في خمسينيات القرن الماضي بدأت الولايات المتحدة الأميركية بتحديث سياساتها الإقتصادية بناء على توجيهات عالم الاقتصاد الأميركي المشهور ميلتون فريدمان، والتوجه نحو الاقتصاد الحر والسوق الحرة والشركات العابرة للحدود بهدف تدعيم وتقوية اقتصادها من جهة والسيطرة على دول العالم الثالث اقتصاديًا ونهب ثرواتها والتحكم بقرارها السياسي من جهة أخرى. في تلك الفترة تحركت مجموعة من الدول النامية للحد من تأثير هذه السياسة على بلدانها ولمنع ربط اقتصادها بالشركات الأميركية العابرة للحدود والذي يعني استلاب سيادتها والسيطرة على قرارها السياسي. تأثرت الخطة الاقتصادية الأميركية بقرارات تلك الدول وكانت أكثر الدول تأثيرًا على تلك الخطة بعض دول أميركا اللاتينية المحاذية للولايات المتحدة الأميركية. قررت أميركا وضع حد لسلوك تلك الدول عبر سلسلة من الخطوات بدأتها باستقدام مائة طالب من تشيلي – منحة دراسية مجانية – لتدريسهم العلوم الاقتصادية في جامعة شيكاغو بتمويل من مؤسسة فورد الأميركية فيما عرف وقتها بمشروع تشيلي. توسع المشروع فيما بعد ليشمل عددًا من دول أميركا اللاتينية وغيرها من الدول النامية.
كان الهدف تهيئة جيل من علماء الاقتصاد بمنظومة فكرية اقتصادية جديدة تتناسب مع المشروع الاقتصادي الأميركي وتنظر إلى السوق الحرة كمخرج من الأزمات الاقتصادية لبلدانها. بمعنى آخر كان الهدف غسيل دماغ اقتصادي للبلد المستهدف.
اختارت جامعة شيكاغو للإشراف على المشروع عالم اقتصاد أميركي زوجته تشيلية، وهيأت للطلاب جوًا من الراحة النفسية والمادية جعلتهم يثقون بالجامعة وأفكارها ويتبنون سياسات أميركا الاقتصادية كمخرج لأزمات بلادهم الاقتصادية. بعد عدة سنوات عاد معظم الطلاب إلى بلدهم أساتذة في علم الاقتصاد وهم مؤمنون بالسياسة الاقتصادية الأميركية أكثر من الأميركان أنفسهم، واستلموا معظم المناصب الإدارية والأكاديمية المتعلقة بالاقتصاد في تشيلي. وهكذا تغير خلال عقد من الزمان الفكر الاقتصادي التشيلي بما يتناسب مع الخطط الاقتصادية الأميركية.
فشلت الخطة الأميركية على المدى القصير بعد أن وصل لحكم تشيلي رئيس وطني حاول تكريس الديمقراطية بشكل حقيقي في بلده وعمل بجد لنهضة تشيلي على كافة المستويات ورفض الاستماع إلى الخبراء الاقتصاديين الذين تربوا اقتصاديًا في جامعة شيكاغوا، الأمر الذي دفع أميركا للانتقال إلى الخطوة الثانية وهي دعم بعض جنرالات الجيش التشيلي لتنفيذ انقلاب على الرئيس الشرعي وليتسلم الجيش الحكم في البلاد لعقود ويمارس الديكتاتور الجديد أشد عمليات التعذيب والاعتقالات التعسفية بحق شعبه ويقمع أي صوت معارض لسياساته وينفذ الخطة الاقتصادية الأميركية بحذافيرها فيما بعد وصولًا إلى انهيار البلد اقتصاديًا واعتمادها الكلي على أميركا سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا.
هذا السيناريو تكرر بشكل مطابق أو قريب جدًا من التجربة التشيلية في العديد من دول العالم من ضمنها أندونيسيا والبرازيل والأرجنتين والأرغواي .
كل المعلومات السابقة مذكورة بتفصيل طويل في كتاب عقيدة الصدمة للكاتبة ناعومي كلاين. أردت إيراده باختصار شديد لاستنباط بعض النتائج التي تصلح كمحددات لفهم السياسة الغربية والأميركية، خاصة وأن التجربة المصرية المؤلمة ما تزال حاضرة وتكاد تتطابق مع التجربة المذكورة في تشيلي مع فوارق بسيطة تتعلق باختلاف الزمان والأدوات وثقافة المجتمع .
1-أميركا ليست عدوة للديكتاتوريات بل هي الراعي الرسمي لها طالما تحقق لها مصالحها .
2-الديمقراطية الحقيقية في البلدان النامية هي عدو استراتيجي للدول الغربية الاستعمارية، ويعتبر وصول مرشح وطني مستقل للرئاسة أو مواقع القرار بإرادة شعبية عبر صناديق الإقتراع بمثابة خط أحمر تعمل أميركا وحلفاءها بكل استطاعتها لمنع حدوثه أو إفشاله بكل الوسائل المتاحة مهما كانت الكلفة البشرية والمادية باهظة .
3-شعارات السياسيين هي فقط للاستهلاك الإعلامي وللتلاعب بالرأي العام، إنها القفاز الحريري الذي يخفي قبضة حديدية تسعى لتحطيم تدريجي لكل ما يعترضها.
4-الدول الغربية الاستعمارية ليست جمعيات خيرية ولا وجود للأخلاق في سياساتها، وكل بعثات التعليم المجانية التي تقدمها تخفي في ثناياها أهدافًا أخرى تخدم مصالحها. وغالبًا ما يكون الهدف تغيير المنظومة الفكرية لمجال ما ( سياسة – اقتصاد – دين – ثقافة – فن ) تمهيدًا للتحكم عن بعد بهذا المجال في البلدان المستهدفة .
5-الجيوش – في الدول النامية – التي تتلقى دعمًا سنويًا من الدول الكبرى أو التي يتدرب كبار ضباطها في الدول الكبرى هي جيوش ارتهنت قراراتها المصيرية لتلك الدول، ولا يتوقع أحد أن تتحرك يومًا لتحرير مقدسات الأمة أو الدفاع عن الحدود. المهمة الأساسية لهذه الجيوش هي التحرك بأوامر الدول الراعية لها في الوقت المناسب بهدف إسكات الشعوب وقمع طموحاتها في التقدم والتنمية والتحرر والاستقلال الحقيقي، ومنع وصول الوطنيين والشرفاء إلى الحكم، وحماية الديكتاتوريات التي تعمل لصالح الدول الكبرى. بالطبع عندما نتحدث عن الجيوش فنحن نقصد قادتها المتحكمين بقرارها وليس الجنود أو صغار الضباط.
6-عندما تتحرك الشعوب بزخم كبير وتفرض شروطها وتنجح بإيصال مرشحيها الحقيقيين إلى السلطة عبر صناديق الإقتراع فإن الدول التي تنادي بالديمقراطية هي بالتحديد التي تحرك كل أدواتها في المنطقة لإفشال التجربة والقضاء عليها قبل أن يثبت الشرفاء أقدامهم في الحكم، بكافة الوسائل الإعلامية والاقتصادية والسياسية وصولًا إلى الوسائل العسكرية عبر تنظيم ودعم ورعاية الانقلابات والتي غالبًا ما تترافق مع موجة من عمليات التعذيب والانتقام والاغتيالات والاختطاف لنشر الرعب في عموم المجتمع تمهيدًا لفرض المنظومة السياسية والاقتصادية الجديدة التي ستحول البلد إلى مستعمرة. ولا تنسى الدول الديمقراطية التي دعمت الانقلابات وأشرفت على تفاصيلها أن تندد في الوقت نفسه بالانقلاب العسكري وربما تقاطعه وتشتمه على الشاشات.
7-الخصخصة والسوق الحرة المفتوحة للشركات العابرة للحدود والقروض الدولية الضخمة هي الخطوة الأولى لإسقاط البلد اقتصاديًا ومن ثم السيطرة على قراره السياسي والاقتصادي. إنه استعمار حديث على نار هادئة.
قامت الدول الاستعمارية التي انتصرت في الحرب العالمية الثانية بتقسيم العالم فيما بينها إلى مناطق نفوذ اقتصادي وسياسي، وعمدت إلى تأسيس البنك الدولي وصندوق النقد الدولي كوسيلة من وسائل التحكم باقتصاد الدول النامية الواقعة في مناطق نفوذها. تسعى هذه الدول إلى إبقاء الدول النامية في حالة عدم استقرار اجتماعي أو اقتصادي أو سياسي مستغلة الاختلافات الأيديولوجية والعرقية والقومية وضعف الأداء السياسي والاقتصادي في تلك الدول، وتعمل باستمرار – عبر أدواتها في المنطقة – على إثارة النعرات والاحتكاكات بين الدول وبين فئات المجتمع المختلفة لتحقيق الهدف ذاته.
الحروب المزمنة في الدول النامية وفشل الأداء الحكومي والفوضى الاجتماعية هي المستنقعات التي تفضلها الدول الكبرى لاصطياد سمكها السياسي والاقتصادي، وإن الاستقرار والديمقراطية والتطور الصناعي والتقني والتداول السلس للسلطة هي بمثابة تجفيف حقيقي لتلك المستنقعات، وإن وصول الشرفاء إلى السلطة وتحكمهم بالقرار السياسي والاقتصادي يمثل تهديدًا عميقًا لمصالح الدول الاستعمارية في مناطق النفوذ وعائقًا أمام سيطرتها على مقدرات وقرارات تلك البلدان( ومن هنا كان وصول الإسلام السياسي للحكم خطًا أحمرًا) لذلك تسعى بكل إمكاناتها لمنع الاستقرار السياسي والاقتصادي في تلك الدول حتى لو كان الثمن نهرًا من الدماء والمعاناة والمآسي والفقر والتعذيب لسكان تلك الدول. إن العقلية الاستعمارية ما تزال تتحكم بالدول التي انتصرت بالحرب العالمية الثانية حتى اليوم. إنها بعض من استراتيجيتهم في السيطرة على العالم ونهب ثرواته. والمشكلة الكبرى أن تلك الدول تجد دائمًا – عبر الترغيب أو الترهيب – في النخب السياسية والعسكرية والاقتصادية والإعلامية في بلداننا من ينفذ خططها ويحقق مصالحها دون أي اعتبار لمصالح وتطلعات الشعوب الحالمة بالحرية والتقدم والعدالة والتنمية.
المصدر: اشراق