استغل بايدن نهاية الأسبوع الماضي كي يستضيف زعيم دولة أجنبية للمرة الأولى. وعندما كان رئيس حكومة اليابان، يوشيهيدا سوغا، يجلس إلى جانبه، شرح له بايدن بأن بادرة حسن النية هذه استهدفت التعبير عن “دعم الولايات المتحدة الحديدي للتحالف مع اليابان”. وكانت هذه رسالة رمزية وجهت للصين، لكن اختفت فيها أيضاً عبرة مهمة لروسيا، وهي أنها لم تعد تشكل التهديد رقم واحد على الولايات المتحدة.
جذور التوتر الجديدة بين البيت الأبيض والكرملن موجودة في تقرير المخابرات الأمريكية الذي نشر الشهر الماضي، والذي اتهمت فيه روسيا بمحاولة التأثير على الانتخابات الرئاسية في 2016 و2020. زاد بايدن من شدة التوتر عندما سمى الرئيس فلادمير بوتين بـ “قاتل”. وتحول هذا إلى مواجهة مباشرة في ليلة الخميس – الجمعة عندما أعلنت أمريكا عن سلسلة خطوات عقابية ضد موسكو، مثل طرد عشرة دبلوماسيين من واشنطن، وفرض عقوبات على 32 شخصية ومؤسسة.
وأعلنت موسكو في نهاية الأسبوع بأنها ستطرد، رداً على ذلك، عشرة دبلوماسيين أمريكيين. وقال رئيس المخابرات الروسية لوكالة الأنباء “تاس” بأن العقوبات التي فرضتها إدارة بايدن “غير ودية”، وأضاف: “جميعنا ندرك أن العلاقة بين روسيا والولايات المتحدة، وهما الدولتان العظميان، هما اللتان ستشكلان استقرار العالم وأمنه”.
بنظرة خاطفة، تبدو المواجهة الجديدة قديمة جداً – فيلم سبق رؤيته للسجل الدبلوماسي لـ “الدولتين العظميين منذ عشرات السنين”، طالما أن النزاع الخفي بينهما أصبح مكشوفاً. ولكن من ناحية بايدن حدث تغيير جوهري في العلاقات، وهو يريد إخراجه إلى حيز الفعل. استهدفت العقوبات إظهار قوة أمام روسيا، وفي الوقت نفسه توضيح ما لا يفهمه، كما يبدو، رئيس المخابرات الروسية – صحيح أن هناك دولتين عظميين في العالم، لكن روسيا لم تعد إحداهما.
في خطاب بايدن الذي أعلن فيه عن الخطوات ضد روسيا، أشار إلى أنه تحدث هاتفياً مع نظيره الروسي لإبلاغه مسبقاً عن العقوبات: “قلت لبوتين بأننا سنرد في القريب بشكل محسوب ومتزن، لأنهم تدخلوا في الحملة الانتخابية الأمريكية، وهذا أمر غير سليم. الولايات المتحدة غير معنية بجولة تصعيد ومواجهة مع روسيا، اخترت أن أكون متوازناً”.
تعتبر خطوات الولايات المتحدة العقابية الأخيرة تعبيراً أولياً عن التوجه الذي يريد بايدن القيام به في السياسة الخارجية الأمريكية بشكل عام وتجاه روسيا بشكل خاص. موقفه صقري مقارنة بموقف أسلافه، لكنهم وضعوا له منسوباً منخفضاً جداً. اعتاد براك أوباما على الرد بتسامح على حالات العداء الروسي، من أوكرانيا حتى الشرق الأوسط. وذهب دونالد ترامب خطوة إلى الأمام وفضل تجاهل رجال مخابراته والاستخذاء أمام بوتين.
مع ذلك، موقف بايدن الحازم مقارنة بأسلافه قد يكون مضللاً. ليست له مصلحة في حرب، ساخنة أو باردة. لأنه يدرك في المقام الأول أن الولايات المتحدة سبق وانتصرت منذ فترة. عملياً، هذا الأمر واضح لكل من شاهد ميخائيل غورباتشوف قد تحول من حاكم للاتحاد السوفييتي في الثمانينيات إلى مقدم للـ “بيتزا هوت” في السبعينيات.
خطوات وتصريحات إدارة بايدن تظهر أنه يبحث عن ميزان قوى جديد. صحيح أنه حازم أكثر من أسلافه في مواجهة التهديد الروسي، خاصة في مجال السايبر، لكن يجدر التوقف عند استخدام كلمة “توازن” بشكل متكرر. هل تشكل روسيا تهديداً على الولايات المتحدة؟ نعم. هل هي التهديد الأكبر؟ بالتأكيد لا.
إشارة رمزية
إن اختيار إجراء مؤتمر صحفي احتفالي مع رئيس حكومة اليابان، حيث في الخلفية تصعيد للعلاقات مع روسيا، وفر إشارة رمزية لهذه “التوازنات”. كما تظهر إشارة أخرى لسياسة بايدن الخارجية الآخذة في التبلور في إعلانه الدراماتيكي والرمزي عن سحب القوات الأمريكية من أفغانستان حتى أيلول القادم. “لقد حان وقت إنهاء الحرب الأطول في تاريخ الولايات المتحدة”، قال بايدن. “أنا الرئيس الأمريكي الرابع الذي يقود الجنود في أفغانستان. رئيسان جمهوريان ورئيسان ديمقراطيان. لن أنقل المسؤولية لرئيس خامس”.
منذ سنوات وبايدن يهتم بالانسحاب من أفغانستان. في البدء أثناء وجوده في لجنة الخارجية في مجلس الشيوخ، ثم عندما كان نائباً للرئيس. إلى جانب موقفه المبدئي ضد الحاجة لوجود جنود في أفغانستان، هو يرى في ذلك أيضاً مشكلة استراتيجية. فهو يرى في الوجود الأمريكي في تلك الدولة عقبة رئيسية في الطريق أمام تجنيد حلفاء محتملين في أرجاء العالم.
الانسحاب وسيلة فقط. يريد بايدن الآن أن يوجه جل الطاقة والموارد والاهتمام للتهديد الاستراتيجي الأكبر بالنسبة له – صعود الصين كدولة عظمى، اقتصادياً وسياسياً. الخوف من الصين هو محرك رئيسي أيضاً في سياسة بايدن الداخلية، وعلى رأسها “خطة البنى التحتية” التي بلورها بمبلغ غير مسبوق وهو 2 تريليون دولار. البنى التحتية، اليابان وأفغانستان، كلها تخدم هدفه للتنافس مع الصين.
الرئيس الـ 46 الذي تشكلت صورته السياسية عندما خدم في مجلس الشيوخ في فترة الحرب الباردة، يبني الآن سياسته الخارجية نحو العالم الذي عاد ليكون ثنائي القطبية – لكن في القطب الثاني الآن هو الصين. هذا هو السياق الأوسع لخطواته العدوانية ضد روسيا، التي تدهورت لتصبح تهديداً ثانوياً. استهدف العقوبات أن توضح لبوتين بأن إدارة بايدن هي أكثر تصلباً من الإدارات السابقة، وأنها لن تسلم بالعدوان الروسي، لكن كان فيها أيضاً رسالة أخرى: عندما تهدد الصين في الخلفية فروسيا غير مضطرة لتكون عدوة.
“لقد حان الوقت لخفض مستوى التوتر بين الدولتين. نحن معنيون بشبكة علاقات ثابتة ومتوقعة”، قال الرئيس الأمريكي، وصاغ المكان الذي يخصصه لروسيا في النظام العالمي الذي يريد توريثه. في نظر بايدن، يمكن أن تكون روسيا عضو نشط في الساحة الدولية أو تختار أن تكون دولة مارقة. “إذا واصلت روسيا التدخل في ديمقراطيتنا فسنتخذ المزيد من خطوات الرد”، أوضح بايدن.
بمساعدة السجل المعروف لدبلوماسيين وعقوبات، يأمل بايدن بأن يدرك بوتين التغيير في المناخ. مع ذلك، غير المتوقع أن يشوش الرئيس الروسي خططه ويجره إلى مواجهة جديدة. السؤال: ماذا سيحدث في سيناريو كهذا يطرح علامتي استفهام كبيرتين؟ الأولى هي بايدن نفسه، الذي لم تُختبر بعدُ سياسته بشكل حقيقي حتى الآن، والثانية هي بوتين. بدأت فترة ولاية بايدن للتو وإن أربع سنوات ستوفر له الوقت الكافي للدفع قدماً باستراتيجية خاصة به.
المصدر: القدس العربي/ هآرتس