بعد ما يقرب من ثلاثة أشهر من تنصيب جو بايدن وبدء إدارته عملها، ما يزال الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية والحصار المستمر لقطاع غزة يشغلان مكاناً متدنياً على الأجندة الأميركية -وليس هناك سبب لتوقع أن يتغير هذا في المستقبل القريب. ولا يرجع هذا الخفض من ترتيب مسألة إسرائيل-فلسطين، خاصة بالمقارنة مع ما فعله الرؤساء السابقون، إلى حاجة بايدن إلى التركيز على قضايا أخرى أكثر إلحاحاً فحسب: إن السبب الرئيسي لهذا التحول في واقع الأمر هو أن الثمن السياسي الذي يترتب على إعادة الانخراط مع الصراع باهظ جداً -بما في ذلك داخل حزب بايدن نفسه.
منذ توليهم السلطة، أوضح بايدن وفريقه أنهم لا يرون مسارًا قابلاً للتطبيق للمضي قدمًا في إحياء عملية السلام بين إسرائيل والفلسطينيين. ومع ذلك، أوضحوا بالقدر نفسه أنهم لا يرون بديلًا عن حل الدولتين ومسار اتفاقيات أوسلو القائم منذ ربع قرن. وطوال كل هذا الوقت، تعمق الاحتلال الإسرائيلي فحسب.
ولا تنوي الإدارة الحالية أيضًا التراجع عن العديد من التحركات الأكثر ضرراً التي قام بها الرئيس السابق دونالد ترامب، مثل الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية من تل أبيب إليها. ولم تفعل الإدارة الجديدة أي شيء لإعادة فتح القنصلية الأميركية في القدس، التي عملت على مدى عقود كسفارة بالوكالة في الأراضي الفلسطينية، ولم تتخذ أي خطوة لإعادة فتح مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن كما وعد بايدن بأن يفعل خلال الحملة الانتخابية.
يُفهم عدم إعطاء بايدن الأولوية للنزاع الفلسطيني-الإسرائيلي بشكل عام على أنه نتيجة لعوامل مختلفة، بما فيها الانهيار الذي دام أعواما للمفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين؛ والاضطرابات المستمرة في السياسة الإسرائيلية؛ وانقسام القيادة الفلسطينية بين فتح وحماس؛ وإمكانية التغيير في الحكومتين، الإسرائيلية والفلسطينية، نتيجة لانتخابات هذا العام.
وثمة عامل آخر، كان مهمًا بشكل خاص في الأشهر الأخيرة، هو رغبة الإدارة في تجنب زيادة الضغط الذي تتعرض له بشأن الجهود المبذولة لاستعادة الاتفاق النووي الإيراني (خطة العمل الشاملة المشتركة).
عارضت إسرائيل بشدة “خطة العمل الشاملة المشتركة لأعوام”، وربما تصعد حملتها لتخريب الجهود المبذولة لإحياء الصفقة. وقد دمرت عبوة ناسفة مؤخراً أنظمة الكهرباء في منشأة نووية إيرانية في مدينة ناتانز. وألقت وسائل إعلام إسرائيلية، نقلاً عن مصادر استخباراتية غربية، بالمسؤولية عن ذلك العمل على إسرائيل. ومن الواضح أن توقيت الهجوم كان يهدف إلى تعطيل المحادثات الأميركية-الإيرانية الجارية في فيينا هذا الشهر.
وتم تنفيذ عملية ناتانز أثناء وجود وزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، في إسرائيل لعقد اجتماعات مع وزير الدفاع بيني غانتس ورئيس الوزراء بنيامين نتنياهو. وفي حين أن البيت الأبيض نأى بنفسه بشدة عن هجوم ناتانز ولم يذكر اسم الطرف المسؤول، فإنه لم يعمد إلى توبيخ إسرائيل أو إلى إدانة الهجوم علنًا. وهذا دليل آخر على إحجام بايدن عن إثارة أعشاش الدبابير التي يمكن أن تثيرها إسرائيل أو مؤيدوها في واشنطن.
لمسألة إيران تأثير كبير -ليس على سياسة بايدن الخارجية فقط، ولكن على مخاوفه الداخلية أيضًا. وفي حين أن بعض تصرفات إدارة ترامب جعلت من العودة إلى الاتفاق النووي مرة أخرى أكثر تعقيدًا بالنسبة لبايدن، فربما تكون العقبة الأكثر إزعاجًا أمامه هي الصقور داخل حزبه الديمقراطي نفسه. وإذا قرر بايدن أن يتعامل مع قضية الاحتلال الإسرائيلي في مرحلة لاحقة، فسيجد هؤلاء الصقور أن من الأسهل إحباط الأجندة السياسية للرئيس.
إبطاء الصفقة الإيرانية
يتصدر هذا المعسكر من الديمقراطيين المحافظين السيناتور بوب مينينديز، رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ وأحد أقوى الديمقراطيين في الكونغرس. وكان منينديز نصيرًا قديمًا للجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية (AIPAC)، وواحدًا من أكثر الأصوات المؤيدة لإسرائيل تشدداً في مجلس الشيوخ، ولم يترك مينينديز أي شك في أنه ينوي الضغط على بايدن لدفعه إلى تبني مواقف أكثر عدوانية في السياسة الخارجية، تمامًا كما فعل في الماضي عندما شغل المقعد آخر مرة خلال فترة إدارة باراك أوباما.
ونحن نشهد بالفعل آثار الضغط الذي يشكله مينينديز في حركة بايدن البطيئة والخائفة في اتجاه العودة إلى “خطة العمل الشاملة المشتركة”. ويأتي هذا على الرغم من الدعم الشعبي الواسع في الولايات المتحدة للعودة إلى الصفقة، والتي كانت أغلبية قوية قد عارضت خروج البلد منها في المقام الأول.
في حين أن هناك عقبات كبيرة مسبقاً تجعل من العودة إلى الاتفاقية مهَمة صعبة، فإن هذه العقبات تتضخم بشكل كبير بسبب المعارضة بين بعض الديمقراطيين الرئيسيين في مجلس الشيوخ، بقيادة مينينديز. وبصفته رئيس لجنة العلاقات الخارجية، يتمتع مينينديز بسلطة تمكّنه من جعل الحياة صعبة للغاية على بايدن فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، بما في ذلك عن طريق التحكم في تخصيص التمويل الحكومي، أو من خلال تعزيز التشريعات التي تحد من خيارات بايدن.
وتتضاعف هذه السلطة في مجلس الشيوخ المنقسم بالتساوي؛ حيث يحتاج بايدن إلى دعم كل ديمقراطي لتأمين المصادقة على تعيين موظفيه ومتابعة أجندته المحلية الطموحة. وهكذا، بينما يتمتع بايدن من الناحية الفنية بالسلطة للتصرف كما يشاء في مسائل مثل مسألة إسرائيل-فلسطين، فإن المكائد السياسية من حوله لن تجعل الأمور سهلة على الإطلاق.
وقد أوضح مينينديز أنه يتوقع التمتع بهذا التأثير على سياسة بايدن الخارجية وركز على الصفقة الإيرانية لتوضيح وجهة نظره. وعلى سبيل المثال، عمل على تبطيء المصادقة على تعيين مرشحي بايدن الرئيسيين الذين كانوا قد لعبوا سابقًا أدوارًا مركزية في جهود باراك أوباما لصياغة “خطة العمل الشاملة المشتركة” خلال فترة رئاسته. وكان هذا في الأساس تحذيراً من مينينديز، يُخبر به بايدن بأنه يتوقع أن يشارك في عملية صنع القرارات التي يتخذها الرئيس -وهو ما يشعر بأن أوباما لم يكن قد فعله بما فيه الكفاية.
إضافة إلى ذلك، قاد السناتور جهدًا الشهر الماضي بالعمل مع ليندسي غراهام، أحد كبار الجمهوريين والموالي لترامب- للضغط على بايدن لاتخاذ موقف أكثر تشددًا بشأن الاتفاق الإيراني، وهو ما سيجعل من المستحيل تقريبًا التوصل إلى توافق مع إيران بشأن إحياء هذا الاتفاق.
ويبدو أن مينينديز يعتقد أن هذا النفوذ سيجبر بايدن على التشاور معه بشكل منتظم. وقال مينينديز: “هذا لا يعني أننا سنتفق في 100 في المائة من الوقت. لكنه يعني أننا سوف نفهم بعضنا بعضا، ومن أين نأتي -والأرجح هو أننا سنتفق”.
ومع ذلك، نظرًا لأن للرئيس والسيناتور وجهات نظر مختلفة بشكل لافت حول العديد من قضايا السياسة الخارجية -وأن الأخير كان يعمل بنشاط لعرقلة جهود بايدن- فمن المحتمل أن يكون مينينديز بصدد رسم صورة أكثر وردية للوئام بين الرجلين، ما سيكون عليه واقع العلاقة بينهما فعلياً.
“تسييس حتى الثمار الدانية”
وإذن، ماذا يعني كل هذا بالنسبة لمسألة إسرائيل-فلسطين؟ على النقيض من الرؤساء السابقين، يأتي بايدن إلى السلطة بلا توقعات تقريبًا عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع الاحتلال الإسرائيلي. وعلى الرغم من أن بايدن كان أكثر صراحة من سلفه في معارضة الضم السافر للضفة الغربية، فإنه يغض الطرف عن الضم الفعلي المستمر الذي تمارسه إسرائيل منذ عقود.
على نحو أكثر إيجابية، وافق بايدن على إعادة بعض التمويل لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، وبرامج الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، والتعاون الأمني بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية. وقوبلت هذه التحركات الهزيلة برد قوي من الجمهوريين في الكونغرس، إضافة إلى اعتراضات من سفير إسرائيل لدى الولايات المتحدة، جلعاد إردان. ومع ذلك، في إشارة مشجعة، لم ينضم معظم الديمقراطيين إلى هذا النقد.
من المحتمل أن يعكس هذا الموقف فهمًا مفاده أننا إذا وضعنا المواقف السياسية جانباً، فإن قطع الأموال عن اللاجئين الفلسطينيين ومشاريع التنمية لا يفيد أي طرف. ومع ذلك، رد براد شيرمان، النائب الديمقراطي النافذ، على استعادة المساعدات بإحياء مشروع قانون، مع عضو الكونغرس الجمهوري اليميني المتطرف لي زلدن، يدعو إلى فحص الكتب المدرسية التي تستخدمها (الأونروا) في المدارس الفلسطينية. وقد تكون إجراءات أخرى مصممة لاستهداف وكالة إغاثة اللاجئين الفلسطينيين قادمة على الطريق.
قد لا يكون الغرض من كل هذه المعارضة بالضرورة مناهضة هذا الحد الأدنى من التمويل الذي أعاده بايدن للفلسطينيين. وقد تكون الغاية منها بدلاً من ذلك هي رفع التكلفة السياسية المترتبة على التعامل مع قضية إسرائيل-فلسطين بأي شكل من الأشكال. وكما أخبرتني لارا فريدمان، رئيسة مؤسسة السلام في الشرق الأوسط، فإن “تكتيك معارضي إحراز تقدم (بين إسرائيل والفلسطينيين) هو تسييس حتى الفاكهة الدانية بحيث يتعين على الناس إنفاق الكثير من رأس المال السياسي على ما ينبغي أن يكون بسيطًا فلا يتبقى لديهم شيء لخوض معارك أكثر صعوبة”.
وسوف تكون تلك المعارك صعبة بما يكفي لو أنها كانت بين الحزبين فقط. ولكن، كما أظهر مينينديز وشيرمان وغيرهما من الديمقراطيين في الكونغرس، فإن حزب بايدن نفسه منقسم بشدة حول قضية حقوق الفلسطينيين. من بعض النواحي، هناك تقدم، حيث أصبحت الأصوات الديمقراطية الداعمة للحرية الفلسطينية أكثر بروزًا وتأثيرًا من أي وقت مضى. ولكن ما يزال هناك طريق طويل ينبغي قطعه في هذا السبيل.
في حين أن إجراء الانتخابات الإسرائيلية والفلسطينية هذا العام يوفر ذريعة لبايدن لإبقاء سياسة الولايات المتحدة تجاه الصراع في الخلف، فإن من المرجح أن تنفجر هذه القضية في نهاية المطاف. سوف يستمر العديد من الديمقراطيين في محاولة جعل أي إجراء أميركي إيجابي -حتى بالحد الأدنى- تجاه الفلسطينيين مكلفًا سياسيًا قدر الإمكان -ومثل مينينديز، يشغل العديد منهم مناصب رئيسية تؤهلهم للقيام بذلك.
كما تشير تشريعاته المحلية الأخيرة، يبدو بايدن منفتحاً على جعل الضغوط الشعبية هي التي تشكل أجندته السياسية. ولكن، ما لم تظهر مثل هذه الضغوط لدعم الحقوق الفلسطينية وتتجلى في وقت قريب، فإن ميول بايدن الخاصة إلى الحفاظ على الوضع الراهن الذي أنجبته اتفاقيات أوسلو ستسود بالتأكيد، على حساب كل الذين يعيشون بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط.
*Mitchell Plitnick: محلل وكاتب سياسي. وهو المؤلف المشارك، مع مارك لامونت هيل، لكتاب “إلا من أجل فلسطين: حدود السياسة التقدمية”، الصادر عن (نيو برس) في شباط (فبراير) 2021. وهو مقدم برنامج “مراجعة السياسة الخارجية” التلفزيوني.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: How hawkish Democrats are impeding Biden’s Middle East policy
المصدر: الغد الأردنية/(مجلة 972+)