بعد سقوط شبكة الأمان النفسي الذاتي، التي سيّرت يوميات اللبنانيين الثقيلة، تحل مكانها نظرية “الأمن بالصدفة”، ورسم سياسيات عامة وخاصة تتحكم بمفاصل البلاد والعباد، مستفيدة من القبول والإعتذار والإنسحابات من الحياة الحكومية وربما السياسية، المفتوحة على أسوأ الإحتمالات، يديرها ويرعاها “حزب الله”، كيفما أتفق ويريد.. بحِفظ من الولي الفقيه! تبقى المخاوف الأمنية مشروعة في لبنان، هذا ما حذر منه أكثر من طرف سياسي وقائد الجيش، وكان “حزب الله” إثر اعلان الرئيس المكلف سعد الحريري اعتذاره الخميس، قد أصدر تعميماً على مناصريه، دعاهم فيه الى عدم الانجرار الى أي استفزازات، القلق الأمني الذي يجري التنبيه منه او الترويج له، ليس مرتبطاً بهذه الاستقالة، انما بدرجة أكبر يتصل بتداعيات الانهيار، الذي يطال الدولة اللبنانية، وإمكانية استثمار بعض الجهات الخارجية الغضب في الشارع، لتوجيه رسائل امنية لأطراف داخلية ومنها “حزب الله”، كما يردد اعلاميون وحزبيون معروفون بقربهم من الحزب. التحسب والقلق ضروريان، في ظل التداعيات الاقتصادية والاجتماعية التي يعيشها اللبنانيون اليوم، أقله التدهور المستمر لقيمة العملة الوطنية أمام الدولار، وما يسببه ذلك من أزمات يمكن رصدها، وأخرى لا يمكن التكهن بها، ولكن ما يُطمئن اللبنانيين نسبياً، أن القوى الدولية والإقليمية، لا تمنح الغطاء السياسي لأي تفجير امني، يأخذ شكل المواجهة العسكرية والأمنية، في المقابل، فان ايران من خلال “حزب الله”، لا تشجع على قيام حرب مع إسرائيل…ومحاولات لتوريط الجيش بالشارع! وهي ليست مضطرة الى خوض حرب داخلية في لبنان، طالما أن “حزب الله” مسيطر على القرار السياسي الداخلي والخارجي، ويتحكم بالخريطة العسكرية والأمنية بشكل واضح وصريح. لذا فان مصادر مطلعة ودقيقة، لا ترى ان “المخاوف هي من انفجار المواجهات على نمط الحرب الأهلية”، كما لا ترى “خطرا إسرائيليا داهما من خلال تنفيذ حرب إسرائيلية ضد حزب الله”، بل تظهر اطمئنانها لأن “مختلف الأطراف الإقليمية والدولية، لا ترى مصلحة في استحضار الحرب الاهلية الى لبنان مجددا”. وخلصت الى انه بمعزل عن المواقف الرسمية المعلنة لهذه الأطراف، فان “مؤشرات الحروب لا بد أن تظهر على مستوى التسلح والتمويل، وهذا غير موجود، بل ثمة إصرار على تقديم مساعدات مباشرة، للجيش اللبناني والأجهزة الأمنية من مختلف الدول العربية والغربية”. اعتذار الرئيس الحريري لن يغير الواقع، فالحريري اكتشف أخيرا انه بات غير قادر على المشاركة، في تغطية قرار “حزب الله” بعدم تشكيل الحكومة، وما فعله هو استنقاذ ما تبقى لديه من نفوذ وتأثير شعبي، في المقابل فان رئيس الجمهورية ورئيس التيار الوطني الحر، يتجهان الى الاحتفاء بإعتذار الحريري، باعتباره إنجازا سياسيا للعهد، وانتظار توجيهات الأخ الأكبر السيد حسن نصرالله، اوالصديق المتبقي في معركة تقرير مستقبل باسيل السياسي والضامن، لنهاية غير مأساوية لعهد “الرئيس المقاوم”. بتقدير مصادر مختلفة أن الحكومة لن تشكل، هي لم تشكل برئاسة الحريري، ولن تستنسخ حكومة حسان دياب برئاسة مثيل له، طالما ان رؤساء الحكومات السابقين لن يقبلوا بما رفضه الحريري. حكومة حسان دياب المستقيلة والمعلقة بتصريف الاعمال، هي من يبقى كخيار يلائم “حزب الله” وحليفه بعدما انسحب الحريري، وبالتالي فالانهيارات المستمرة في طبقات جهنم، هو ما ينتظره اللبنانيون من هذه المنظومة الحاكمة، أي أن على اللبنانيين ان يتأقلموا مع واقع يشبه سوريا اليوم واليمن، وليس العراق على رغم البؤس الذي يعانيه في ظل سطوة الميليشيات، باعتبار ان العراق لديه موارد مالية نفطية تقارب المئة مليار دولار سنويا، تخفف من أعباء العيش بعد النهب المنظم لقسم من هذه الأموال. “صوملة” لبنان هو ما يستعد “حزب الله” لاستنزاله واسقاطه، على ما تبقى من لبنان، فهو النموذج الملائم لحفظ السلاح ودور المنظومة السياسية والأمنية والعسكرية التي يشرف عليها، باعتبار ان كل الحلول الموضوعية للخروج من الأزمة، تتطلب تغييرا جذريا في دور “حزب الله” وطبيعته الأمنية والعسكرية، وتفكيكا لمنظومة الفساد التي يحميها ويعزز نفوذها. مزيد من الانهيارات المالية والمعيشية، سيوفر للبنان كامل شروط الانتساب لمحور ايران، ويكفي لبنان بنظر هذا المحور، تلك الأموال التي يرسلها المهاجرون الى عائلاتهم لمنع المجاعة، فيما يوفر نظام المافيا الذي يحكم لبنان، موارد مالية للمنظومة واطرافها عبر التهريب واموال الدعم. لبنان ولاية من ولايات الفقيه في المنطقة العربية، وتغيير هذا الواقع لن يتم بسلاسة، وبقبول ايران بأن يعود لبنان الى سابق عهده كدولة فيها حيّز من الاستقلالية والسيادة والتنوع، يتيح للبنان تثمير ثروة علاقاته الخارجية، بما يحفظ له دور مقبول ومحل اهتمام عربي ودولي، انضمامه مكرها للمحور الإيراني، يؤسس لدولة ستكون في احسن الأحول امتدادا للنموذج الاسدي الذي يحكم سوريا. في المقابل تبقى أسئلة حول مدى طواعية اللبنانيين تجاه هذا الواقع، ومدى قدرة النخب اللبنانية المسكونة بهوية لبنان العربية، وبانفتاحه الخلاق على الحضارة الغربية، ومدى تقديسها للحرية والتنوع، بما هي مؤسسة لسيادة لبنان، الأرجح ان عملية استنقاذ لبنان باتت تتطلب قبل الانتخابات توفير مساحة يمكن اجراء انتخابات فيها وتتمتع بمواصفات الحدّ الأدنى من دولة القانون والحريات.
المصدر: جنوبية