مع نشوب كل أزمة في العلاقات المغربية الإسبانية، تتجدد مطالب مغربية باسترجاع مدينتي سبتية ومليلة، فما قصة تلك المدينتين الموجودتين في الشمال المغربي والخاضعتين للسيادة الإسبانية منذ قرون؟
مستعمرات قديمة
تعتبر مدينتا سبتة ومليلة من أقدم المستعمرات في شمال أفريقيا، حيث استغلت القوات الأوروبية ضعف إمارة بني الأحمر في غرناطة في القرن الخامس عشر الميلادي، ليقوم البرتغال باحتلال سبتة، والإسبان مليلية، وأصبحت سبتة تحت النفوذ الإسباني على إثر احتلال إسبانيا للبرتغال.
وسيطر الرومان على مدينة سبتة عام 42 ميلادية، وفي نحو عام 442 تمكنت قبائل الوندال من طرد الرومان من المدينة إلى أن سيطر عليها البيزنطيون ثم القوط القادمون من إسبانيا، وفي القرن الثامن الميلادي شكلت مدينة سبتة قاعدة الغزو الإسلامي لإسبانيا بقيادة طارق بن زياد، إلى أن احتلها البرتغال، وعلى إثر اعتراف إسبانيا باستقلال البرتغال تنازلت الأخيرة عن سبتة لإسبانيا بمقتضى معاهدة لشبونة لعام 1668.
يعتبر المؤرخ المغربي محمد بن عزوز حكيم، أن “قضية سبتة ومليلية هي من مخلفات المواجهة بين العالم الإسلامي وأوروبا الصليبية، فهما أقدم المستعمرات في العالم، بالنسبة إلى سبتة فقد احتلها البرتغال 21 أغسطس (آب) من عام 1415، وقد كانت أوروبا تريد احتلال المغرب برمته بروح صليبية مندفعة، في سياق رد الفعل على الوجود الإسلامي الطويل في الأندلس، ذلك أنه قبل سقوط مدينة غرناطة، آخر الممالك الإسلامية، قام البرتغاليون باحتلال مدينة سبتة”، معتبراً ذلك إبرازاً للقوة أمام الغرناطيين الذين كانوا لا يزالون يقاومون من أجل البقاء، وانتقاماً من المسلمين في إطار ما سمي “حروب الاسترداد”، حيث تمكن البرتغاليون حينها من احتلال سبتة والقصر الصغير وطنجة وأصيلة والجديدة.
وتعاقب على احتلال مدينة مليلية كل من الفينيقيين في القرن السابع قبل الميلاد، ثم القرطاجيين ومملكة موريتانيا ثم الرومان، إلى أن خضعت للسيادة الإسبانية عام 1497 على إثر احتلال إسبانيا للبرتغال، كما تحتل إسبانيا حتى الآن الجزر الجعفرية الثلاث، وجزر الكناري، وصخرة الحسيمة، وصخرة قميرة، وجزيرة المعدنوس (ليلى)، وجزيرة البران.
موقع استراتيجي
تقع مدينة سبتة في أقصى الشمال المغربي مطلة على مضيق جبل طارق، إذ تبلغ مساحتها نحو 19 كيلومتراً مربعاً، بينما يبلغ تعداد سكانها 77 ألف نسمة، وهم خليط من النصارى والمسلمين وقليل من اليهود والهندوس، فيما تقع مدينة مليلية في شمال شرقي المغرب، تبلغ مساحتها 12 كيلومتراً مربعاً، ويبلغ تعداد سكانها نحو 79 ألف نسمة، 65 في المائة منهم مسيحيون، و35 في المئة مسلمون، مع وجود أقلية يهودية.
وعملت إسبانيا على تكريس الوضع القائم على إثر منح المدينتين حكماً ذاتياً بموجب قرار البرلمان الإسباني الصادر في عام 1995، ويعتمد اقتصاد المدينتين على حيوية قطاع النقل، إضافة إلى استفادتهما من فضاء للتجارة الحرة، الأمر الذي أسهم في جعلهما قاعدة لتهريب السلع نحو المغرب سنوات، كما يرتكز اقتصاد المدينتين على الميناءين البحريين اللذين تحتويهما، واللذان يستخدمان بالأساس كمراكز صيد الأسماك وفي نقل النفط.
فوارق بنيوية
تشهد المدن المغربية وتلك الخاضعة للسيادة الإسبانية فارقاً كبيرة من حيث القدرة الشرائية، ففي الوقت الذي لا يتعدى فيه الحد الأدنى للأجر بالمغرب 300 يورو، يصل الحد الأدنى للراتب بسبتة ومليلة إلى 1100 يورو.
يعزو رئيس مرصد الشمال لحقوق الإنسان محمد بنعيسى ذلك الفارق إلى إيلاء السلطات الإسبانية أهمية قصوى لمستوى الرفاهية بالمدينتين إلى حد تفوق تلك التي توليها للمدن الإسبانية الأخرى، بهدف منع نشوب أي نزعة لدى السكان المغاربة الأصليين من أجل العودة لوطنهم، مشيراً إلى أنه بعد استقلال المغرب من الاستعمار الفرنسي عام 1956 عملت السلطات الإسبانية على إيلاء أهمية للمدينتين بخصوص البنية التحتية ومستوى المعيشة لدى السكان، إضافة إلى مجالات الصحة والتعليم والنقل، حيث يستفيد سكان المدينتين وبالخصوص الإسبان من امتيازات لتشجيعهم على الاستيطان بالمدينتين، بالتالي حتى لا يكون للسكان المغاربة سبق على المستوى الديموغرافي.
ويؤكد بنعيسى أن أهدافاً سياسية تقف وراء الاهتمام الإسباني بتحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في مدينتي سبتة ومليلية تتمثل في “منع قيام أي نزعة مغربية نحو استقلال السكان الأصليين، خصوصاً أن الفرق بين المدينتين ومدن المغرب واضح، إذ تعاني المناطق المحاذية لسبتة ومليلية الفقر والهشاشة والبطالة وغياب مرافق صحية وتعليمية ذات جودة، إضافة إلى انتشار مجموعة من الظواهر الاجتماعية ذات الطابع البنيوي”.
وتعيش المناطق المحاذية لمدينتي سبتة ومليلة بالأساس على تجارة السلع المهربة من تلك المدينتين، حيث بلغت قيمة تلك السلع بحسب إحصاءات رسمية ما بين 15 و20 مليار درهم (ما بين مليار و600 ألف دولار، و2 مليار و240 ألف دولار)، ومع تصاعد المطالب بإنهاء المظاهر المحطة بكرامة العديد من المغربيات اللاتي يمتهن تهريب السلع من المدينتين من جهة، ورغبة السلطات المغربية في محاصرة كل من سبتة ومليلة اقتصادياً بعد تصاعد الخلاف بين المغرب وإسبانيا، قامت الرباط بإغلاق الحدود مع المدينتين بشكل كلي في 13 مارس (آذار) من عام 2020.
مطالب باسترجاع المدينتين
تتوالى مطالب شعبية ورسمية مغربية باسترجاع مدينتي سبتة ومليلة، وذلك تزامناً مع تفجر كل أزمة جديدة بين المغرب وإسبانيا، ومنذ استقلاله عام 1956 يعارض المغرب السيادة الإسبانية على المدينتين حيث يعتبرهما امتداداً لترابه، وكانت زيارة الملك الإسباني السابق، خوان كارلوس لمدينة سبتة في نوفمبر من عام 2007 أثارت غضب المغرب مما أسهم في تجديد مطالبته باسترجاع المدينتين.
وفي عام 2015 اعتبر رئيس الحكومة المغربية عبد الإله بنكيران، أن الوقت لم يحن بعد للمطالبة بالمدينتين، وفي ديسمبر (كانون الأول) الماضي أثارت تصريحات رئيس الحكومة الحالي سعد الدين العثماني غضب إسبانيا، حيث صرح العثماني بأن “سبتة ومليلية من النقاط التي من الضروري أن يُفتح فيها النقاش. إن الملف معلق منذ خمسة إلى ستة قرون، لكنه سيفتح في يوم ما”.
ويشير المؤرخ المغربي ابن عزوز إلى أن وضعية مدينتي سبتة ومليلة “هي نتيجة للأخطاء التي ارتكبتها الحكومات المغربية المتوالية، أولها أنه لما انضم المغرب إلى الأمم المتحدة بعد حصوله على الاستقلال، لم يعبر عن تحفظه على المبدأ القائل إن الحدود الاستعمارية التي رسمها المستعمر يجب أن تظل كما هي، بالشكل الذي جعلها قانونية دولياً، وهي الحدود التي رسمها الموظفون والعسكريون الأوروبيون في مكاتبهم، وألحقت أضراراً بالحدود الترابية التاريخية للمغرب”.
وأضاف، “كان على المغرب ألا يقبل ذلك المبدأ ويرفضه، هذا من جهة، ومن جهة ثانية لما أنشئت اللجنة الرابعة في الأمم المتحدة المكلفة بتصفية الاستعمار، لاحظنا أن إسبانيا بمجرد حصولها على العضوية في الأمم المتحدة، سجلت مباشرة قضية جبل طارق على أساس أنها جزء لا يتجزأ من المملكة الإسبانية، لكن المغرب لم يعمل إبان تلك الفترة على تسجيل الأقاليم المستعمرة في الشمال والجنوب على أساس أنها محتلة، ويطالب باستقلالها، وتأخر الأمر حتى يناير (كانون الثاني) 1975 حيث طرح الموضوع على الأمم المتحدة”.
وتابع ابن عزوز أن “الخطأ الثاني الذي ارتكبه المغرب، متعلق بالفترة التي كانت إسبانيا منكبة على وضع دستورها الجديد بعد سقوط نظام فرانكو الديكتاتوري، ذلك أنه لما وصلنا من أصدقائنا الإسبان عزم اللجنة المكلفة بوضع الدستور، التنصيص على أن سبتة ومليلية إسبانيتين، باعتبارهما جزءاً من التراب الإسباني، طالبنا بالتحرك ضد هذه الخطوة، غير أنه وللأسف فإن الحكومة المغربية لم تحرك ساكناً حينها، ومرت القضية كما أراد الإسبان ومن دون أن يتوقعوا ذلك”.
وعن المطالب الرسمية باسترجاع مدينتي سبتة ومليلة يقول المؤرخ المغربي “أتذكر أن الحسن الثاني- رحمه الله- كان قد اقترح في أواخر الثمانينيات على ملك إسبانيا تشكيل لجنة مزدوجة للتفكير في إيجاد حل للمدينتين، بما في ذلك التفكير في الحقوق المشروعة للمقيمين الإسبان في المدينتين، إلا أن الملك خوان كارلوس لم يكلف نفسه عناء الرد على المقترح المغربي إلى اليوم، ورغم تجديد الدعوة إلى الفكرة ذاتها من قبل محمد السادس على الملك ذاته، حتى تكون العلاقة بين البلدين واضحة فيما يخص هذا الموضوع، فإن الإسبان للأسف يعتبرون أنفسهم موجودين هناك بالقوة، وليسوا في حاجة للتفكير أصلاً في الموضوع، لقد كرّسوا وجودهم الاستعماري بروح صليبية ظاهرة”.
قضية الهجرة
تشكو مدينتا سبتة ومليلة من ضغط الهجرة السرية، حيث أصبحت منذ سنوات وجهة للمهاجرين غير النظاميين المغاربة والأفارقة من جنوب الصحراء قصد الانتقال إلى أوروبا، كان آخر فصول مسلسل الهجرة ذلك، اقتحام نحو 8 آلاف مهاجر مغربي غير شرعي بمن فيهم قاصرون لمدينة سبتة في مايو (أيار) الماضي، وذلك جراء تداعيات الأزمة في علاقات الرباط ومدريد، إثر استقبال إسبانيا لزعيم جبهة البوليساريو قصد العلاج من فيروس كورونا.
وفي الوقت الذي اعتبر فيه المغرب أنه لا يعمل شرطي مرور لصالح جارته الشمالية، اتهمت إسبانيا المغرب بتسهيل مهمة المهاجرين، وبتسخير قضية الهجرة من أجل ابتزازها، حيث صرحت وزيرة الدفاع الإسبانية مارغريتا روبليس بأنه “اعتداء على الحدود الإسبانية وحدود الاتحاد الأوروبي، وهذا أمر غير مقبول بموجب القانون الدولي”، متهمة المغرب باستغلال القاصرين، قائلة “نحن لا نتحدث عن شبان تتراوح أعمارهم بين 16 و17 عاماً، لقد سمح لأطفال لا تتجاوز أعمارهم 7 أو 8 سنوات بالمرور وفقاً لمنظمات غير حكومية، في تجاهل للقانون الدولي”.
وتبنى البرلمان الأوروبي بأغلبية 397 صوتاً، الخميس الماضي، قرار ينص على أن “رفض استخدام المغرب لضوابط الحدود والهجرة، لا سيما القصر غير المصحوبين بذويهم، يشكل أداة للضغط السياسي على دولة عضو بالاتحاد الأوروبي”، في حين عبر المغرب عن رفضه لتوجه البرلمان الأوروبي، حيث اعتبرت وزارة الخارجية المغربية القرار أنه “لا يغير من الطبيعة السياسية للأزمة الثنائية بين المغرب وإسبانيا”، مشيرة إلى أن “محاولة إضفاء الطابع الأوروبي على هذه الأزمة لا يجدي نفعاً، ولا يغير بأي شكل من الأشكال طبيعتها الثنائية وأسبابها الجذرية ومسؤولية إسبانيا في بدء هذه الأزمة، وأن توظيف البرلمان الأوروبي كأداة في هذه الأزمة جاء بنتائج عكسية”.
وشددت الخارجية المغربية على كون “هذا القرار لا يتوافق مع سجل التعاون النموذجي للمغرب مع الاتحاد الأوروبي في مجال الهجرة، إن الذين ينتقدون المغرب في هذا المجال، هم أنفسهم المستفيدون من النتائج اليومية والملموسة لهذا التعاون على أرض الواقع”، مشيرة إلى أنه “لا يمكن لأحد في أوروبا أن يشكك في جودة الشراكة بين الاتحاد الأوروبي والمغرب في جميع المجالات، بما في ذلك الهجرة، فالأرقام الموجودة تؤكد ذلك، منذ سنة 2017، ما مكن التعاون في مجال الهجرة من إجهاض أكثر من 14000 محاولة هجرة غير نظامية، وتفكيك 5000 شبكة تهريب، وإنقاذ أكثر من 80500 مهاجر في البحر ومنع عدة محاولات اعتداء لا حصر لها”.
وفي آخر فصول التجاذبات بين المغرب وإسبانيا، تتجه مدريد إلى فرض التأشيرة على سكان المدن المجاورة لمدينتي سبتة ومليلة بعد ما كانوا معفيين منها عقوداً.
المصدر: اندبندنت عربية