كتب الأستاذ عبد الرحمن الراشد، مقالتين في صحيفة “الشرق الأوسط”، يناقش فيهما الاتفاقية الاقتصادية التي وقعت بين إيران والصين، في آذار ( مارس) الماضي.
”اتفاق الصين السري مع إيران”، كان عنوان المقالة الأولى، 31 آذار. فيما الثانية كانت ”الصين وأميركا في الخليج”، 1 نيسان ( إبريل) الجاري.
الراشد اعتبر أن “اتفاقية الخمسة والعشرين عاماً، بين الصين وإيران، قد تقلب ترتيبات المنطقة، التي رست عليها بعد الحرب العالمية الثانية”.
هذا التبدل المحتمل إقليمياً، الذي أشار إليه الراشد، يأتي نتيجة رغبة صينية جامحة في توطيد نفوذها في الخليج العربي والشرق الأوسط، وهو نفوذ لا يقوم على التبادل التجاري وحسب، بل، الاستثمارات الضخمة، بدءاً من حقل الطاقة، الانشاءات، البنية التحتية، المصانع، وصولاً للتعليم والتدريب وتبادل الخبرات، وإرسال المواطنين الصينيين للعمل في الخليج. وفي هذا السياق يمكن قراءة الجهود الصينية الحثيثة في “دبلوماسية اللقاحات”، التي سعت من خلالها إلى تقديم لقاح كوفيد -19، بكميات كبيرة، إلى عدد من الدول في العالم، وعقد شراكات علمية وصحية، في سياق دفاعها عن سمعتها، بعد أن اتهمها الرئيس الإميركي السابق دونالد ترامب بأنها المتسبب الأول بـ “الوباء” والمسؤولة عن “الكارثة”، مطلقاً اسم “الفيروس الصيني” على فيروس كورونا المستجد!
الراشد أشار في مقاله الأول، إلى أن “هذه هي المرة الأولى التي يُظهِر فيها الصينيون شهيتهم للتوسع في منطقة الشرق الأوسط، وتحديداً غرب آسيا وشرق أفريقيا، معتمدين استراتيجية «التعاون الاقتصادي» المكثف، فيما يسمى مشروع «الحزام والطريق»”. وهذا التوسع يأتي في وقت تشهد فيها العلاقات بين بكين وواشنطن توتراً، سواء إبان رئاسة دونالد ترمب، أو حتى الرئيس الحالي جو بايدن، حيث أن السياسة الأميركية الحذرة والمرتابة من الصين، ليست بطارئة، بل لها سنوات خلت، وكان الرئيس السابق باراك أوباما، أحد الذين نظروا لهذه السياسة، في مواجهة صعود الصين كقوة عظمى اقتصادياً، سيكون لها تالياً طموح سياسي، أرادت ذلك أو لم ترد، لأن فائض القوة الذي لديها، والنفوذ، سيطلقان شهيتها للتوسع بأشكال مختلفة، خصوصاً مع تراجع للدور الأوروبي، وصعود لاقتصاديات دول كالهند.
الصين في اتفاقيتها مع إيران، تسعى لأن تقدم نفسها كـ”شريك موثوق”، و”شريك لا يمارس الضغوط”، بمعنى أن بكين لن تكون لها اشتراطات تتعلق بالسياسات الخارجية، أو نوعية نظام الحكم، أو حقوق الإنسان، أو فرض رؤية ترتبط بالقيم الصينية والثقافة الآسيوية على شركائها، وهي في ذلك تود الاستفادة من القدرات المالية والفرص المتاحة في الدول الشريكة، دون أن يعنيها كيفية إدارة هذه الأنظمة لشؤونها الداخلية، وهي في ذلك لن تحمل نظام الجمهورية الإسلامية في إيران، أي أعباء سياسية.
الولايات المتحدة الأميركية، على العكس من الصين؛ فهي نظام لديه رؤية تتعدى الحدود، وأيضاً ”القيم” التي يسعى للترويج لها، خصوصاً في ظل إدارة ”ديموقراطية”، ما يجعله في بعض الأحيان عبئاً على حلفائه الإقليميين، وهو ما أشار له عبد الرحمن الراشد في مقاله الثاني، عندما قال “تفقد (إمريكا) حلفاء مهمين نتيجة سياساتها معهم، مثل السعودية وتركيا ومصر، وبإصرارها على التدخل في شؤونهم الداخلية باسم القيم الأميركية”.
صحيح أن هنالك قيماً كونية وعالمية كبرى، مثل احترام حقوق الإنسان، والعدالة، والحكم الرشيد، إلا أن طريقة تطبيق هذه القيم، وتقعيدها في المجتمعات، وجعلها جزءاً من الثقافة المحلية، هو أمر يختلف بين دولة وأخرى، ويجب أن يكون نتيجة عملية إصلاح وتغيير داخلي، نابع من ذات النظام والشعب، وليس عبر فرض من الخارج، لأن هذا النوع من النظرة “المتعالية”، التي تزدري العرب أو دول الخليج، لن تجدي نفعاً، بل تعبر عن قصور في فهم معنى التحديث الحقيقي الذي تكون الدولة ومؤسساتها والمجتمع المدني جزءاً رئيساً منه.
الإيرانيون، سيستفيدون من الاتفاقية مع الصين، في تنفيذ العديد من المشاريع الداخلية، وتحسين مستوى البنية التحتية، واستخراج النفط، وإمدادات الكهرباء. وأيضاً، هي ورقة قوية في التفاوض مع الولايات المتحدة حول البرنامج النووي.
هنالك نوع من الثقة المفقودة بين طهران وواشنطن، حتى لو كان “البيت الأبيض يود مد يد التعاون لإيران؛ لأن الأخيرة مسكونة بالتجارب التاريخية، وتحديداً بُعيد دور الولايات المتحدة في إسقاط حكومة محمد مصدق في آب (أغسطس) 1953، وما تبعها من أحداث، وصولاً للحرب العراقية – الإيرانية، وليس انتهاء بانسحاب الولايات المتحدة من “خطة العمل الشاملة المشتركة” في أيار (مايو) 2018. أي أن هنالك مساراً معقداً من “الريبة” المتبادلة بين الطرفين، والذي عززته النزاعات والمواجهات الأمنية في لبنان والعراق والخليج، دون أن نغفل أن هنالك تصوراً إيرانياً منذ أيام الشاه الراحل محمد رضا بهلوي، من أن أميركا هي حليف أقرب لدول الخليج العربية، منها لإيران، رغم العلاقات الوطيدة التي كانت بين طهران وواشنطن إبان الحكم الملكي، قبيل الثورة 1979.
لهذا، نجد أن الحكومة الإيرانية، ومرشد الثورة، رغم انتخاب جو بايدن رئيساً للولايات المتحدة، يرفضان حتى الساعة الجلوس على طاولة واحدة مع الإميركيين، ولا يرغبون في مباحثات مباشرة. حتى أن الاجتماع الافتراضي الذي جمع دبلوماسيين إيرانيين وأوربيين وصينيين، في 2 نيسان (أبريل) الجاري، لم يشارك فيه أميركيون. كما أن الاجتماع المزمع عقده في العاصمة النمساوية فيينا، الثلثاء 6 نيسان الجاري، لن يحضره مسؤولون من الحكومة الإميركية، وإن كان عدد منهم سيتواجدون في فيينا للتنسيق مع نظرائهم الأوربيون.
هنالك متغيرات متسارعة، وتنافس بين الصين والولايات المتحدة، ورغبة أوربية كبيرة في الحصول على ما تبقى من الاستثمارات والفرص التجارية والاقتصادية في إيران، خصوصاً أن هذه الدول تنظر لإيران كأرض بكرٍ، من الممكن أن يستفيدوا منها مئات ملايين الدولارات، في وقت تعاني فيه اقتصاديات دولهم من أعباء كبيرة نتيجة تداعيات أزمة كوفيد -19، وخشيتهم أن يبتلع “التنين الصيني” الغلة بأكملها، فلا يبقى لهم إلا الفتات!
من هنا، تأتي أهمية ما كتبه الأستاذ عبد الرحمن الراشد، في سعيه لفهم أسباب توقيع “الاتفاقية الصينية – الإيرانية” في هذا التوقيت تحديداً، وأهدافها، ومجالاتها، وإمكانية تحققها على أرض الواقع، والعقبات التي تواجهها، أو الإخفاقات المحتملة، وكيف سيؤثر كل ذلك على دول الخليج العربية، والتحالفات المستقبلية، وسلوك إيران الإقليمي، وأيضاً علاقة بكين مع العواصم الخليجية، وهل ستقوم بدورٍ ناظمٍ يقود لتهدئة بين إيران وجيرانها، ويمهد لحوار جدي وحقيقي، لا مجرد أحاديث شكلية وصور للاستهلاك الاعلامي، أم أنها لن تكون قادرة على احتواء طهران أو الحد من سياستها التوسعية الخارجية، والتي ربما تسعى بكين للاستفادة منها بطريقة ما تخدم مصالحها!
هنالك مفتاح أساسي لفهم مرتكز العلاقات بين بكين وطهران، أشار له الراشد، وهو أنه “في اتفاقية الصين وإيران، علاقة بين شريكين خصمين آيديولوجياً لكنها علاقة المضطر، كمحاصرين أميركياً”. وهو ذات الشيء الذي بنته إيران في علاقاتها مع روسيا وسوريا وفنزويلا، على سبيل المثال.
الحكم في إيران جمهوري إسلامي، بصبغة ”عقائدية”، أي أن هنالك “أدلوجة” تحرك السياسات الداخلية والخارجية، وإن كانت هنالك محاولات لبعض الإصلاحيين والوطنيين القوميين للخروج من هذه التوليفة المعقدة. إلا أن فهم هذه المعادلة في غاية الأهمية، وهي كيف أن نظاماً ذا بعد ديني عميق، يتحالف مع أنظمة على النقيض منه عقائدياً؟ هي الحاجة أحياناً، ومواجهة الخصوم، وأيضاً البرغماتية والدهاء الذي تتصف به سياسات إيران.
كي لا يكون الاتفاق بين الإيرانيين والصينيين، على التضاد مع المصالح الخليجية العربية، يجب أن يقرأ ويحلل هذا الاتفاق بطريقة علمية، سياسية، دون انفعالات، ودون أحكام مسبقة رغبوية. وأظن أن عبد الرحمن الراشد، في مقاليه، طرح أسئلة ونقاطاً مهمة في هذا المضمار، تستحق أن تفتح نقاشاً جاداً بين المختصين، بعيداً عن التشنجات والعصبيات التي أغرقت منصات التواصل الاجتماعي، والتي هي آراء مضللة، انفعالية. لأن الهدف من أي نقاش هو الوصول إلى رؤية منهجية، تتسم بالتماسك والصدقية، وتكون بعيدة عن “العماء السياسي”، حتى في تشخصينا لواقع الخصوم والأعداء. لأنه إذا لم نعرف “الآخر” بشكل سليم، وكما هو، لن نستطيع توقع سلوكه، أو فهم آلية عمله، وطرائق تفكيره!
المصدر: النهار العربي