقيادات الكردية لم تعلمهم أنّ النظام لن ينفع معه أي استدراج عاطفي له، سواء كانت النداءات من غير شروط أو معها.
اختيار جبهات المعارك للنظام السوري لا يخضع لمنطق العواطف أو الحسابات السورية، هو عملية ممنهجة تديرها قوى دولية وإقليمية، وتخضع لتوازنات المصالح المرحلية والمستقبلية لكلّ القوى المتصارعة على الأرض، إضافة إلى النظام، كما أن شن تركيا أي عملية عسكرية مرهونٌ أيضاً بحسابات دقيقة لمزاج الداخل التركي وصورة النظام الحاكم، وواقع انزياحات جماهيريته (مع أو ضد) من جهة، ومن جهة مقابلة لطبيعة التوافقات التركية – الأميركية، وكذلك التركية – الروسية، وأيضاً الروسية – الأميركية، حيث تثبت سنوات الصراع أن كل معركةٍ جرت في الداخل السوري كان حاصلها محسوماً مسبقاً وفق اتفاقات وتفاهمات دولية فوق سورية.
من المفيد تذكير أحد قادة أكراد حزب العمال الكردستاني للنظام السوري بعمق علاقاتهما ودفئها، في محاولة لإيقاظ نوازع الأخير لحماية مناطق حكم أكراد سوريين من ضربة عسكرية تركية يتوقعونها، لكن هذه العلاقة الوثيقة تطرح، في المقابل، أسئلة على الشارع الكردي الذي عانى، عقوداً طويلة، من تهميش حقوقه المواطنية في سورية، من النظام “الصديق!”، حول أسباب عدم تدخل هذه العلاقة الوثيقة في رفع المظلومية عنهم، من إعادة النظر بعملية التغيير الديمغرافي والتجريد من الجنسية، حتى منع اللغة الكردية من التداول، إلى منع الاحتفالات بعيد نيروز، أي أننا أمام علاقة تحمل طابع مصالح شخصية للداخلين فيها من القيادات على حساب مصالح الأكراد بصفتهم مواطنين، وليست في خدمة الأكراد على الأقل الذين عانوا من “المظلوميات”.
يمكن الإقرار من خلال الطروحات التي تقدّمها شخصيات كردية، ذات مكانة متقدّمة في مناصبها، بأن الخلاف بين “قوات سوريا الديمقراطية”، ومعظم المعارضة السورية، بشكلها المسلح أو السياسي، أعمق من الخلاف مع النظام السوري عموماً. وهذا تتحمّل مسؤوليته، إلى حد كبير، المعارضة التي التحقت بأجندة تركيا، من دون التفكير بأهمية وضع القضية الكردية ضمن قضية الصراع مع النظام أنها قضية حرية لكل مكونات الشعب السوري، كما تتحمّل انقسامات الأكراد وخلافاتهم الحزبية مسؤولية عدم صياغة مشروع حل واحد لقضيتهم، يدافعون عنه من داخل مكونات المعارضة وخارجها. لكن في المحصلة، هذه الطروحات الكردية مع تشابهها مع ما تطرحه قوى معارضة، لا تجعل منهم أقرب إلى تحقيق مكاسب من النظام لم يقبل تقديمها لكل السوريين منذ عام 2011، وهو اليوم يرفض القبول بالفكرة ذاتها على طاولة اللجنة الدستورية في جنيف، والتي تعقد برعاية أممية وباحتضان داعميه وحلفائه؟
المصدر: العربي الجديد