أفرزت الانتخابات الأخيرة عديداً من الحقائق في المشهد العراقي، بعد جولة خامسة من الانتخابات البرلمانية، التي يسعى النظام السياسي في ما يسمى بالعملية السياسية تكريس (النظام البرلماني) بعد سنوات الجمر الرئاسية وعشرات الانقلابات والضحايا في حروب خاضها العراقيون لتثبيت حدود دولتهم المستقلة، التي تأسست عام 1921 وتحولت من نظام ملكي دستوري خلال (1921- 1958) إلى العهد الجمهوري (1958-2021)، الذي ما زال يعيش عصر الفوضى السياسية بعد أن أثخنت الحروب جسده، تساوت لديه الحياة والموت معاً، نتيجة الاضطراب الذي خلفته الأنظمة الديكتاتورية المتعاقبة في مجتمع صعب المراس يتهمه خصومه بالتطرف والغلو في الحب والكراهية.
آل الصدر يفوزون بولاء جمهورهم وأتباعهم
ومن بين محصلات الانتخابات الأخيرة وهي الخامسة، فإن متغيرات شتى شهدها المشهد العراقي، نقرأ هذا المشهد بمحصلاته الرقمية التي أعلنتها المفوضية المستقلة التي أدارت وأشرفت على انتخابات بصعوبة بالغة، ولعل أبرزها :
– ما زال اسم الصدر الجاذب الرئيس للجمهور الشيعي، كونه مقترناً باسمي الصدريين (محمد باقر الصدر، مؤسس فكرة استنهاض الشيعة في العصر الحديث الذي أعدم عام 1980 بداية الحرب العراقية – الإيرانية (1980-1988)، ومحمد صادق الصدر المرجع الشيعي الذي دعا إلى صلاة الجمعة واستقطب جمهور فقراء طائفته، سيما في مدينة الثورة التي سميت لاحقاً باسمه، اغتيل في النجف هو ونجلاه 1999، وأن جمهور التيار الصدري الذي حصل بصورة لافتة على أعلى الأصوات (73 صوتاً)، يوصف بأنه جمهور مطيع وموال لأسرة الصدر ومنهجها التوجيهي، في وقت حصلت قائمة “تقدم” ذات الغالبية السنية بزعامة محمد الحلبوسي على 37 مقعداً لتنال المرتبة الثانية، بينما حصلت كتلة دولة القانون على 34 مقعداً، في وقت حصل الحزب الديمقراطي الكردستاني على 33 مقعداً.
وهذه النتيجة تعد متوافقة بالنسبة إلى مكونات الشعب العراقي، حيث يشكل الشيعة ما يقارب 60 في المئة من تعداد الشعب العراقي، الذي وصل إلى ما يزيد على 40 مليون نسمة بمعدل زيادة مليون نسمة كل سنة.
أما العلامة اللافتة الثانية في تلك الانتخابات، أن الكتلة الصدرية بحصولها على عدد مقاعد يفوق جميع المقاعد البرلمانية التي حصلت عليها باقي كتل “الإسلام السياسي” مجتمعة، وهذا يؤهلها إلى أن تكون الكتلة الفاعلة والمحركة للمشهد السياسي العراقي خلال السنوات الأربع المقبلة، ويرجحها لاختيار وزراء الحكومة العراقية المقبلة، بما في ذلك رئيس الوزراء المقبل.
انحسار كفة الولائيين ورفضهم لنتائج الانتخابات
كما تؤشر نتائج الانتخابات إلى انحسار دور الكتل الولائية (التي تؤمن بعقيدة ولاية الفقيه التابعة للمرجع الديني الخامنئي في إيران)، ما خلق ريبة لديهم بأن انحسارهم يعني ابتعادهم عن السلطة التنفيذية والتشريعية وقلة مقاعدهم في البرلمان قياساً للدورة السابقة.
وقد يؤدي ذلك إلى ترجيح حل الحشد الشعبي ودمجه مع الجيش العراقي، وبذلك يضعف تأثيرهم المسلح في المشهد العراقي، سيما وأن السيد مقتدى الصدر في خطابه بعد إعلان النتائج الأولية للانتخابات، طالب بحصر السلاح مجتمعاً بيد الدولة، كما أكد على أن مدعي المقاومة من الفصائل الولائية يجب عليهم الالتزام بأوامر الدولة، وهي التي تحدد معنى المقاومة.
يؤكد ذلك بيان اللجنة التنسيقية للكتل الشيعية المعترضة على نتيجة الانتخابات، التي تضم “دولة القانون” بزعامة المالكي و”الفتح” بزعامة هادي العامري، و”الحكمة” بزعامة عمار الحكيم، و”النصر” بزعامة رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي و”عطاء” بزعامة رئيس الحشد الشعبي فالح الفياض العامري، و”الفضيلة” بزعامة عمار طعمة، وإعلان رفضهم الصريح لنتائج الانتخابات، وعدم الاعتراف بها واتهام المفوضية بالتقصير، وإصدار بيان شديد اللهجة يوضح ذلك.
إعلان الإنذار “ج” للجيش والشرطة
اتخذت حكومة تصريف الأعمال التي يديرها الكاظمي احتياطات أمنية مشددة، وإعلان الإنذار “ج” للقوات المسلحة، ونزولها إلى الشارع، خشية الاضطرابات الأمنية المحتملة الحدوث، لتوافر معلومات أشار إليها رئيس أركان الجيش العراقي الفريق عبد الأمير يار الله، خشية مهاجمة الميليشيات صناديق الانتخاب ومهاجمة المفوضية المستقلة للانتخابات وكادرها، بحسب ترجيحات مراقبين عراقيين.
هذه الأجواء التي أفرزتها نتائج الانتخابات عقّدت المشهد السياسي العراقي، وفصلت الخنادق في الموالاة، بين المصلحة العراقية الشعبية التي ترى في غالبيتها بأن الانتخابات نزيهة، وأفضل بكثير من سابقتها التي تحوم حولها الشبهات، ومصلحة الأحزاب التي تريد تقاسم السلطة في ما بينها، وإبقاء نظام المحاصصة.
المفوضية: طبقنا قانون المفوضية وقانون الانتخابات
وعلى الرغم من أن المفوضية اتهمت جزافاً بأنها أخطأت في الإعلان المتعجل لنتائجها الأولية وأصلحت موقفها بالعد اليدوي، حتى خلصت لإعلان نهائي أسقط بعض الأسماء نتيجة العد والفرز اليدوي، ورجحت أخرى بحسب معطيات قانوني المفوضية والانتخابات، وكما أكد مصدر موثوق لـ “اندبندنت عربية”، “أن التزام المفوضية تطبيق القوانين المتعلقة بعملها سواء قانون المفوضية أم قانون الانتخابات، وتأكيد قيام الإدارات والقانونيين والفنيين فيها بعملهم المهني، كل منهم أدى دوره بكل دقة وكما ينبغي، لذلك فإن النتائج لم تتغير”.
وكان الإعلان المبكر بقصد أن تلتزم المفوضية إعلان النتائج الإلكترونية الأولية خلال 24 ساعة، والتزمت الإعلان خلال المدة المحددة، وتم تسليم كل مرشح تقريراً بشريط النتائج التي حصل عليها، لكن حدث أن عدد الأصوات الصادرة في الشريط أو التقرير لم تتطابق مع النتائج الإلكترونية، لأن هناك أصوات في محطات العد والفرز، أجريت عليها القرعة اليدوية لغرض تطبيق قانون الانتخابات رقم 9 لعام 2020 الذي يوجب فتح محطة واحدة في كل مركز، بالقرعة لغرض العد والفرز اليدوي للتأكد من مطابقة النتائج، وأضيفت في اليوم التالي نتائج المحطات التي فتحت، وتم العد والفرز اليدوي عليها، وعليه عاد التوازن للمطابقة، ذلك كان إعلاناً أولياً عن نتائج الانتخابات إلكترونياً، حتى إكمال باقي المحطات وصولاً لإعلان النتائج النهائية بعد استكمال كل المحطات بدقة شديدة.
من سيشكل الحكومة؟
معطيات غاية في الدقة والتعقيد أفرزتها أرقام الترجيح للكتل الأربع التي تتنافس على تشكيل الحكومة المقبلة مع تأكيد ترجيح كفة الكتلة الأكبر المتمثلة بالصدريين لـ 72 صوتاً يمكنهم من القرار الذي تفتقده الكتل الأخرى المنافسة، لكن ذلك يجعلنا إزاء ترجيح احتمالين لتشكيل الحكومة وهما:
الأول في حال عدم اتفاق الأكراد على الانخراط في تشكيل كتلة كردية واحدة مؤتلفة كما كانت في جميع الانتخابات الماضية، وعدم اتفاق السنة العرب على تشكيل كتلة موحدة، سيؤدي ذلك إلى تشكيل كتلة كبيرة تضم الكتلة الصدرية والحزب الديمقراطي الكردستاني، وتقدم بزعامة محمد الحلبوسي، وأصوات من المستقلين بحيث تتشكل حكومة أغلبية سياسية تقابلها معارضة من باقي الكتل، في مقدمهم الولائيون.
والاحتمال الثاني: في حال اتفاق الكرد على تشكيل كتلة كردية تمثلهم والسنة كذلك، ستضطر الكتلة الصدرية إلى الرجوع إلى مربع “الائتلاف الشيعي الموحد” وسيؤدي ذلك إلى حكومة توافقية، كما حصل في الانتخابات السابقة، وهذا ما يخشاه الجمهور العراقي لأنه سيعيش أجواء المحاصصة السياسية، التي أدت إلى شلل الحياة في العراق وتدمير اقتصاده.
ويُرجح المراقبون حصول انتفاضة شعبية لا تبقي ولا تذر، فقد ضاق العراقيون ذرعاً بهذا الواقع الذي خلقته أحزاب المحاصصة الطائفية، التي أنتجت مفاسد أغرقت البلاد في الفوضى والتعطيل، في وقت يرجح مراقبون حصول تغيرات دراماتيكية في حال إبقاء إثرة الكتل والأحزاب التي تفضل مصالحها على حساب الشعب.
لكن الثابت أن توافق الأكراد الذي عبّر عنه هشيار زيباري القيادي في الحزب الديمقراطي الكردستاني بتكرار عبارة “ماؤنا في الصدر” التي تعني سيطرتنا على المشهد كثلث معطل للدستور، يُرجح أن يكون الكرد أصحاب التأثير القوي في نتائج المفاوضات التي بدأت لتشكيل الحكومة بعد حصولهم مجتمعين على ما يقرب من 60 صوتاً، في هذه الدورة كذلك السنة الذين حصدوا ما يزيد على 60 صوتاً مجتمعين، لكنهم أبوا أن يتفقوا .
المصدر: اندبندنت عربية