إيران دولة جارة ونحترم شعبها وثقافته، ولدينا مشاركات كثيرة مع إيران كبلد، بعيدًا عن الأنظمة السياسية والحكومات المتعاقبة على إيران في مختلِف الحقب التاريخية.
وكما أن هناك مشاركات، فهناك عديد من الخلافات والاختلافات مع إيران، تزايدت بشكل واضح وجليّ بعد ثورة ١٩٧٩م. جاءت هذه الإشكاليات بناءً على المتغير الجديد في طهران، حيث نظام سياسيّ تقود الأيديولوجيا سياسته الخارجية، وتبعًا لذلك أصبحت إيران تتحرك وفق مشروع أيديولوجيّ توسعيّ، يتجاوز المعاهدات والمواثيق الدولية وأساسيات حُسن الجوار والتعايش مع المنطقة والعالم.
ومن الأخطاء المتكررة في التصريحات الدولية المختلفة، حصر الخلاف مع إيران في دولة معيّنة كالسعودية، فمشكلة النظام الإيراني الراهن مع العالم بشكل أوسع، ولكن دول المنطقة العربية والخليجية تأتي في الخط الأمامي في التصدي للمشروع الإيراني لعدة أسباب، أبرزها الحدود الجغرافية ومركزية هذه الدول في المشروع الإيراني التوسعي، واستغلال الأقليات الدينية والمذهبية وفق ما يسمى بالجيوبولتيك الشيعي، بعد فشل إستراتيجية إيران القائمة على توسيع حدودها الجغرافية واحتلال الدول، أو تقويض الأنظمة السياسية فيها، ابتداءً من الحرب العراقية-الإيرانية التي استمرت لمدة ثماني سنوات.
إنّ الفشل في تجاوز العراق في تلك الحقبة جعل طهران تبحث عن بدائل لإنجاح مشروعها، فاتجهت إلى استقطاب بعض أبناء المجتمعات الشيعية في المنطقة وتجنيدهم وتدريبهم وتمويلهم، وتقديم الدعم المالي والاستخباراتي واللوجستي لزرع بؤر وتكتلات مرتبطة بالمشروع الإيراني في المجتمعات المستهدفة.
وبعد هذه المقدمة المهمّة التي يتجاهلها كثيرون في تحليل الحالة الإيرانية، نعود إلى عنوان المقال ومستجدّات الحوار السعودي-الإيراني، الذي استضافته العاصمة العراقية بغداد على مدى أربع جولات خلال قرابة ستة أشهُر.
أولًا: لماذا قبلت السعودية بالحوار مع إيران بعد انقطاع للعلاقات تجاوَز خمس سنوات؟
يبدو واضحًا أن اللقاءات التي وصفها وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان مؤخرًا بـ”الاستكشافية” جاءت بعد أسبوع من زيارة رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي للسعودية في مطلع شهر أبريل، إذ إنّ هناك قناعة بأنّ الكاظمي قدّم وعودًا للمملكة بجاهزية طهران للوصول إلى تسوية مع السعودية، وحلّ الملفات العالقة بين البلدين. ويبدو أن السعودية قد شرحت للضيف العراقي أن التجارب السابقة مع إيران غير مشجعة على الحوار، وفي ظل التصعيد الإيراني المستمر ضد المملكة، وبخاصة أن التجارب السابقة مع الحكومات الإيرانية المتعاقبة لم تقُد إلى حلول حقيقية مع طهران سوى التصريحات الإعلامية، التي سرعان ما يجري العمل بعكسها من قِبل النظام الثوري ومؤسساته، مثل الحرس الثوري ومكتب المرشد الإيراني علي خامنئي ومجلس الأمن القومي الإيراني. ومن هنا يمكن فهم بدء الحوار مع المؤسسات الأمنية لا الحكومة، لأسباب كثيرة، أبرزها أن تلك المؤسسات هي صاحبة القرار في السياسة الخارجية الإيرانية أو قريبة من صُنع القرار، على عكس الحكومات الإيرانية. كما أن الإلحاح العراقي جعل السعودية تقبل بطلب الضيف العراقي، مما يتوافق مع الثقافة العربية التي لا يمكنها في الغالب رفض طلب ضيوفها. لا شك أن الجانب العراقي يريد أيضًا تحقيق مكتسبات داخلية وخارجية، وبخاصة أن ذلك الطلب جاء قُبيل الانتخابات المبكرة في العراق وطمع الكاظمي في الاستمرار في منصب رئاسة الوزراء. كما أن مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة الذي نظمته بغداد نهاية شهر سبتمبر الماضي يأتي في هذا الإطار أيضًا.
لا شك أن السعودية تسعى للوصول إلى منطقة إقليمية مستقرة أمنيًّا وعسكريًّا وسياسيًّا، لا سيما في ظل رؤية المملكة الطموحة القائمة على النموّ الاقتصادي، والمشاركة، وتصفير المشكلات في المحيط الجغرافي، ونقل المنطقة بأكملها إلى مرحلة تاريخية جديدة.
ثانيًا: ما الأهداف الإيرانية؟ ولماذا الآن؟
شكوك كثيرة تكتنف الأهداف الإيرانية من الحوار مع السعودية في هذا التوقيت تحديدًا، ولعل أبرز تلك الأهداف يتمثل في تعثُّر الاتفاق النووي بين إيران ومجموعة ٥+١ بعد ستّ جولات لم تصل مع المجموعة إلى انفراجة حقيقية، والاقتراب من القناعة بموت الاتفاق النووي في ظل الرفض الإيراني لمناقشة متطلبات دول المنطقة، وبخاصة برنامج الصواريخ الباليستية، وملف السلوك الإيراني في المنطقة. من هنا أرادت إيران الالتفاف على تلك المطالب عبر الإيهام بأنها في طريقها لحل تلك الإشكاليات مع دول المنطقة مباشرة، دون الحاجة إلى إدماجها في الاتفاق النووي. وقد عملت إيران على ذلك من خلال حملة علاقات عامة استخدمت فيها عناصر اللوبي الإيراني في الغرب، وأيضا بعض الشخصيات في الداخل العراقي، من خلال تسريب معلومات خاطئة ومضللة حول نتائج الحوار مع الرياض، إذ نقلت وكالة “رويترز” عن مسؤولين عراقيين زعموا مشاركتهم في الحوار السعودي-الإيراني في بغداد، أنّ هناك اتفاقًا على إعادة التبادل الدبلوماسي وفتح البعثات الدبلوماسية ونحو ذلك، والاتفاق على إنشاء سكة حديد بين مشهد وكربلاء ومكة. وكل ذلك لا حقيقة له إطلاقًا ولا يمكن تصديقه في ظل عدم الوصول إلى حلول حقيقية في البُعد الأمني والإشكاليات الإقليمية في اليمن وسوريا ولبنان والعراق وغيرها. ولعل موضوع الطلب الإيراني لفتح قنصلية في جدة جاء في إطار رغبة إيران في السماح لمواطنيها بأداء مناسك العمرة، بعد أن وقفتها بقرار أحادي عام ٢٠١٥م. إضافة إلى ذلك، إيران طلبت إرسال ممثلين لها في منظمة التعاون الإسلامي ومقرها جدة. وفي نظري أن دراسة السعودية للطلب لا علاقة لها بتوتر العلاقة مع إيران، فهذا ملف منفصل تمامًا، ومن المعلوم أن منظمة الحج والزيارة الإيرانية كانت تلتقي المسؤولين السعوديين في جدة طيلة فترة انقطاع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.
من الأهداف الإيرانية أيضًا بعث رسالة إلى الداخل الإيراني، وبخاصة بعد وصول إبراهيم رئيسي إلى الرئاسة في طهران، بأنّ هذه الحكومة قادرة على حلحلة الإشكاليات الإقليمية على عكس حكومة الرئيس الإيراني السابق حسن روحاني وفريقه الدبلوماسي. إلى جانب ذلك، كانت هناك أهداف إيرانية مرتبطة بالداخل العراقي، والسعي إلى المحافظة على المكتسبات التي حققتها إيران بعد احتلال العراق في ٢٠٠٣م، والإبقاء على شخصيات مقربة من طهران تسيطر على مفاصل كثير من المؤسسات العراقية أو الميليشيات المرتبطة بالحرس الثوري، وبخاصة بعد التذمُّر الشعبي العراقي من تلك التدخلات الإيرانية في الشأن الداخلي العراقي، خلال حراك تشرين الذي عمّ كثيرًا من المدن والمحافظات العراقية. والآن وبعد خسارة الأحزاب والفصائل العراقية المقربة من طهران في الانتخابات النيابية العراقية، يبقى السؤال الأبرز: كيف تتصرف طهران؟ وهل ستستمرّ في استغلال ورقة الحوار مع السعودية لتحقيق تلك الأهداف؟
بعد هذه القراءة لواقع الحوار السعودي-الإيراني، هل ستقدم إيران خطوات حقيقية -لا تكتيكية- لإعادة بناء الثقة مع السعودية؟
لا شك أن الجميع، بما في ذلك الشعب الإيراني، يتمنى تحقق ذلك، لكن كيف ستقوم طهران بذلك؟ وهل بالفعل هي جاهزة لتجاوز الماضي، والانخراط في المنظومة الإقليمية، بعيدًا عن المشاريع التوسعية، والتخلي عن مشروع تصدير الثورة، وهدف تقويض الأنظمة السياسية في المنطقة وإشعال الصراعات المذهبية والإرهابية، والتخلّي تبعًا لذلك عن دعم الفاعلين من غير الدول، الذين خرجوا من العباءة الإيرانية؟ وهل طهران ستعمل حقيقةً على خفض التوتر القادم من جانبها دون غيرها؟ نرجو ذلك.
المصدر: موقع www.mei.edu