مخطئ من يعتقد أن أميركا صديقة لإيران، ومخطئ أيضاً من يعتقد خلاف ذلك؛ فالأمور لا تقاس هكذا بحيث أن العالم ينقسم إلى فسطاطين؛ يمين ويسار، شمال وجنوب، معنا أو علينا، فالسياسة والمصالح المتبادلة والمتبدلة هي من تتحكم بطبيعة العلاقات بين الدول بعضها البعض، وكذلك هي من يرسم الخطوط المتشابكة في نسيج المنظومة الدولية دولاً وكيانات.
في كل مرة تتمادى فيها إيران ولو “قليلاً” تعود أمريكا لتذكرها بأنها الأقوى على كوكب الأرض وأن عليها عدم الخروج على قواعد الاشتباك وخطوط التماس الافتراضية، وهكذا تستمر لعبة القط والفأر في الشرق الأوسط.
عملت إيران بدهاء ومثابرة وحنكة عرفت عنها على مدى التاريخ؛ على إقناع رعاع ميليشيا الحشد الشعبي المتمكنة في العراق وسورية بأنهم امتداد تاريخي لـ (جيش التوابين) الذي ظهر في الكوفة عقب مقتل الإمام الحسين بن علي سنة (61) هجرية وأطلق صرخة (يا لثارات الحسين) للقصاص والثأر من قتلته، وهم ايضاً أسباط المختار بن أبي عبيد قاتل جمعاً من قتلة الحسين، وأننا جميعاً نحن (الشاميون) أحفاد يزيد بن معاوية، وبالتالي فأولي الدم من آل البيت أوكلوا أحفاد سليمان بن صرد الخزاعي والمختار الثقفي وكالة دائمة وقائمة مدى الدهر للنيل من الفئة الباغية التي هي (نحن الشاميون) ويندرج تحت هذا المسمى كل من لا يؤمن بولاية الفقيه ورؤيتهم لأحداث “كربلاء” وواقعة “الطْف” أياً كان معتقده أو مذهبه، وعلى ذلك فالحرب بين الفريقين مفتوحة ومستمرة منذ 1400 سنة خلت وإلى ما شاء الله!
فكرة الثأر المستمرة وشعار “زينب لن تسبى مرتين” لدى عوام الشيعة في قيعان المجتمعات المغيّبة والمهمشة على حواف الحضارة؛ أذكاها على مَر العصور عمل منظم ودؤوب منذ منتصف القرن الهجري الأول تنامى في عهد الدولة الصفوية مطلع القرن السادس عشر الميلادي؛ واسْتعرَ مع سيطرة نظام الولي الفقيه على السلطة بعد “الثورة الإسلامية” في إيران عام 1979م، حوامله الأساسية فتاوى متواترة لرجال دين فرس تبارك الأيدي التي “تُضمخ” بدماء قتلة الحسين وسباة زينب الذين هم دائماً (الشاميون) المتقدم ذكرهم.
من لديه أدنى اطلاع على الخطوط العريضة لبذور الشقاق بين السنة والشيعة من المسلمين؛ يدرك تماماً أن أصل الخلاف ليس دينياً؛ بل سياسياً، مبعثه النزاع على السلطة، وأن قتلة الحسين ليسوا فقط (الشاميون) وإنما كان غالبهم من أهل الكوفة من العراقيين الذين كانوا هم المنفذون، وعلى ذلك فالكل سواء في الفعل والإثم وما بينهما،
فمن قال إن هذه الفئة هي الجانية وتلك هي الضحية بعد مرور قرون طويلة على الواقعة، ولماذا الفرس فقط هم القيّمون على المسألة والعرب الشيعة مهمشون ودورهم ينحصر فقط في الضغط على زناد البندقية المصوبة سلفاً على هدفها المناوئ لإيران.
بالعودة إلى بلاد العم سام تلك البعيدة القابعة خلف المحيط المتحكمة بمصائر كثير من شعوب المعمورة ونحن منهم؛ نجدها وعلى مدى عقود من عمر العلاقة مع إيران قد أجادت تماماً مناورة إيران وتدوير زوايا الخلاف معها بمختلف الظروف بحيث أن قضية الخلاف الأمريكي – الإيراني لم تكن يوماً قضية معزولة بمسار مستقل عن قضايا المنطقة الساخنة، بل الملتهبة مثل القضية الفلسطينية والقضية السورية والعراق واليمن ولبنان وفلسطين وسواحل الخليج، ناهيك عن علاقة “الثورة الإسلامية” بالملاحدة الروس والصينيين!
فإيران لها قرص في كل عرس، وقد جعلت من نفسها رقماً يصعب تجاوزه في المنطقة من خلال تغلغلها عميقاً في هذه الدول بحكم القرب الجغرافي والعمق الديني والتاريخ المتشابك ونهج نظام الولي الفقيه القائم على تصدير الثورة لشعوب الكرة الأرضية جمعاء.
الملف الأكثر إلحاحاً الآن من وجهة نظر إدارة “بايدن” هو الملف النووي الإيران والعودة إلى ” خطة العمل الشاملة المشتركة” المعروفة باسم اتفاق إيران النووي التي جرت عام 2015، والتي انسحب منها الرئيس الأمريكي السابق “دونالد ترامب” في الثامن من مايو/أيار عام 2018، وهذه العودة تستلزم تنازلات حتمية من كلا الجانبين في سبيل الهدف المشترك، هذه التنازلات سنكون نحن العرب –وفي سورية بالذات- شيء منها، ويؤكد ذلك كواليس الاتفاق النووي السابق عام 2015 وما رشح من مساومة الرئيس الأمريكي الأسبق “باراك أوباما” بالحقوق السورية مع إيران لإنجاز الاتفاق، نحن الذين لا نملك من أمرنا الكثير، وأصبحنا ورقة مساومة في أيدي الفرقاء.
بايدن يقول إن إيران لن تمتلك سلاحاً نووياً في عهده، والمتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية سعيد خطيب زاده يقول: أن إيران لن تفاوض للأبد بشأن الاتفاق النووي، وذلك ليظهر للعالم أنهم في عجلة من أمرهم، والحقيقة أنهم في غاية الحبور في هذه المرحلة التي شهدت صعود المتشدد “رئيسي” رئيساً لإيران لأن مجال الشد والجذب والمناورة والتسويف لقي مجالاً أرحب هنا وسيصل بهم إلى ما قبل نهاية حقبة بايدن الأولى وحينها سيفرح المظلومون في الأرض ممن يوالون إيران بإعلان نجاح أول تجربة نووية لدولة “الثورة الإسلامية” أو يتوصل الفرقاء لاتفاق يرضي طهران ويفتح لها الخزائن المغلقة المكتنزة بالذهب؛ لتذهب بها إلى مرحلة بايدن الثانية أو ما بعد بايدن… أما نحن فذاك الشيء الذي يقال عنه دائماً أنه بين المطرقة والسندان… وما زلنا بانتظار “غودو”.