نحن نعيش الآن وسط حدث انقراض. وقد شرع الكثير منا في ملاحظته عندما بدأت الحشرات في الاختفاء بأعداد كبيرة بعد نهاية القرن الماضي مباشرة.
لن أنسى أبدًا ذلك اليوم الذي اتصل فيه سائق شاحنة ببرنامجي الإذاعي. ربما كان ذلك قبل 14 عامًا أو نحو ذلك، وعرّف عن نفسه بأنه سائق شاحنة مسافات طويلة كان يسلك بانتظام طريقًا من الساحل إلى الساحل، من الجنوب الشرقي إلى شمال غرب المحيط الهادئ، عشرات المرات في السنة.
قال: “اعتدت عندما كنت أقود سيارتي عبر الجزء الجنوبي من الغرب الأوسط مثلما أفعل الآن، أن أتوقف كل بضع ساعات لتنظيف الزجاج الأمامي للسيارة. والآن مرت ثلاثة أيام منذ أن اضطررت إلى إزالة الحشرات عن زجاج سيارتي الأمامي في هذه الرحلة. هناك شيء مخيف يحدث هنا”.
وسرعان ما ازدحمت خطوط الهاتف. شارك الناس من ولاية ماين إلى كاليفورنيا، ومن فلوريدا إلى ولاية واشنطن قصصهم عن الحشرات الآخذة في الاختفاء في الأماكن التي يعيشون فيها. وكانت لدى العديد من سائقي شاحنات المسافات الطويلة الذين يستمعون إلى “سيريوس إكس إم” قصص متشابهة.
كنا قد انتقلنا للتو إلى بورتلاند في ذلك الوقت، وأقمنا في منزل عائم على نهر ويلاميت، وكان الهواء غالبًا مليئًا بالحشرات وطيور السنونو، وهي طيور صغيرة آكلة للحشرات تطير بسرعة، وأحيانًا بطريقة عشوائية مثل الخفافيش. وكان لدى إحدى الجارات “بيت للسنونو”، صندوق مركب على عمود بجانب منزلها به عشرات الثقوب الصغيرة حيث تبني طيور السنونو أعشاشها.
بعد عقد ونصف لاحقاً، وقد أصبحت أعيش الآن على نهر كولومبيا في بورتلاند، لم أر أكثر من عشرة طيور سنونو في وقت واحد خلال عامين على الأقل. ويبدو أن أسراب الهوام، والبعوض، والفراشات، وحشرات البرق، والخنافس، والعث التي ميزت الربيع والصيف لمعظم سنوات عمري السبعين، من ميشيغان إلى فيرمونت إلى جورجيا إلى أوريغون، قد اختفت إلى حد كبير. وليس حلول “نهاية العالم” هذه بالنسبة للحشرات سوى مؤشر رئيسي على ما أصبح مسبقاً كارثة أكبر للكثير من البشر، التي شرعت الآن في أن تضرب العالم الثري (الولايات المتحدة وأوروبا) بشدة.
وصل تغير المناخ الناجم عن ظاهرة الاحتباس الحراري التي من صنع الإنسان وأصبح هنا بحيث لم يعد بإمكان حتى أصحاب المليارات التي جنوها من الوقود الأحفوري ودعائييهم مدفوعي الأجر أن ينكروا وجوده. وفي الوقت الحالي، ربما ما تزال لدينا القدرة على تحديد مدى القوة التي سيضربنا بها.
لقد تجاوزنا منذ فترة طويلة النقطة التي يمكننا أن نقرر فيها ما إذا كنا سنسمح له بجعل حياتنا بائسة. لقد أصبحنا هناك مسبقاً. وتجاوزنا، وفق جميع الاحتمالات، نقطة التحول تلك منذ أجيال عدة، عندما كانت شركات الوقود الأحفوري وعلماء المناخ قد توصلوا للتو إلى إجماع على أن تغير المناخ ليس حقيقية واقعة فحسب، بل إنه يمكن أن يكون مميتاً للحياة البشرية على هذا الكوكب. وكان رد صناعة الوقود الأحفوري هو اتباع قواعد اللعبة الخاصة بصناعة التبغ وتمويل الأبحاث الزائفة، وإنشاء مراكز أبحاث خادعة ودفع رجال الواجهة والسياسيين الذين يتقاضون رواتب عالية إلى الكذب على الشعب الأميركي والعالم.
والسؤال الآن هو ما إذا كنا سنترك حالة الطوارئ المناخية الحالية تتقدم وتقطع شوطاً طويلاً بحيث أنها إما تقضي على الجنس البشري ومعظم أشكال الحياة على هذا الكوكب بإنتاجها نوع الفوضى التي تمزق الحضارة؛ أو أنها ستعطل حياة البشر بشدة لدرجة تحطيم الحكومات في جميع أنحاء العالم وتؤكد قدرة الديمقراطيات مثل ديمقراطياتنا على الاستمرار في العمل. وسوف تقرر استجابتنا في السنوات القليلة المقبلة مصيرنا.
بالنسبة لمعظم أنحاء العالم، جعلت حالة الطوارئ المناخية الحكومات عاجزة مسبقاً عن التعامل مع الأشياء حتى أنها سقطت أو تعيش في أزمة وصلت إلى مستوى الحرب الأهلية. وعلى سبيل المثال، دفعت الزيادة الناجمة عن الاحتباس الحراري في المناطق الصحراوية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ملايين المزارعين الصغار إلى ترك أراضيهم، ما أدى إلى ملء مدن مثل دمشق وطرابلس باللاجئين وارتفاع أسعار المواد الغذائية.
وعندما قام بائع متجول شاب في تونس بإضرام النار في نفسه في العام 2010 احتجاجًا على الأوضاع هناك، تسبب قيامه بالتضحية بنفسه باندلاع “الربيع العربي”، ما أدى إلى حدوث أزمة وثورة في بلد بعد بلد في المنطقة.
في مصر، سقطت الديمقراطية في انقلاب عسكري وهي الآن شيء مختلف. وجربت تونس مع الديمقراطية، لكنها لم تستطع تحمل الضغط، وهي الآن على وشك الانهيار. وتحولت ليبيا إلى سلسلة من الدول-المدن الإقطاعية الجديدة. وعندما بدأ اللاجئون من الريف في دمشق في المطالبة بالخدمات الحكومية مثل الطعام والإسكان، ردت الحكومة بقمع أدى إلى الموت والدمار على نطاق واسع. كما خرج تنظيم “داعش” من أزمة تغير المناخ هذه بقدر ما خرج من تدخلات بوش/ تشيني العسكرية في المنطقة. وفي نصفنا من الكرة الأرضية، مع تحول الأراضي الزراعية إلى صحراء قاحلة عبر أميركا الوسطى، بدأ لاجئو المناخ (خاصة من غواتيمالا التي تضررت بشدة) في التدفق شمالًا إلى المكسيك وتراكموا على حدودنا الجنوبية.
وفي الولايات الغربية في الولايات المتحدة، أصبحت المياه شحيحة للغاية لدرجة أن الكثير من أفضل الأراضي الزراعية لدينا أصبحت عرضة للخطر، وكذلك قدرة الخزانات والسدود على إنتاج الكهرباء التي تحتاجها ولاية نيفادا وجنوب كاليفورنيا. ومن شبه المؤكد أن تنشأ أزمة لاجئين أخرى بسبب تغير المناخ في هذا البلد بنفس سوء -وحتى أسوأ- من أزمة حوض الغبار التي نشأت في الثلاثينيات من القرن الماضي. حتى لو توقفت كل دولة في العالم عن إرسال انبعاثات الكربون في الوقت الحالي، فإننا قد تجاوزنا مسبقاً ومنذ وقت طويل نقطة اتخاذ القرار. هذا هو الوضع الطبيعي الجديد، وقد بدأ بالفعل في الانطلاق مع فصول صيف تبلغ الحرارة فيها 120 درجة فهرنهايت ومع اندلاع حرائق الغابات في شمال غرب المحيط الهادئ، وتكون الأعاصير التي تمتد لأميال عدة عبر الغرب الأوسط، والعواصف والفيضانات والتقلبات الجامحة في درجات الحرارة في الصيف والشتاء من فلوريدا إلى تكساس، ومن كانساس إلى نيويورك.
كان ينبغي أن نقرر في سنوات ريغان، عندما أصبح العلم واضحًا بشأن عواقب تغير المناخ، لكن عمالقة الوقود الأحفوري قاموا بالتغطية على الواقع وسخروا من علماء المناخ بوصفهم بأنهم “مبشرون بالخراب” عندما قالوا إننا سنصل إلى هذا الحد… وها نحن ذا.
ولا يتعلق قرارنا الحالي بما إذا الملايين من لاجئي المناخ سيظهرون في الأميركتين أو ما إذا كان كل تغيير في المواسم سيؤدي إلى آلاف الوفيات في جميع أنحاء أميركا الشمالية؛ لقد أصبحنا هناك بالفعل. إن قرارنا الحالي يتعلق بما إذا كنا سنترك الحضارة الإنسانية الحديثة كما نعرفها تستمر أو تتفكك.
هذا المفهوم الخاص بتغير المناخ الذي يُنهي الحضارة وأصبح الآن قاب قوسين أو أدنى ليس بعيد الاحتمال أو غير مسبوق؛ ولك أن تتحقق فقط من العنوان الرئيسي في صحيفة “الواشنطن بوست” اليوم: “دراسة تجد أن أفضل مكان للتغلب على الانهيار المجتمعي العالمي هو نيوزيلندا”.
وليست التغيرات المناخية جديدة في مسار التاريخ البشري الأطول؛ لقد أنهت التغيرات المناخية المحلية عشرات الحضارات التي نعرفها -وربما الآلاف التي لا نعرف عنها شيئًا.
كان شمال العراق في يوم من الأيام أرضاً خصبة مغطاة بالغابات؛ وقطع السومريون الأشجار لبناء مدن كبيرة وانخرطوا في ممارسات ري غير مستدامة لزراعة الحبوب، ما أدى إلى تحول معظم البلاد إلى صحراء وانهيار الحضارة الأكادية خلال فترة جفاف كبيرة ضربت المنطقة قبل 4200 عام.
وتحكي ملحمة جلجامش القصة المأساوية بالتفصيل، ولو كان في شكل مجاز –حيث قطع الملك جلجامش رأس هومبابا، إله الغابات، حتى يتمكن من استخدام الأشجار لبناء مدينة أوروك. ورداً على ذلك، لعن إله الآلهة، إنليل، أرض جلجامش عن طريق جعل حقولها مالحة، حتى لا ينمو أي شيء هناك.
وأدى تغير المناخ المحلي إلى سقوط حضارة المايا، قبل وقت طويل من وصول الإسبان الفاتحين. ويقدر العلماء أنه “يجب أن يكون معدل هطول الأمطار السنوي قد انخفض بحوالي 50 في المائة في المتوسط وبنسبة تصل إلى 70 في المائة خلال ذروة ظروف الجفاف”، ما أدى إلى الفوضى والموت والصراع مع الشعوب المجاورة التي أنهت الإمبراطورية.
وبالمثل، أنهى جفاف استمر 300 عام حضارة أناسازي منذ حوالي 1000 عام فيما يعرف الآن بكولورادو ويوتا. وتناثر أحفادهم عبر الجنوب الغربي الأميركي؛ ولم يتعاف مجتمعهم أبداً.
وحتى أوروبا لم تكن محصنة. بين العامين 1.550 و1.660 دمر “العصر الجليدي الصغير” المحاصيل، ما أدى إلى انتشار المجاعة والمرض وزيادة حركة اللاجئين بسبب المناخ والحروب المتعددة. لكن هذه كلها كانت أحداثاً محلية، في حين أن ما ننظر إليه الآن حدث عالمي.
قبل سبعة أعوام، صنعنا أنا وجورج وليوناردو دي كابريو وليلى كونورز وإيرل كاتز فيلمًا وثائقيًا قصيرًا (11 دقيقة) بعنوان “الساعات الأخيرة” حول أسوأ سيناريو لعالمنا، وهو شيء قد يحاكي “الموت العظيم” -الانقراض الجماعي البرمي منذ حوالي 250 مليون عام. وقد نجا من هذا الحدث عدد قليل من الحيوانات التي يزيد حجمها على حجم الكلب؛ وأعاد العالم تشغيل نفسه، ما أدى إلى ظهور نوع جديد تمامًا من الحيوانات المهيمنة -الديناصورات.
عندما ظهر فيلم “الساعات الأخيرة”، أسند إليَّ بعض علماء المناخ مهمة كتابة فيلم وثائقي والمشاركة في روايته، الذي يكون من شأنه أن “يخيف الناس حتى الموت”.
بالأمس ظهر الدكتور جايسون بوكس، الذي التقيت به لأول مرة عندما كنا نرتب لفيلم “الساعات الأخيرة” عن طرق “سكايب” في برنامجي من أوروبا؛ وهو واحد من أفضل الباحثين في القطب الشمالي في العالم وكان يعمل في القطب الشمالي منذ ما يقرب من 20 عامًا. وكانت لديه بعض الأخبار السيئة حقًا.
القطب الشمالي، الذي كان بالوعة الكربون لملايين السنين، أصبح الآن مصدرًا للكربون. وتزيد كمية الكربون المحتجزة في التربة الصقيعية القطبية بمرات عدة على تلك الموجودة في غلافنا الجوي بأكمله في الوقت الحالي. ومع ارتفاع درجة حرارة المنطقة مرتين إلى ثلاث مرات أسرع من المناطق الأكثر اعتدالًا، فإن هذا الكربون، المحاصر في التربة الصقيعية وتحت طبقات الجليد الضحلة، يشرع الآن في التسرب إلى الغلاف الجوي في شكل غازات الميثان وثاني أكسيد الكربون.
وإذا انفجر هذا التسرب بالكامل في العقود المقبلة، فستكون هذه بالتأكيد نهاية الحضارة، وقد تعني أننا سنمضي في الطريق الذي سارت فيه العديد من حشراتنا اليوم.
ما تزال هناك أشياء يمكننا القيام بها، من إعادة تشكيل حضارتنا لتكون أكثر مقاومة لتغير المناخ إلى خفض انبعاثاتنا من الكربون على الفور، إلى بذل جهود جذرية لإزالة الكربون من غلافنا الجوي. لكن خياراتنا تتقلص يومًا بعد يوم، وسوف تتطلب جميعها تعاونًا عالميًا (يمكنك أن تتوقع أن تسمع الكثير عن هذا في العام المقبل عندما يصدر التقرير التالي للهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ).
ولكن، في مواجهة حالة الطوارئ المناخية هذه، يواصل الحزب الجمهوري إنكار حتى أن هناك تغيراً مناخياً يحدث. ويهدد بعض الديمقراطيين الذين يحصلون على تمويل من مليارديرات الوقود الأحفوري وصناعتهم بعرقلة مشروع قانون تسوية متواضع بقيمة 3.5 تريليون دولار في مجلس الشيوخ، يهدف إلى جعلنا أكثر مرونة اجتماعيًا ويبدأ في نقل بنيتنا التحتية للنقل بعيدًا عن الوقود الأحفوري ونحو مصادر الطاقة المتجددة. قيل أن الإمبراطور نيرون كان يعبث بينما كانت روما تحترق. وإذا كنت لا تريد أن يواصل سياسيونا اتباع مثاله بينما يحترق العالم، كن نشطًا سياسيًا الآن.
*Thomas Carl Hartmann: هو شخصية إذاعية أميركية، ومؤلف، ومعالج نفسي سابق، ورجل أعمال، ومعلق سياسي تقدمي. كان هارتمان يستضيف برنامجًا إذاعيًا مشتركًا على المستوى الوطني، “برنامج توم هارتمان”، منذ العام 2003. كما استضاف برنامجًا تلفزيونيًا ليليًا، “الصورة الكبيرة”، بين العامين 2010 وأيلول (سبتمبر) 2017. أنتج هذا المقال “الاقتصاد للجميع” Economy for All، وهو مشروع تابع لمعهد الإعلام المستقل.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Civilization-Ending Climate Change Is Knocking On Our Door
المصدر: الغد الأردنية/ (الاقتصاد للجميع)