أحدثت السرعة والنطاق الذي سيطرت به حركة «طالبان» على مقاليد الأمور في أفغانستان حالة من التأمل في الغرب لما حدث من خطأ، وكيف بعد إنفاق مليارات الدولارات في حرب استمرت 20 عاماً يصل الحال إلى هذا المستوى المخزي. مع ذلك تتطلع الصين نحو المستقبل، وهي مستعدة لشغل الفراغ الذي خلفه الانسحاب المتعجل للولايات المتحدة الأميركية وانتهاز هذه الفرصة الذهبية.
في الوقت الذي لم تعترف فيه بكين رسمياً بحركة طالبان بوصفها الحكومة الأفغانية الجديدة، أصدرت بياناً يوم الاثنين تذكر فيه أنها «تحترم حق الشعب الأفغاني في تحديد مصيره بشكل مستقل»، وتشير إلى أنها سوف تقيم «علاقات ودية وتعاونية مع أفغانستان». والرسالة هنا واضحة، فليس لدى بكين الكثير من الهواجس فيما يتعلق بإقامة علاقة وطيدة مع طالبان، وهي مستعدة لتقديم نفسها باعتبارها الطرف الفاعل الخارجي الأكثر تأثيراً في أفغانستان الآن بعد تخلي الولايات المتحدة الأميركية عنها.
على عكس الولايات المتحدة الأميركية، لم تقدم الصين الكثير إلى أفغانستان، حيث لم تكن بشكل كبير في البلاد منذ الغزو الأميركي، ولا ترغب في الاضطلاع بدور التابع للولايات المتحدة الأميركية في أي سياسة للقوة. لقد كانت بكين تراقب تحول غزو واشنطن لأفغانستان إلى مستنقع فوضوي مكلف. على الجانب الآخر قدمت الصين إلى أفغانستان ملايين الدولارات في إطار توفير المساعدات الطبية، وإنشاء المستشفيات ومحطة طاقة شمسية، وكانت الصين تعمل على تعزيز العلاقات التجارية مع البلاد، وأصبحت في النهاية أحد أكبر الشركاء التجاريين لأفغانستان.
ومع انسحاب الولايات المتحدة الأميركية تستطيع بكين توفير أهم ما تحتاجه كابل وهو الحياد السياسي والاستثمار الاقتصادي، في حين تمتلك أفغانستان أهم ما تقدّره الصين وهو الفرص في بناء البنية التحتية والصناعة، وهي مجالات تتمتع فيها الصين بإمكانيات لا يمكن أن تُضاهى، فضلاً على الحصول على مخزون من الثروة المعدنية غير المستخرجة بعد تقدّر بتريليون دولار تشمل معادن صناعية ضرورية مثل الليثيوم والحديد والنحاس والكوبالت. رغم إشارة المنتقدين إلى أن الاستثمارات الصينية لا تمثل أولوية استراتيجية في أفغانستان في ظل وضع أمني متردي، أعتقد أن الوضع هو عكس ذلك تماماً.
تتمتع الشركات الصينية بسمعة الاستثمار في دول أقل استقراراً إن كان ذلك يعني أنها ستتمكن من جني المكاسب؛ ولا يحدث هذا دائماً بشكل سلس، لكن تتحلى الصين بالصبر. ورغم أن وجود القوات الأميركية قد حال دون استخدام جماعات مسلحة لأفغانستان كملجأ، يعني انسحاب القوات الأميركية انتهاء حرب دامت لعشرين عاماً مع طالبان، أي اختفاء العقبات التي كانت تعرقل إقامة الاستثمارات الصينية بشكل كبير.
تمثل مبادرة الحزام والطريق إحدى خطط الاستثمار الاستراتيجية الحالية طويلة الأجل للصين، وهي محاولة لتمويل وتشييد بنية تحتية في المنطقة. وتعد أفغانستان حتى هذه اللحظة قطعة جذابة لا تزال مفقودة من تلك الأحجية الهائلة. وإذا تمكنت الصين من مدّ مشروع الحزام والطريق من باكستان عبر أفغانستان على سبيل المثال من خلال طريق بيشاور – كابل السريع، فسوف تفتح طريقا بريا أقصر للوصول إلى أسواق في الشرق الأوسط. وسوف يجعل إنشاء طريق جديد عبر كابل مقاومة الهند للانضمام إلى مبادرة الحزام والطريق أقل تأثيراً. وحتى قبل سيطرة حركة «طالبان» على البلاد، كانت الحركة قد وعدت بحماية الاستثمارات الصينية فيها.
على الجانب الآخر وضع بكين حالياً يمكّنها من التأثير بشكل أكبر على المشهد السياسي في البلاد.
ويخبرنا تاريخ أفغانستان أنه من النادر أن تسيطر جماعة واحدة أو طرف واحد على البلاد بأكملها، وبالنظر إلى سيطرة «طالبان» السريعة على البلاد، من المنطقي أن يتوقع المرء نشوب حرب أهلية بشكل ما.
وإلى جانب كون الصين أكبر قوة مشاركة في بعثات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة بين الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن القومي، سجلت أيضا قوة استعداد مكونة من 8 آلاف ضمن قوات حفظ السلام، وهي خطوة قد تجعلها واحدة من أكبر القوى المشاركة ككل. وإذا تم نشر بعثة حفظ سلام في أفغانستان، فسوف يتم اعتبار الصينيين المشاركين في البعثة قادمين من بلد جوار صديق، وبالتالي سيرحب بهم أكثر من غيرهم.
إذا أصبحت الصين طرفاً فاعلاً في أفغانستان سيعني ذلك أيضا أنها ستكون في موقع أفضل لمنع ما تعتبره جماعات معارضة لها من التمترس في البلاد. وتعد حركة «شرق تركمستان الإسلامية» مصدر القلق الرئيسي للصين، فبحسب تقرير للحكومة الصينية كان للحركة جذور مبكرة في أفغانستان، وقد تلقت الحركة بحسب الأمم المتحدة دعما من «تنظيم القاعدة» خلال العقد الأول من الألفية الثانية. ويتساءل بعض الباحثين والخبراء ما إذا كانت الحركة تمتلك القدرة على إثارة أعمال العنف، أو ما إذا كانت لا تزال موجودة بالأساس.
مع ذلك قال وانغ يي، وزير الخارجية الصيني، في شهر يوليو (تموز) خلال لقاء مع الملا عبد الغني برادر، نائب زعيم «حركة طالبان»، إنه يأمل أن «تقاطع» «حركة طالبان» حركة شرق تركستان بشكل واضح لأنها «تمثل تهديداً للأمن القومي الصيني ووحدة أراضي البلاد». كذلك عبر وانغ عن أمله في أن تقوم «طالبان» «ببناء صورة إيجابية واتباع سياسة شمولية». ووعد السيد برادر بألا تسمح «طالبان» لأي جماعة باستخدام الأراضي الأفغانية في شنّ أعمال تضرّ بالصين.
بطبيعة الحال يوجد مفتاح تحقيق السلام والاستقرار في أفغانستان جزئياً في باكستان، فرغم قربهما، لا يبدو أن هذا «التوأم الملتصق»، بحسب وصف الرئيس الأفغاني السابق حميد كرزاي، يتخذان الاتجاه نفسه. في حين تتمحور سياسة باكستان تجاه أفغانستان حول الأهداف الاستراتيجية المتمثلة في ضمان وجود حكومة صديقة في كابل، والحد من نفوذ الهند المتنامي في البلاد، يعد ضمان عدم توافق وتعاون باكستان وأفغانستان في صالح بكين. وليس سراً أن الصين تتمتع بنفوذ كبير في باكستان، فقد تعهدت بكين، التي تتوقع دوراً أكثر تأثيراً ووجود ضرورة مستقبلية، في يونيو (حزيران) بمواصلة المساعدة في تعزيز العلاقات بين البلدين.
أخيراً ورغم مغادرة الولايات المتحدة الأميركية، هناك فرصة أمام بكين وواشنطن للعمل سوياً من أجل تحقيق الاستقرار في أفغانستان. وشهدت العلاقات بين الصين والولايات المتحدة الأميركية، رغم خلافاتهما، قدراً من التعاون في أفغانستان بالفعل مثل التدريب المشترك للدبلوماسيين والفنيين. ولا يرغب أي من البلدين في انزلاق أفغانستان نحو مستنقع من الحرب الأهلية. وكذلك تدعم الدولتان التوصل إلى حل سياسي نابع من أفغانستان، لذا تمثل أفغانستان مساحة يمكن للقوتين المتنافستين إيجاد مسألة مشتركة بها.
لطالما كانت أفغانستان مقبرة للغزاة مثل الإسكندر الأكبر والإمبراطورية البريطانية والاتحاد السوفياتي والآن الولايات المتحدة الأميركية، وها هي الصين تدخل البلاد مسلحة بمخططات البناء لا القنابل، وأمامها حالياً فرصة لإثبات إمكانية التخلص من تلك اللعنة.
*عقيد في جيش التحرير الشعبي من 2003 حتى 2020 وزميل بارز في مركز الأمن الدولي والاستراتيجية في جامعة تسينغهوا وعضو في منتدى الصين
المصدر: الشرق الأوسط