أحمد الحسون روائي وناقد سوري، وهذا أول عمل روائي أقرؤه له، وهو منتمٍ للثورة السورية، يتناولها بأبعاد فنية تغوص في مأساة العصر.
الخاطوفة رواية متميزة تعتمد أسلوب السرد على لسان الراوي متابعاً قصة آدم وهو الشخصية المحورية في الرواية. تتميز الرواية بكونها لا تتابع أحداثاً متتابعة في الزمن من خلال تناميها فقط، بل هي تغوص عميقاً في العوالم الذاتية لبطلها، والكثير من الشخصيات الأخرى. تكشف الرواية أن الحياة ليست ما نرصده حولنا ومعنا فقط. بل هي ما يجول في دواخلنا وما نعيشه منذ طفولتنا ونموّنا وكبرنا، بحيث تكون خبرات حياتنا هي قوام شخصيتنا وما نفكر ونحلم ونتمنى وما نخاف وما نأمل…
تبدأ الرواية عبر تقنية الرجوع بمنولوج داخلي من حياة آدم الطفل في إحدى البلدات الريفية شمال سوريا، بلدة وادعة فيها الأشجار المثمرة من كل صنف؛ الكرز والتين والزيتون لها حضور في نفس آدم. طفولته ممتلئة بطعم هذه الثمار وحضور هذه الأشجار في ذاته عميقاً. القرية تعتمد ككل البلدات في القديم على جلب المياه من بئر مجاور في القرية، تتنقل النساء حاملات جرارهنّ الممتلئة إلى بيوتهن لاستعمالات الحياة اليومية بدء من الشرب. البئر الذي يحمل حكايا النساء وأسرارهنّ وأفراحهنّ ومعاناتهنّ، كذلك الخوف على أولادهن من السقوط فيه وعدم القدرة على إنقاذهم وموت الطفل في أغلب الأحيان. لذلك خلق الذهن الشعبي حكاية الخاطوفة التي تبتلع الأطفال القادمين إلى البئر، زُرعت في عقول الأطفال حتى يمتنعوا عن مصاحبة أمهاتهم وحماية لهم. الخاطوفة خطفت الطفل يوسف ومات فيها.
آدم كبر في هذه البلدة مسكوناً بحكاياتها، كبر وتعلم وحصل على الشهادة العالية في العلوم الاجتماعية. أدرك الواقع المحيط فيه السلطة المستبدة و القهر والظلم الاجتماعي، لكنه صمت ككل الناس خوفاً من بطش السلطة إن واجه النظام أو حاول أن يواجهه. انتقل إلى دمشق وسكن في أحد أحيائها الشعبية الفقيرة وعمل في إحدى دور النشر. بيته يقع في قبو صغير يعيش حياة الكفاف ككل الناس في بلادنا. معتكف على كتابة روايته التي لم تكتمل. صديقته ياسمين تزوره وتتفاعل معه وتتابع عمله الروائي وحياته، بينهما حب ينمو رويداً رويداً، يجعل القارئ يفكّر في حقيقة ياسمين ودلالتها الواسعة ما بين شجرة أو غرسة أو ياسمنة دمشقية أو أنثى، فهي كلّ ماسبق عندما تجلس على الأريكة الخضراء تستمع إلى آدم وفصول روايته مبعثرة على الأرض بانتظار عنوان يضمّها.
جاء الربيع السوري والثورة وانخرط في الحراك دأب أي سوري يحلم بالتغيير وبانتهاء عصر الخطف والظلام، فمن التظاهر إلى الاعتصامات.. سبق ذلك بعض النشطات الأدبية مع الزملاء يسلّطون الضوء على الواقع السياسي الدكتاتوري مما تسبب باعتقالهم جميعاً بعد أمسية أدبية في مركز ثقافي بحي كفرسوسة الدمشقي، وبعد خروجهم بفترة اشتعلت الثورة وبدأت الأحداث تتسارع، وفي إحدى المظاهرات تمت إصابته برصاصة من الأمن الذي واجه التحركات بالقوة المسلحة، تم اعتقاله، عالجه المعتقلون من الإصابة معالجة شبه بدائية، لاقى مثل بقية المعتقلين التعذيب الشديد الذي أدى لموت الكثيرين. طالت فترة اعتقاله، وكان قد فقدَ ذاكراته جرّاء التعذيب وصار رقماً بين الأرقام الكثيرة التي تنتظر مصيرها، فأصبح كالطفل ببراءته لايعلم ما يدور من حوله، وتلك كانت فرصة للقائمين على تفتيت أجساد المعتقلين من الشباب والشابات والاطفال والنساء والشيوخ..فألزمه السجانون بتجميع جثث المقتولين تحت التعذيب وترقيمهم على الجبين ثم تغليف الجثة بشريط لاصق. كان ذلك جحيماً عاشه في البدء، الجثث المشوهة المظلومة، تنتابه الرعشة من ظلام السجن وتكديس الجثث، لكنه بدأ الاعتياد عندما اقتحمته تعبيرات هذه العيون الشاخصة وما فيها من حكايات لسوريا تاريخاً وجغرافية، فأدمن الحديث مع عيون جثث المقتولين وبدأ يعيش عالماً مغايراً لحياته الإنسانية العادية بعدما نسي التفاصيل وعاش بلا ذاكرة إلا من هذه الجثث وظلام الأقبية، نسي كل حياته ما قبل وجوده في المعتقل وقيامه بتجميع الجثث وترقيمها. أصبح يسكن عالماً مؤلماً يتأمل عيون القتلى وقراءة معاناتهم. تطور عمله عند السجانين بعد ذلك حيث أصبحوا يصطحبونه معهم برفقة الجثث ونقلها إلى مقابر جماعية، وهذا زاد في اغترابه وعيشه مع عوالم الجثث وتأملها وعدها وترقيمها ونقلها ورميها في حفر جماعية قبل ردمها. استمر ذلك إلى وقت طويل. وأخيراً تم تركه في مدينة دمشق بعد جولة نقل جثث في جوار دمشق و دفنها، ركلوه من السيارة كأي كيس قمامة، وإذ به بشوارع دمشق لايعي مايدور من حوله ولا يعلم إلى أين سيذهب، فجلس على الطرقات يتأمل عيون الناس الحزينة المتعبة، وعاد مجدداً يحاكي العيون ويتخيّل لجبينها أرقاماً تناسبها، أخذ يتجول في دمشق التي أصبحت ملجأ كبيراً لكثير من سكان الأرياف المجاورة التي دمرها النظام الحاكم وشرد أهلها رداً على ثورتهم. وجد نفسه في إحدى حدائق دمشق التي اكتظت بالمهجرين من بلداتهم. حنّ عليه أحدهم كان كبيراً بالسن. أدرك أن آدم يعيش حالة نفسية قاسية. تبناه معتبراً إياه ابنه صالح الذي اعتقله النظام ولم يُطلق سراحه؛ لا بد أنه قتله. احتضن أبو صالح وزوجته آدم وعندما سأله عن اسمه لم يعرف ما هو قال إنهم ينادونه في المعتقل آدم. أطلقوا عليه اسم صالح استحضاراً لابنهم. وأصبح تحت رعايتهم وحمايتهم. أصبحت الحدائق ومناطق تشرد الناس محكومة من عصابات الشبيحة وأزلام النظام. الذين يهاجمون الناس المنكوبين ويسرقون ما يقتانون على قلّته. ويعتدون على الأعراض ويتصرفون دون خوف من مساءلة أو محاسبة. عاش آدم أو صالح في كنف أبو صالح وزوجته. كان العم أبو صالح قد باع أرضاً له ولديه بعض الوفر جعله يعيش محافظاً على الحد الأدنى من كرامته و لقمة عيشه. استمر حال الناس يزداد سوء في تشردهم هذا. مما جعل فكرة الهجرة والهروب خارج سورية تسيطر على عقل الكثيرين. خاصة المتمكنين مادياً أو الشباب الذين يجدون أن مستقبلهم يحتاج إلى مغامرة تجعلهم يخرجون من سطوة المقتلة السورية التي يرعاها النظام وأمنه و جيشه ومرتزقته. بدأ العم ابو صالح بإقناع آدم بضرورة الهجرة إلى خارج سورية، هو على يقين أن ابنه قد مات في المعتقل، لكنه مع زوجته يحبّ أن يعيش أمل عودته، ويحب أن يموت في دمشق قريباً من أرض تم دفن صالح فيها وغيره الآلاف، وعلى الرغم من حبّه الشديد لآدم إلا أنه يتمناه بمستقبل جيد بعيداً عن هذا الخراب ولعلّه يتعالج فيعود لذاكرته. كانت تركيا البلد الأكثر جاذبية لكل مقتدر. وعده أن يعطيه المال الذي يحتاج له لأجل ذلك. أما آدم الذي كان لاحتضان العائلة العم له تأثيراً إيجابياً عليه. لكنه لم يستطع أن يسترد ذاكرته. وبدأ يفكر أن يغادر سورية ويبدأ بناء حياة جديدة في تركيا أو أوروبا. قرر آدم أخيراً أن يرحل مع الراحلين شمالاً، يعلم أن ذلك يتطلب وجود سمسار يوصله إلى وجهته في مدينة إدلب حيث الشمال السوري المحازي للحدود التركية، لأن الانتقال إلى هناك فيه مخاطر أن يقع في يد حواجز النظام الذي قد يعتقله أو يسحبه إلى التجنيد الإجباري او يقتله مباشرة على الحاجز، كذلك تفعل داعش وجبهة النصرة اللتان انتشرتا على مساحة كبيرة في الخارطة السورية، والتي لم تكن أقل وحشية تجاه المختلف عنهما مثل النظام. كان آدم أو صالح بين واقعه المستجد مع عائلة أبي صالح وقبلها في المعتقل، وعمله في ترقيم الجثث ودفنها، وبين بقايا تذكر لماضيه حيث كان التقى صدفة بموسى المخبر، وهو واحد من معارفه قبل الاعتقال كان زميلاً لهم في الجامعة ومهمته كتابة التقارير بالطلاب، آدم لم يتذكّر موسى باعتباره فقد الذاكرة لكن في عمق روحه نفور من هذا الشخص، ومشاعر غامضة مخيفة، حاول موسى مساعدته على التذكر وإقناعه بالهجرة أيضاً لابتزازه مالياً، سعياً وراء الحصول على معلومة ما يوصلها للأمن ويستفيد منها، اصطحبه إلى منزله في الحي الدمشقي الفقير، حيث منزله في القبو الفقير، المنزل تهدم أغلبه وجد صاحبته الكبيرة المسنّة التي رفضت أن تهرب مع الهاربين من القصف والتدمير، عرضت عليه إعادة السكن في القبو مع ترميمه قليلاً دون أجر. دخل إلى القبو محاولاً تذكر ذاته التي نسيها، استعاد شذرات عن أنثى كانت بصحبته فيه، وجد بضع أوراق من روايته التي لم ينهها احتفظ ببعضها ولكنه لم يتذكر أكثر من ذلك، تأملّ المرآة المتكسرة التي كانت ياسمين تهزأ منها دائماً، فامتدت يداه من دون شعور وأخذ قطعة من شذراتها المنتشرة بين الأتربة والحجارة، حاول حاول وحاول أن يستعيد الأصوات التي تدٌ في رأسه فلم يستطع بعد صداع شديد وكوابيس تداهمه ليلاً، فلم يعد للقبو استجاب لهاجس الهروب مع الهاربين إلى الشمال ورحل. استطاع الوصول إلى مخيم من مئات المخيمات التي نصبت شوادرها على عجل على الحدود السورية التركية كان وصوله إلى إدلب ومنها إلى المخيم. لقد تكونت حياة جديدة لمئات آلاف السوريين في المخيمات. التي أصبحت موقعاً مهما للصدقة الدولية!!، العالم الذي لم يستطع حماية السوريين، قدم لهم بعض الطعام والملبس لمنعهم من الموت في تشردهم. كان المخيم مستقطباً من شخصيات تحاول أن تعيد الحياة إلى روتينها الممكن والمعقول وفق المتاح، بعض البسطاء تحلَّق حول الداعية الديني الذي جعل نفسه مرجعاً لكل شيء، وقدم نفسه مفتياً ومخلصاً لكل أتباعه من الذين يبحثون عن يقين يتمسكون به ليستطيعوا أن يستمروا بحياة خسروا فيها كل شيء، ذلك الداعية الذي يستقطب الشباب ويدفعهم للالتحاق بالجهاديين، ويحرّضهم على التفخيخ والذبح للفوز بالحوريات !!. كذلك المسيس الذي يطرح نفسه على أنه بوابة الحقيقة ويحلل ويناقش ويصطنع المعجزات لقادم سياسي أفضل من واقع الحال، وثالث يؤمن بالعلم والمعرفة والدور الإيجابي للتضامن الاجتماعي، وأننا يجب ان نتمسك بحبل العلم وخاصة للجيل الجديد الذي خسر الكثير من فرص التعلم بعدما تشرد وخسر بلاده. يختلف هؤلاء ويتنافسون على الناس الضائعين في مخيمات اللجوء، والساعين لتأمين الحد الأدنى لأسباب الحياة. الكل يعيش عالة على المنظمات الإغاثية وأجنداتها المختلفة والمريبة في أكثرها، واستعراضها بالفيديوهات والصور على حساب مأساة الشعب السوري. عايش آدم كل ذلك وهو صامت فقط، يتمعن محدقا فيما حوله ويتكلم مع عيون الناس بلغته الخاصة حسب إدمانه وعادته لسنوات، كما عايش رفض كثير من السوريين استمرار العيش في هذه المخيمات. فكثير من الشباب و المقتدرين أكملوا رحلة اللجوء إلى الداخل التركي وحتى حدود العالم. فالبعض بحث عن فرص عمل في تركيا، وكذلك السكن في المدن المتاخمة لسورية. أما آدم فقد بقي مسكونا بهاجس السفر بعيداً إلى أوروبا، وهو في ذات الوقت ينوس بين تذكر ونسيان، قرر الرحيل مع الراحلين إلى اليونان من الحدود التركية المجازية لبحر إيجة الرابط بين اليونان وتركيا، ومن هناك إلى أوروبا حيث فرصة حياة أفضل، أو هكذا يعتقد الهاربون. كان بصحبة عدد من أهل المخيم الذي سكنه فترة من الزمن، سنوات مضت على الثورة السورية ولا أمل بحل يعيد الناس إلى بيوتها، لذلك كانت الهجرة الخيار الأخير والوحيد. وهذا يتطلب المال ويتطلب المخاطرة، وهنا أيضاً يتواجد السماسرة ومهرّبو البشر على الشاطئ التركي المواجه للشاطئ اليوناني، وبحر ممتد لحوالي ستة كيلومترات. ينتظرون المهرب وزورقه الصغير “البلم” ومعه حكايا الموت المجاني في عرض البحر، حيث لا شروط أمان في البلم الذي يحمل العدد الزائد عن الاستيعاب وعدم جاهزية أغلبهم للإبحار بهم للجانب اليوناني، هذا غير حرس الحدود من الجانبين التركي واليوناني، والاحتمال الأكبر هو غرقهم وعودتهم لليابسة جثثاً. ركب من كان بصحبة آدم البلم وأبحروا من دون آدم الذي اختفى على مقربة من الشاطئ، سمع الأستاذ جواد ينادي عليه لكنه لم يكترث على الرغم من أنه صديقه الوحيد الذي تكلّم معه عبر كل هذا الصمت، في هذه اللحظة يشتد الصداع على آدم وهو يتأمل بقايا أشياء الناس على الرمال، والعائلات تحت الأشحار على مقربة، أو بين الصخور، فيشتد الصداع والاستعادة ما بين آدم وصالح وكأنهما شخصان يتصارعان كالصراع الذي يدق في رأسه من ناحية اليونان متأملا وآملا، فيستعيد ياسمين وقهوتها وحكاياتها وحماسها ورؤيتها واندفاعها ودمشقيّتها وقاسيونها..، صداع شديد وصراع بين ذاكرتين مع هاجس عدم المغادرة لسبب لم يدركه تماماً لذلك تجاهل صراخ جواد عليه، فالكلّ ركب الزورق المطاطي وعيون جواد الدامعة على الشاطئ التركي بحثاً عن بصيص وجود لآدم، ولم يستطع الانتظار أكثر رأفة برجل عجوز كان معهم وكان جواد يعتني به ولم يستطع أن يتركه، كما أنه اعتقد أن آدم قد سبقهم في زورق سابق وربما يجده على اليابسة اليونانية. النتيجة أن غرق أغلب الهاربين وعادت جثثهم إلى الشاطئ حيث ينتظر آدم وعادت له غريزة ترقيم الجثث. نعم نحن السوريين جثث تحت الطلب في المعتقل او قتلاً بالحواجز وتحت القصف من النظام و براميله المتفجرة، أو في مناطق سيطرة المتطرّفين، وبعض المجموعات المسلحة التي نسيت قضيتها وبدأت ترتزق بالدم السوري.
لم يغادر آدم إلى أوربا قرر العودة إلى سورية.
مازال هناك أمل…هذا لسان حاله.
هنا تنتهي الرواية بعدما يمسح الغبار عن الوجوه السورية الحزينة مبرراً لصديقه العائد غريقاً أنه لم يركب معهم لأن جباههم الناصعة تحتاج لمن يضع عليها الرقم الأخير. يمسح الرمل عن الجباه ويضع لها الأرقام، يستودعهم بدموع آدم وصالح وقد استعاد هذه اللحظات ذاكرته، واستعاد معها روايته التي احتار في تسميتها، لكنه الآن يصرخ بأعلى صوته لياسمين وجواد أنه بعد كل هذه السنين من ذاكرة عميقة تسكن كل سوري، عرف أن عنوان روايته كان ” الخاطوفة” أو يجب أن يكون هكذا، يقبّل جبين الأستاذ جواد الذي يشبه آدم كثيراً بقصص الأشجار، ودّعه الآن ميمّماً وجهه شطر دمشق ليقيم فيها طقوسه السورية مع شجرة ياسمين لا يمكن أن تنضب، ومستمداً من عيون السوريين ما يمدّه بنسغ الاستمرار والحياة.
أخيرا: رأينا في الرواية:
إننا أمام رواية أخرى عن الثورة السورية وما حصل في سنواتها الخمس الأولى. رواية تتناول الحال السوري من زاوية مختلفة، بعيدة عن المباشرة، لاتسرد التفاصيل التي يعرفها كل العالم عبر المنصّات والإعلام، هنا نحن أمام لوحة فنية تغوص في الأعماق بطريقة فنية جديدة، فالحدث هنا هو الذاكرة السورية بكل اختلافاتها الرائعة، تغوص عميقاً في ذات أبطالها والحال الذي عاشوه بكل تفاصيله وتبعياته.
لم تبحث الرواية بواقع النظام وبنيته الطائفية القمعية المستغلة القمعية المجرمة. ولا تحدثت – من زاوية أشبه ما تكون إعلامية – عن تفصيلات الحرب وواقعها الإجرامي و حلفاء النظام من الإيرانيين والروس وحزب الله اللبناني والمرتزقة الطائفيين الذين كانوا أدواته في قتل الشعب السوري وتشريده وتدمير البلاد، والميليشيات المتعددة قتلاً وإرهاباً وتوجهات مخيفة لا تشبه تضاريس الشعب السوري في يوم من الأيام.
تناولت الرواية جانباً من نتائج هذه المحرقة، ومثّلت لذلك بذاكرة لإنسان سوري في يده غرسة زيتون وياسمين وبأخرى قلم وكتاب، مجملها يتطلع لبناء سوريا والحفاظ على مقدّرات الشعب العبقري الذي يذهل العالم كلّ يوم بصبره وإصراره على الحياة رغم كل هذه الآلام. هناك جانب مؤلم من حياة السوريين الضحية سواء واقع آدم الذي عاش الاعتقال وفقد الذاكرة وعمل في تنمير الجثث ودفنها، أو واقع التهجير داخل سورية وخارجها والموت الذي ينتظر السوريين في كل مكان، والإشارة لكل الأيديولوجيات التي تقتحم الإنسان السوري لتغيّر من تركيبته الفكرية النقية، وأن هذه الجماعات من فصائل القاعدة بتعدّد مسمياتها ( داعش..النصرة..الخ) دخلاء علينا جميعاً، لا نشبههم ولا يشبهوننا، فقد استثمرت هذه التنظيمات الثورة السورية وجراحها لإتمام دور النظام المستبد المجرم، وقد أشارت الرواية عندما سردت تفاصيل الحياة ” تحت ” أي في أقبية المعتقلات، سردت عن ألاعيب المخابرات بإدخال أشخاص من المتطرفين لتزجّهم بين المعتقلين في محاولة لتجنيدهم وإنشاء تنظيمات عندما يتم إطلاق سراحهم، وكلّ هذا تدبير محكم مُتفق عليه بين شياطين المخابرات لتفتيت الثورة وضرب الناس وتفكيك البنية المجتمعية، كل هذا إضافة إلى غياب دور القوى الدولية في إيقاف المقتلة السورية وكأنه تواطؤ بينها كلها كأعداء للشعب السوري. أن يحصل له ما حصل، لقد ستروا عورات صمتهم ببعض مساعدات إغاثية تم استنساخ كثيراً منها على هيئة تشكيلات مريبة تزيد الجرح السوري نزفاً في حين تتجلبب بالفضيلة المصطنعة.
مليون ضحية وأكثر عبر هذه السنوات الممتدة لمقتلة السوريين، ومثلهم من مصابين ومعاقين، نصف الشعب السوري مهجر داخل سورية وخارجها، خسروا كل شيء، حملوا أرواحهم أمانة الله ورحلوا لحمايتها من الموت العبثي المجاني. والنصف الثاني يعيش في الداخل حياة الضنك والعوز والخوف والقهر، كل ذلك عشناه ونعيشه نحن السوريين، فأصبحنا في حرب عبثية تفتت الذاكرة السورية التي تقاومهم كلّهم بقوّة حضورها وتاريخها الموغل في العراقة وليس بقوة السلاح، تواجه أدوات اغتيالنا بياسمين وبشجر الزيتون والكرز الذي أثبت وفاءه للإنسان، تقاوم بأمل أكبر بكثير من مدرعاتهم وطائراتهم.
أخيراً: نعم الأمل في الإنسان السوري الذي بقي متجذراً في البلاد يعمل قدر المستطاع ليصنع إنسانيته ويبني مستقبلاً أفضل له، ينتزعه من فم النظام المجرم وفم الظروف القاسية، لذلك إن الذاكرة العميقة في ضمير آدم جذورها في سوريا ولا تزال تقاوم الجدب لتنمو باخضرار دائم، فالتسمية بحد ذاتها ” آدم ” لم تكن عشوائية من الكاتب، آدم هو الإنسان بكل أبعاده.
لقد أراد الراوي أن يوثّق للذاكرة السورية التي يصفها بأنه يتم اغتيالها، في حين هي تمتلك من أسباب البقاء ما يجعل دمشق قبلتها كلّما توضّأت بطهر بردى، وأن العذاب السوري صفحة ملطخة في جبين العالم أجمع، ويبقى جبين المُعذبين معادلة أرقام حسابية سيقف العالم أمامها يوماً في حال شاء القدر له أن يصحو، وأن الذاكرة السورية لن تفقد دمشقيتها على الرغم من محاولة إيغالها بالظلام والوجوه الظلامية المليئة بروائح لا تشبه الشعب السوري في شئ، وأن لسوريا جغرافيا حضارية أشرعتها أشدّ متانة من هوجاء عواصفهم.
تلك كانت وقفة بإيجاز عند رواية الخاطوفة بما تحمله من إيحاءات ودلالات تحتاج التوغّل فيها أكثر كلّما أبحرت فيها مثيولوجياً وفكرياً وحضارياً.. وإن تناولها لحكاية العيون السورية وتطلعاتها إضاءة فريدة من حيث التناول الفنيّ على صعيدي الحدث والسرد، وقد أشار عدد من نقّاد الأدب لزوايا أكثر إيضاحاً مما لا مجال لتناوله في هذا الاقتضاب.
على الرغم من الرعب الذي تنشره الخاطوفة لتبتلع الأبرياء إلا أن مساحات الأمل بمستقبل لا تجفّ فيه العيون يبقى يسطو بكثرة على المجمل السردي للراوي الذي اختار أن يترك آدم ويحترق الأمواج لأن الإنسان السوري يمكنه أن ينهض من الركام تماماً كشجرة الياسمين التي كانت مجاورة لبيت آدم قبل اعتقاله، فهي الآن وسط ركام المنازل تشقّ الأتربة والحجارة لتُفرع من جديد غير آبهة بكل هذا الخراب الذي لن يقتل جذورها مهما استعان بقوّات وميليشيات الجفاف.
كل الضمائر السورية النبيلة تسعى لاسترداد الوطن والحقوق والعيش في مناخ الحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية في دولة قانون إنساني كريم.
قراتها قبل سنة وبعد عندي شوق لقرايتها لانها روعة بالفعل
رواية رائعة توثق وجع السوريين، الشعب المذبوح من الوريد إلى الوريد، لتشكل رافدا لهذا الأدب الجديد أدب الثورة. محاولة مميزة للكاتب في دخول عوالم المعتقلات والمخيمات والمنافي.
وثيقة تاريخية لحقبة من تاريخ سوريا
توثق معاناة شعب اعزل امام قوى الظلم والاسبداد والقهر معاناة لم يشهدها شعب عبر تاريخ البشرية منذ ان خلقها الله شعب تكالبت عليه قوى الطغيان لتشبع عطشها للدماء وتؤاطؤ القوى الدولية معها هذه الراوية جميلة وتستنبط الهمم وتكبر الامل في النفوس باننا المنتصرون واننا اصحاب الحق