أتمت الثورة السورية العظيمة قبل أيام عامها العاشر، ولا تزال شعلة الحرية متّقدة في نفوس الآلاف من أبنائها المخلصين، تستمد قوتها من أحلام الشهداء وصرخات الثكالى من بين أنقاض البيوت المهدمة على ساكنيها، وتتقد أكثر بطموحات أطفال ترعرعوا في خيام النزوح وأرصفة المنافي في بلاد الشتات، يحلمون بالعودة إلى وطنٍ لم نعد نعرف ملامحه بعد عشر سنواتٍ عانى فيها من كل أشكال القتل والتدمير من نظام مجرم تفنن بكل أساليب الاعتقال والتعذيب والاغتصاب والتهجير الجماعي الممنهج، وذلك كله بوجود الاحتلال الإيراني لسورية، بمشاركة حزب الله ومليشيات طائفية، والاحتلال الروسي الذي جرّب كل أنواع الأسلحة الفتاكة على الشعب السوري.
مضت عشر سنوات، والمعارضة السورية، على الرغم من فرص كثيرة أتيحت لهذه للمعارضة لإثبات ذاتها وقدرتها على تشكيل وعي شعبي، يساهم في استعادة القرار الوطني السوري، إلا أنه، وبنظرة بسيطة إلى واقع حالها السياسي اليوم، نجد أنفسنا أمام ركامٍ هائلٍ من التناقضات في المواقف، وحالة من التشظي والتفكك لا تشبه أي واقع سياسي في أيٍّ من ثورات الربيع العربي، أو ثورات العالم أجمع، وما نراه اليوم من منصّات هامشية، تمثلها شخصياتٌ أكثر هامشيةً لتلعب أدوارا أقل ما يمكن القول عنها إنها هامشية، وكأن حالهم يتمثل قول الشاعر: عَلَى فَرْشِ الْبُغَاةِ تُجَرِّدُوا مِنْ سِتْرَةٍ كَانَتْ لهم وَثِيَابِ/ حَسِبُوا التَّعَري لِلْعَصَاَةِ تُقَدِّمَا وَتَحْضُرَا فِي هَيْئَةٍ وَلُبَابِ..
ولكنها (هذه المنصّات) لعبت دورا كبيرا في حالة التشظي تلك، حتى أصبح حال المعارضة السياسية عموماً اليوم كحال مجموعة دكاكين تصرّ على بيع منتج واحد فقط، فلا هي استفادت ولا حققت الفائدة للمستهلك. وهذا ما أوصل المعارضة اليوم إلى أن تكون في حالة انقطاع تام الصلة عن المجتمع المنوط بها تمثيله أصلاً، وفقدت كل رصيدها في الشارع المعارض، نتيجة أسبابٍ ذاتيةٍ ليس إِلَّا، محمولة على طموحات شخصية نرجسية لأشخاصٍ أسند لهم دور قيادي في مرحلة من المراحل، نتيجة تدخل دول عديدة لتغيير بنية المعارضة وهندستها، كيف ما أرادوا، لتتماشى مع المسارات السياسية المطروحة في ذلك الوقت. ولكن هؤلاء اليوم، والذين يسمون أنفسهم قيادة المعارضة السياسية، لا يزالون يتوهمون بأنفسهم، وقد استمرأوا حال الفراغ التي ملأوها، ولم يعودوا يتصوّرون أنفسهم في مناصب أخرى، أو يلعبون أدواراً أخرى غير التي هم فيها، أو يعودون إلى عيش الحياة الطبيعية، كما كانوا مثل باقي السوريين. هم يرفضون اليوم التخلي عن هذا الدور، والإصرار على إكمال المسيرة، وتبادل الأدوار فيما بينهم، وكأننا في مشهد للعبة الكراسي الموسيقية في قاعة مدرسية.
لقد أصبح الوضع اليوم، وبوجود هؤلاء، يوحي بأن أي محاولةٍ لتنسيق جهود السوريين، وتوحيد عملهم في هذا المشهد المزري، تبدو كمحاربة طواحين الهواء. لذا عى السويين اليوم أن يعملوا على دعم كل الجهود المخلصة والصادقة التي تسعى إلى استعادة القرار الوطني السوري وتوحيد الكلمة، فلا يمكن مواجهة الوضع السوري الرازح الآن تحت سيطرة الاحتلالات المتعدّدة، وبقايا قوى النظام، من دون معارضة سورية موحدة في كتلةٍ وطنيةٍ ديمقراطية، تمثل آمال شعب سورية، ومصالحه ومستقبله، بكل مكوناته وثقافاته، وهو الطامح إلى التغيير وبناء دولته الوطنية الحديثة.
ما يُراد قوله هنا أنه، ومع انبعاث الروح المتجدّدة للثورة السورية، في ذكراها العاشرة، وانطلاق مظاهرات الحرية مجددا في الشارع السوري، على قوى الثورة المخلصة التقاط هذه اللحظة التاريخية الثمينة، والعمل على إسقاط الشرعية عمّن تصدر المنابر العامة في مؤسسات المعارضة شتى، وإن حصل على توافقات دولية لوجوده، لا قيمة لها، في نظر من يتجرّع المرار في الداخل السوري. ولن تفيدنا في شيء اليوم محاولة هؤلاء التظاهر بمظهر الحريص على من يقيم في المناطق المحرّرة (متجاهلين تماماً الرازحين تحت سيطرة “قسد” أو ملالي إيران)، ومد جسور التواصل معهم، من خلال إقامة مركز هنا أو هناك، وهم لا يحتاجون لمن يركب جرّارا هنا، أو يزرع شجرة هناك، بل إلى من يقدّم لهم مصدر رزق للقمة العيش الحرّة والكريمة. لقد أن الأوان لجماهير الثورة التبرّؤ علنياً منهم، وإجبار جميع المتدخلين بالشأن السوري على الانصياع لإرادة السوريين الذاتية، وتغيير سياسة تجاذب المصالح، وتحقيق مصلحة السوريين أولاً.
ولن يتحقق هذا إذا لم يصدح صوتٌ واضحٌ منسقٌ قويٌّ من أهل الثورة السورية، يُسقط القناع عن الوجوه التي وافقت على العمل وفق أجندات غير سورية. غير ذلك، سوف نبقى ندور في الحلقة نفسها، المفرغة من سيطرة المعارضة الهامشية على قرار الثورة، وسيبقى أنين المعذبين في سورية فترة إضافية قد تطول عشر سنوات أخرى.
إنها الفرصة الأخيرة لهذه المعارضة، في ظل فقدان طغمة الحكم في دمشق أي أمل لها في البقاء، مع بقاء الأوضاع المأساوية التي تعيشها مناطق سيطرتها، والحصار الأقتصادي الخانق، وتفشّي فيروس كورونا بمستويات غير مسبوقة. ويدفع هذا كله المجتمع الدولي الآن للعمل على وضع المسار السياسي السوري، المتمثل في قرار مجلس الأمن 2254 على سكة الحل، مع توفر الإرادة الدولية اليوم لعدم السماح لروسيا بتعويم النظام، فمع كل ما سبق ذكره، فقدت روسيا إي إمكانية في إقناع أطراف أقليمية بالموافقة على عودة سورية إلى جامعة الدول العربية. ولم يعد من الممكن إطلاقاً إعادة تعويم النظام بأي شكل، ولن تفلح لعبة الانتخابات الرئاسية المزيفة التي يديرها الروس اليوم في إعادة أي أمل لتدوير رأس النظام، أو إعادة ذرة هيبة واحترام لهذا النظام المجرم من أيٍّ من دول الغرب أو الشرق، ولا الدول الشقيقة التي تدّعي حرصها على وحدة الصف العربي، وما إلى ذلك من كلام مهترئٍ بال عفا عنه الزمان، ولم يعد له صرف في قواعد اللعبة الدولية، فالعالم اليوم أصبح على مفترق طرق حقيقي، فإما أن ينتصر لعذابات السوريين، أو أن يقف إلى جانب الوحش الذي فتك بأرواح ملايين السوريين ودمائهم.
نقف اليوم جميعاً أمام الفرصة الأخيرة لهذه الثورة، وعلى السوريين أن يتخذوا الخطوات العملية، وعلى أرض الواقع، ومن الداخل، وبيد الثوار الحقيقيين لقلب الطاولة على رؤوس هذه الزمرة الفاسدة، وإسقاط الشرعية عنها، وكسب استحقاقٍ يعيد شرعية التمثيل في هذه الثورة العظيمة إلى أصحابها الحقيقيين، وإبعاد جميع المتسلقين والانتهازيين وممثلي الأجندات الإقليمية الذين تلحفوا بعباءة الثورة ورموزها وشعاراتها، ليجثموا كابوساً لا يقل قرفاً عن طغمة الحكم نفسها.
إعادة إحياء المظاهرات السلمية في كل مدن سورية وشوارعها، ورفع علم الثورة في كل بيت وزاوية، استعادة قرار الثورة، هذه هي الخطوة الأساسية الآن، والتي يجب أن تتبناها على قلب واحد جميع القوى الوطنية السورية المخلصة، للخروج من هذا الاستعصاء السياسي الذي كلف ولا يزال مزيداً من الدماء.
لقد أضاعت المعارضة السياسية أثمن فرص إيجاد حل لوقف النزيف السوري، وتم ارتكاب أفدح الأخطاء في حق هذه الثورة، وما زالوا مستمرّين في غيهم، لعدم وجود صوت سوري موحد، يسقط عنهم الشرعية، تماماً كما سقطت شرعية النظام. وينتظر أبناء الثورة بفارغ الصبر أن يدوي هذا الصوت السوري الحر اليوم، ويشكل عاصفة قوية تكنس جميع الغبار السميك المتراكم على صدور السوريين.
وسوف تشهد المرحلة المقبلة مخاضا عسيراً لولادة الثورة من جديد في الداخل السوري، ومن أبناء الثورة الأوفياء الذين لا يزالون على العهد، ويعملون الآن على استراتيجية التمييز والفصل بين الأيادي النظيفة والملوثة، تمهيدا لدراسة جذورها وتحديد الموقف منها (تمحيصا وتشخيصا) وتقرير كيفية التعامل معها، فإما مدّ يد العون لها ودفعها نحو الأمام أو اجتثاثها جذرياً. .. يحدث ذلك الآن تمهيدا لرسم الطريق ومفترقاته، وتحديد الخطوة التي ستحقق أمن الوطن وسلامته ومستقبله، على المعارضة أن تكتشـف الطريق، فالخطيئة اليوم لن يغفرها المستقبل.
المصدر: العربي الجديد