طبعا هذا سؤال استشراقي ومُستفز، لكنه يعاود الوثوب في وجوهنا من وقت لآخر. احد الإجوبة المشهورة على التساؤل الاستفزازي هو ان ” الحاكم لا يريد، والشعب غير جاهز”، وهو ما قاله ذات يوم خيرالدين باشا التونسي (١٨٢٠ – ١٨٩٠) والذي كان من رواد التنوير العثماني والاسلامي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. خير الدين القوقازي الأصل انتهى به المطاف في تونس مسؤولاً كبيرا في بلاط الباي احمد باشا، وأبدع في تقديم أفكار إدارية واصلاحية تجاوزت ما كان قائم بمراحل. كان وراء صدور اهم وثيقة “مواطنة” في العالم العربي سنة ١٨٥٧ ساوت بين التونسيين في الحقوق بغض النظر عن أية اعتبارات أخرى. آمن بشدة بمركزية التعليم في إنهاض المجتمعات، واعتبر ان التعليم الجيد هو أساس القوة الاقتصادية والعسكرية، وعمل على تحسين التعليم في تونس. كان يؤمن بشرط الحرية في بناء أمم قوية، ويقول ان الرجال الاحرار هم الذين يبنون مجتمعات صلبة. أصبح رئيس وزراء لتونس في سبعينيات القرن التاسع العشر، لكنه استقال وفشل في ترجمة أهم أفكاره على الأرض. لما سُأل لماذا لم يطبق أفكاره الليبرالية في إتاحة المجال لأهل البلد للانتخاب وإقامة حكومة منتخبة ديموقراطيا كان جوابه: الحاكم لا يريد، والشعب غير جاهز!
مر قرن ونصف على جواب خير الدين التونسي المرير: “الشعب غير جاهز”، وهو نفس الجواب الذي يردده كثيرون اليوم. أي مآل كان لتونس ان تتجه اليه لو أكمل خير الدين التونسي اندفاعته الاستنارية ونجح في دمقرطة تونس منذ ذلك الوقت؟ لا نعرف. لكننا نعرف ان “الحاكم لا يريد” الديموقراطية من يومها الى يومنا.
ونعرف ايضا ان مقولة “الشعب غير جاهز للديموقراطية” أصبحت دستور الاستبداد العربي وشعاره الاثير ومقولته المقدسة طيلة ازيد من قرن. وصار كثيرون يدركون ان هذه المقولة مُخاتلة ومُضللة لأنها لا تقول لنا كيف يمكن ان يجهزُ شعب ما للديموقراطية من دون ان يخوضها، ويجربها، ويفشل فيها مرة ومرتين ومرات، إلى أن تستقوي وتشتد. وكيف يمكن للديموقراطية ان تنجح من دون ان يمارسها الشعب ونخبه وشرائحه مرة ومرتين ومرات، وبعد كل تجربة يتم تصويبها وتعديل ما اختل فيها، واستبطان دروسها من قبل الناس، ناخبيهم ومنتخبيهم، فتترسخ شيئا فشئياً.
مقولة “الشعب غير جاهز للديموقراطية” هي المسوغ القوي الذي يحتمي به الدكتاتورين والطغاة والمستبدون ومناصروهم العلنيون والمواربون، وينجر وراءها عديدون بحسن نية لكن بسوء فهم. ليس هناك حل سحري تتحول خلاله المجتمعات والاوطان من الاستبداد الى الحرية والديموقراطية، ولا بد من المسارات والمخاضات الطويلة والمريرة والمؤلمة وذات الاكلاف العالية والتي ترافق عمليات التحول الديموقراطي. في نهاية الامر لا بد من نقطة بداية ما، ولا بد من جيل يأخذ على عاتقه المغامرة ويدفع الثمن الأعلى من اجل مستقبل حر. بخلاف ذلك سوف تجرجرنا مقولة “الشعب غير جاهز للديموقراطية” الى ما لا نهاية، ونظل نتلطى في وحل الاستبداد.
إدعاء ان “الشعب غير جاهز للديموقراطية” فيه حس وصائي واستعلائي من قبل نُخب متوترة إزاء شعوبها، ولا تقول لنا “متى” يصير الشعب جاهزا للديموقراطية او “كيف” او “من” الذي سوف يعمل على تجهيز الشعب للديموقراطية. هل ستقوم الأنظمة المُستبدة نفسها بهذه المهمة، وبالتالي تصنع حبل المشنقة حول عنقها؟ لا يفسر لنا أصحاب تلك المقولة كيف اشتغلت وتشتغل الديموقراطية في الهند، وسكانها اكثر من مليار ونصف المليار، وفيها مئات اللغات والأديان والاثنيات. وكيف اشتغلت وتشتغل الديموقراطية في العديد من الدول الافريقية التي تتنازعها القبليات والاثنيات والصراعات.
كل التخوفات من التحول الديموقراطي مُحقة مثل ان تعيد القبليات والطائفيات انتاج ذاتها على شكل أحزاب، وأن تسيطر الخطابات الشعبوية لمراحل من الزمن، وان تنفتح مجالات كبيرة وخطيرة للتدخل الخارجي، وان تعمل التنافسات والصراعات الانتخابية والبرلمانية على تعطيل او ابطاء التنمية (اذا كانت موجودة أصلا …)، وغير ذلك عديد. لكن لا بد من البلل ان أردنا خوض النهر للضفة الأخرى … لضفة إنتاج رجال احرار يبنون اوطاناً صلبة واوطاناً حرة. حكومات الاستبداد تنتج مجتمعات وافراد العبيد، وهذه جربناها وما زلنا نجربها حتى اليوم.
المصدر: ملتقى فلسطين