بداية، لا بد من تأكيد أن أبشع أنواع الظلم الجماعي هو الظلم السياسي الذي يأتي مع الاحتلال أولاً (احتلال شعبٍ لشعبٍ أو دولة لأخرى) ثمَّ مع أنظمة حكم الاستبداد بأشكاله كافة. وغالباً ما يستدعي هذا الظلم الجماعي أمرين على نحو عفوي، مقاومته أولاً ثم بروز ظاهرة التطرّف شكلاً من أشكال المقاومة. ومن هذه الحقيقة/ البديهة يمكن الدخول إلى انتفاضة القدس التي هي حلقة جديدة في سلسلة المقاومة الفلسطينية التي لم تهدأ أو تتوقف منذ وعد بلفور، وهي مستمرّة على نحو أو آخر تبتدع أشكالها وسبلها إلى أن تستنفد مبرراتها، أي إلى أن يحقّق الشعب الفلسطيني غاياته الوطنية، فالقضية الفلسطينية ليست قضية طارئة أو عابرة حتى تجعل المرء يتوه عندما ينظر إلى طبيعة ما يجري، فتجعله يتخطّى جوهرها الرئيس إلى آخر فرعي. وليقع، بالتالي، في خطأ التحليل ويحمِّل الضحية جريرة ما يحدث. وبذلك يدفعه الوهم إلى الوقوف بجانب سردية المظلومية الصهيونية التي تبثّها للعالم على الدوام، وبذلك يأتي على تبرئة الاحتلال من مظالم تعدّياته المتراكمة في عقول أبناء الشعب الفلسطيني وأرواحهم، وتجد أحياناً متنفساً لها في ذلك الغضب الذي يلقى على الاحتلال كيفما اتفق، وبالشكل الذي تفرضه مسبّبات ما. أما الذي يجري في غزة، وانتشر إلى باقي الأراضي الفلسطينية، فيمكن رؤيته وفق ما يلي:
أولاً: ما يجري اليوم يعود، في جوهره، إلى استمرار الاحتلال الإسرائيلي لكل من غزة والضفة الغربية المتبقيتين من الأراضي الفلسطينية وفق قرار التقسيم عام 1947، وهما اللتان وضعتا تحت تصرّف كل من مصر والأردن، على أمل وعود عربية بالعمل من أجل تجاوز قرار التقسيم إلى تحرير كامل الأراضي الفلسطينية. لكن ما حدث أن إسرائيل عادت لتستحوذ عليهما بنتائج حرب 1967، أي منذ هزيمة حزيران الصاعقة التي مكّنت لإسرائيل، فجعلتهما تحت تصرّفها كدولة محتلة، ثمَّ أخذت تماطل في تطبيق قرار مجلس الأمن 242 الذي ينص على العودة إلى حدود ما قبل 1967. ومنذ ذلك التاريخ، والتوسع الإسرائيلي لاستيعاب المستوطنين الجدد على كامل الأراضي الفلسطينية، تحت مزاعم واهية، لم يتوقّف أبداً، ويطاول أراضي ومساكن وأحياء في هاتين المنطقتين. ذلك هو جوهر انتفاضة اليوم وخلفياتها، وما يسوَّغ للإسرائيليين أفعالهم العدوانية المستمرة هو ضعف العرب واستهتارهم، وخصوصاً بعد حكم كل من أنور السادات وحافظ الأسد البلدين العربيين اللذين كان يعوَّل عليهما، على نحو أو آخر، في تحرير الأراضي المحتلة بهزيمة حزيران، لكنهما، مع الأسف، زادا من التمكين لإسرائيل، فقوننا الاحتلال وفق اتفاقاتٍ رسميةٍ وبرعاية دولية (اتفاقية فصل القوات عام 1974 ثم اتفاقيات كامب ديفيد عام 1978). وإذا كانت “كامب ديفيد” قد استردت سيناء، فإن اتفاقية فصل القوات سلَّمَت السوريين مدينة القنيطرة مدمَّرة، وأبقت على هضبة الجولان محتلة ومحروسة بقوات دولية تمنع أي نشاط عسكري سوري أو فلسطيني. بعدئذ جاء تهجير منظمة التحرير، وإبعادها عن مجالها الحيوي، حيث أخذ العمل الفدائي يفعل فعله المؤثر على طريق إلزام إسرائيل بقرارات الأمم المتحدة .. وهكذا ظلت المنظمة المعوَّل عليها وحيدة وبعيدة، ولكن أنى للموجوع وطنياً أن يهدأ أو يستكين.
ثانياً: في سياق التعدّيات الإسرائيلية انفجرت انتفاضة الحجارة عام 1987 فأعادت إلى حركة التحرّر الوطني الفلسطينية وهجها الثوري/ السلمي في أجواء كان اليأس والقنوط سيِّدي الموقف، فكانت ردّاً على تهجير منظمة التحرير، وعلى محاولات النّيل من الحركة الوطنية اللبنانية الداعمة للنضال الفلسطيني، إضافة إلى ما أخذ يلوح في الأفق من تقلقل في أوضاع الاتحاد السوفييتي، ثمَّ انهياره، بعد سنوات قليلة، الأمر الذي غيَّر في موازين القوى الدولية، وأفقد حركة التحرّر الوطني الفلسطينية نصيراً دولياً له وزنه.. لكن الانتفاضة حرّكت الوضع العالمي كله، وأثبتت أن الشعب الفلسطيني قادرٌ على استرداد حقوقه بنفسه. وهكذا، جاءت هذه الانتفاضة العظيمة باتفاقيات أوسلو، على الرغم من الحيف الكبير الذي ألحقته بحقوق الشعب الفلسطيني. وعلى الرغم من ذلك، عارضها اليمين الإسرائيلي، كما اتخذ منها موقفاً سلبياً، كل من اليمين الفلسطيني، وحتى أقصى يساره، واستثمرها العدو الصهيوني مجمّداً إياها ومبقياً على الاحتلال وممارساته العدوانية.
ثالثاً: عاد اليأس ليخيم فوق سماء فلسطين مع استمرار الاحتلال وقضمه أراضي جديدة، ثم انهيار الاتحاد السوفييتي الذي كان يعدُّ نصيراً للقضية الفلسطينية، وانقلاب روسيا وريثته على كل ما يمتّ بصلة إليه، فتحوَّل ثقلها كله إلى جانب إسرائيل، إذ دفعت بأكثر من مليون يهودي للهجرة إلى إسرائيل، ليشكلوا جزءاً مهماً من التركيبة السكانية وصلت إلى نحو 20%، وليكون لهم حزب سياسي يُدعى “إسرائيل بيتنا” يرأسه أفيغدور ليبرمان، اليميني المتطرّف الذي يدعو باستمرار إلى ترحيل العرب الفلسطينيين عن أراضيهم. وقد ازداد التنسيق الروسي الإسرائيلي في السنين الأخيرة. في وقتٍ استطاعت فيه أطراف، غير عربية أيضاً، أن تتستر برداء القضية الفلسطينية، مستغلةً ضعف العرب وتناقضاتهم، لتتغلغل داخل أكثر من بلد عربي تحت اسم مقاومة أميركا وإسرائيل، ولكن على حساب الدم الفلسطيني والعربي عموماً، ما أضعف وحدة الثورة الفلسطينية، وسمح لإسرائيل باللعب على تناقضاتها، وليستمر الموقف الفلسطيني متبايناً حول الخلاص من الاحتلال.
رابعاً: شكلت السنوات الأربع الأخيرة انحداراً عاصفاً في القضية الفلسطينية أوصلها إلى حال من اليأس والقنوط، أخذ يتجلى بأفعالٍ يقوم بها أفراد ودول، فما فعله الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، متوافقاً مع رئيس الوزراء الإسرائيلي اليميني المتطرّف، بنيامين نتنياهو، فاق كل وصف واستهتار بالشرعية الدولية، وبحقوق الشعب الفلسطيني وقضاياه العادلة، فمن “صفقة القرن” إلى جعل القدس عاصمة أبدية لإسرائيل إلى نقل السفارة الأميركية إلى تأييد الاستيطان الإسرائيلي القائم على انتزاع أراض ومساكن فلسطينية. والأدهى من ذلك كله ما أشير إليه في البند السابق، وهو تسلل ذلك النزوع الشيطاني إلى أنظمةٍ عربيةٍ بدفع أميركي أو من دونه، فتسارع بالوقاحة كلها إلى موجةٍ من التطبيع مع العدو. وما زاد على ذلك زيارة شخصيات رخوة محسوبة زعماً على المعارضة السورية إسرائيل، وتقديم أوراق اعتماد لها، أو صكوك غفران لـ “دولة إسرائيل الديمقراطية”.
خامساً: انطلقت انتفاضة القدس من حي الشيخ جرّاح على تلك الأنقاض، انتفاضة شعبية سلمية تحمل وقائع مشروعيتها، وكأنها برق مزّق رداء الظلام كاشفاً من جديد عن جوهر الشعب الفلسطيني، وما يكتنزه من روح ثورية وتصميم على الكفاح، مستنداً إلى حقوقه المغتصبة أرضاً وسكناً وإنساناً، ووثوقاً بالذات الفلسطينية وبالمستقبل، وأملاً في أن تكون أملاً ورافعة، سواء ما تعلّق بالداخل الفلسطيني أم في ظهيره العربي، ففي أيدي العرب كثير مما يمكن أن يدعم الانتفاضة سياسياً واقتصادياً وعلاقات دولية لها تأثيرها.
سادساً: ثمة جهات إسرائيلية، في مقدمها نتنياهو، الذي فشل في تشكيل الحكومة أخيرا، وتلاحقه المحاكم بتهم الرشوة والفساد، راهن على أن يمارس المحتجون الفلسطينيون حوادث عنف، ليستغلها هو وعموم التيارات اليمينية، ليصبّوا نيران أحقادهم، ونزعاتهم العنصرية على الشعب الفلسطيني، ويتسبّبوا له بأوجاع جديدة أقسى مما عاناها ويعانيها، سيما وأن اليمين الإسرائيلي ضامن للموقف الدولي.
سابعاً وأخيراً: يبقى الشعب الفلسطيني في الميزان هو الأقوى، وهو ما يُراهن عليه، وقد أثبت ذلك، لا في الانتفاضة الأخيرة فحسب، بل على مدى تاريخه! ولعل تتويج نضاله مرتبطٌ على نحو أو آخر بوحدة الصف الفلسطيني، والانطلاق من المسؤولية الوطنية، لا الحزبية التي تحدّد الهدف، وتختار أسلوب تحقيقه، فلا يقال تطرّفا أو جناية على الشعب الفلسطيني. ثمَّ إذا كان الرأي الفلسطيني الموحد يشكل النواة الصلبة للمضي قدماً، فإن إطارها هو المحيط العربي والعلاقات السوية، بعيداً عن أي تدخل إقليمي مباشر، يخفي وراءه مصالح معينة، ثم إن القضية الفلسطينية مرتبطة بصحوة الأمة كلها، وبنقلتها المنتظرة، بعد أن أعلن الربيع العربي إرهاصاتها، وإن كانت مؤلمة وثمنها باهظ جداً، لكنها بدايةٌ قويةٌ أنذرت بتغيير قادم لا محالة. ولا يعتقدنَّ أحد بأنه قادر على تحقيق النصر المؤزّر على صلف الاحتلال الإسرائيلي منفرداً أو باسم تنظيمه الحزبي، فالشعب الفلسطيني، بكامل قواه الوطنية وأطيافه السياسية ومرجعياته الفكرية، ووحدة هدفه، هو القادر على الانتصار.
المصدر: العربي الجديد