سرعان ما عادت لهجة موسكو إلى التصلب في ما يخص معبر المساعدات الأممية الوحيد في “باب الهوى”، ووصف مندوبها في الأمم المتحدة مطالبات زملائه الغربيين بالإبقاء على المعبر بالنفاق الإجرامي. التصعيد الروسي كان قد بدأه وزير الخارجية لافروف، من دون حصول ما يمكن وصفه باستفزاز من أية جهة، إلا إذا كانت المناشدات الدولية والإنسانية قد استثارت “ذئبية” الديبلوماسية الروسية.
مع انتهاء قمة بايدن-بوتين، لم يرشح خبر عن التطرق إلى الشأن السوري بينهما، خاصة ما يتعلق بالشق الإنساني الذي ركز عليه مسؤولو إدارة بايدن قبل القمة. من جهته حاول بوتين إشاعة أجواء إيجابية عامة في مؤتمره الصحفي الذي أعقب اللقاء، وامتدح نظيره الأمريكي مقارنة بسلفه ترامب، ما أوحى بإمكانية التفاهم بينهما في العديد من الملفات الصغرى ومنها الاتفاق حول معبر أو اثنين لإدخال المساعدات إلى الشمال السوري.
رفعُ السقف لفظياً في نيويورك أتى مسنوداً بالغارات الروسية على مناطق في إدلب، كما في استهداف الطيران الروسي منطقة عين شيب قبل يومين، مع ملاحظة استهداف نقطة مراقبة تركية من قبل قوات الأسد وهو ما لا تفعله عادة إلا بالتنسيق مع موسكو أو بأوامر منها. أمس أيضاً بدأت القوات الروسية مناورات بحرية وجوية على الساحل السوري، وهو استعراض للقوة له مغزى إضافي في الوقت الذي تنسحب فيه القوات الأمريكية من أفغانستان والعراق، وتسحب بطاريات صواريخ باتريوت من قواعد أخرى في المنطقة.
المؤشرات جميعاً تفيد بسعي بوتين إلى منازلة يخرج منها منتصراً، وكان بايدن قد فوّت عليه فرصة الاستعراض إعلامياً بعدم الدخول في مؤتمر صحفي مشترك بعد انتهاء القمة. بالمقارنة، يرى بوتين نظيره الأمريكي رئيساً ضعيفاً لبلد قوي بينما يرى نفسه رئيساً قوياً يعوّض ضعف بلاده بالقياس إلى القوة الأعظم. امتداحه بايدن بعد القمة، وحتى ذمّه ترامب الذي طالما تعامل معه كصديق، يحتمل الصدق والمكر معاً، فبايدن مقروء، وهو ليس مثل ترامب الذي تسهل قراءة بنيته النفسية وعليها يصعب التكهن بمدى الشطط في ردود أفعاله. مع بايدن عادت السياسة الأمريكية إلى حصافتها، حيث لا مفاجآت، وهذا خبر سار لبوتين.
في النزاعات والمنافسات الصغيرة لا أهمية لفائض القوة الاستراتيجي، القيمة هي للقوة المستخدمة فعلاً، وبوتين لا يتوانى عن استخدام قوته هنا وهناك، من القرم وأوكرانيا وصولاً إلى سوريا. رد الفعل الغربي، الذي اقتصر على العقوبات في ملف القرم وأوكرانيا، لا يردع بوتين عن المضي في أسلوبه الذي يراه ناجعاً لغاية الآن، ولو استطاعت باريس وبرلين فرض إرادتهما لكانت القمة الأوروبية الأخيرة قد أعادت التطبيع مع بوتين باستعادة انعقاد القمة الأوروبية-الروسية، وفي دلالة على التراجع الأوروبي والإقرار بفشل أسلوب العقوبات.
أما في سوريا فلم يلقَ التدخل الروسي أدنى معارضة غربية، لم تُواجه الآلة العسكرية الروسية ولو باعتراض لفظي، والتعاطي معها يتعدى التسليم بوجودها إلى اعتباره وجوداً إيجابياً للضغط على بشار وطهران! هكذا اعتاد بوتين على أن يقبض في سوريا لقاء دوره المُتخيَّل، فأُعطيت له السيطرة على مساحات واسعة بانسحابات طوعية، وعلى مساحات أخرى مُنع فيها تسليح خصومه بما يتناسب مع التصدي له.
الفكرة السائدة عن قدرة واشنطن على قلب الطاولة السورية على بوتين تصلح للمماحكة النظرية أكثر مما هي واردة فعلاً، فأولاً يجب أن تتخذ واشنطن قرار قلب الطاولة، وهو ما لن تفعله ضمن المعطيات الحالية. التصعيد العسكري الروسي المتواتر لا يقترب من القوات الأمريكية، ولن يقترب منها، وهناك أمام بوتين مساحات شاسعة من مناطق النفوذ التركي ليستعرض عضلاته فيها. وإذا حال الفيتو الروسي دون إقرار تدفق المساعدات الأممية من معابر خارج سيطرة الأسد فذلك لن يُحدث فرقاً في الاستراتيجية العامة الأمريكية، وكل ما ستفعله واشنطن هو إلقاء اللوم على موسكو وتسجيل نقاط “أخلاقية” لا تضير بوتين ولا تنفع السوريين.
استباقاً لاجتماع مجلس الأمن، استفاقت الديبلوماسية الروسية على مسار أستانة المنسي، فدعت إلى اجتماع للثلاثي مطلع الشهر القادم. تريد موسكو الإيحاء بأنها تنشط في المسار السياسي السوري، بخلاف واشنطن التي أبدت اهتماماً بالمساعدات الإنسانية وحسب. أيضاً تريد موسكو إبلاغ واشنطن بأن أنقرة مضطرة للتفاهم مع موسكو، حتى عندما تكون مناطق نفوذها تحت القصف الروسي، أو عندما تتعرض قواتها في تلك المناطق للقصف. فضلاً عن ذلك، هي فرصة لإبراز التحالف الروسي-الإيراني، حيث من المتوقع حصول إيران على حوافز أمريكية تخص نفوذها في سوريا، الحوافز التي يُتوقع أن تكون على حساب النفوذ الروسي بعدما كانت الإدارة الأمريكية السابقة تطالب بالعكس.
تهوّل موسكو من حجم الاستحقاق الإنساني المقبل، فتصوّره كمنازلة بين بيوتين وبايدن، بينما الثاني منهما لا يضع “ولن يضع” ثقل بلاده في الميزان من أجل تفصيل غير موجود أصلاً ضمن أولويات إدارته. فوز بوتين محسوم سلفاً، فقرار تمديد العمل في معبر باب الهوى لن يمر من دون الحصول على مكسب ما، إما بقضم قطعة نفوذ جديد، أو بالموافقة على الإبقاء على المعبر لقاء مرور المساعدات الذاهبة إلى الإدارة الذاتية عبر سلطة الأسد، ومن المتوقع أن يكون تدفق النفط من الإدارة إلى الأسد واحداً من المطالب.
المداولات في مجلس الأمن لن تكون سهلة، والوصول إلى تسوية سيستغرق جهداً ووقتاً يُبرز من خلالهما الجانب الروسي تحكمه وقدرته على فرض مشيئته. وفي النهاية لا يُتوقع الوصول إلى قرار يحترم معاناة المحتاجين في كافة المناطق السورية، بل يُتوقع أن تكون مدة القرار الجديد ستة شهور فقط، ليعود بوتين إلى ممارسة الابتزاز لقاء السماح بوصول المساعدات، أو ليمنع وصولها إذا استدعت مصالحه ذلك. يفوز بوتين في كل الأحوال مادام الدب الروسي فالتاً في سوريا بمباركة جماعية، ولا عزاء للسوريين المحتاجين بأنه قد يخسر من منظور الحسابات الاستراتيجية البعيدة جداً.
المصدر: المدن