تجدّد السجال في لبنان منذ أسابيع حول مسألة الحياد، وحول سبل تحقيقه في بلد تفرض عليه الجغرافيا خيارات ومواقف، وتربطه السياسة والثقافة وتطوّرات الأحداث في محيطه وعلى أرضه نفسها بصراعات قديمة وجديدة، مستمرّة في الحالين.
وإذا كانت تصريحات البطريرك الماروني بشارة الراعي الأخيرة سبباً لجولة السجالات المستجدّة، فإن الموضوع له تاريخ وسياقات متشعّبة ومتنافرة، وله أيضاً أطر فلسفية يفرضها النظام التوافقي الذي تأسست بمُقتضاه الدولة اللبنانية ووُضِع دستورها وقانونها الانتخابي ومبدأ تقاسم السلطة فيها العام 1926، تحت الانتداب الفرنسي، ثم تكرّست مؤدّياته في الميثاق الوطني العام 1943 وما بُنِي عليه نظرياً من نفيَين (لا لوحدة سورية أو عربية ولا لاستمرار الانتداب والارتباط العضوي بفرنسا)، قال فيهما جورج نقاش بعد سنوات إنهما «لا يصنعان أمّة».
ولعلّ أزمة لبنان ثم حربه الأهلية الأولى العام 1958 كانتا في واحد من أبرز أسبابهما وجوانبهما على تماس مباشر مع المسألة الحيادية هذه. فبين تأييد المدّ الناصري و»الجمهورية العربية المتّحدة» من جانب سياسيين ومثقّفين وقطاعات شعبية واسعة، وبين موالاة «حلف بغداد» والسعي للانخراط فيه بتأييد من سياسيين وكتّاب وقطاعات شعبية أُخرى، انفجرت الخلافات وتقاطعت مع تصاعد مطالب الزعامات المسلمة بتقليص صلاحيات رئيس الجمهورية الماروني ومساواة الطوائف في التمثيل البرلماني والحكومي والإداري. وانزلق البلد تدريجياً نحو قتال وصدامات دامت أشهراً، وأنهاها توافق أمريكي مصري (بين آيزنهاور وعبد الناصر) على لجم التصعيد في المنطقة، إثر سقوط الحكم الملكي في العراق ونزول المارينز في عمّان ثم في مرفأ بيروت وانتشارهم حول القصر الجمهوري. تلا ذلك انتخاب قائد الجيش فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية وسَيره بحكومة أقطاب مصغّرة في مسار تصالحي وإصلاحي أفسده في النهاية تضخّم دور «المكتب الثاني» (أي المخابرات اللبنانية) في الحياة السياسية وقصور بعض الخيارات التنموية ورفض زعامات وقوى لها، خشيةً على مصالحها وشبكاتها الزبائنية.
ولا يمكن كذلك فصل أزمات الستينات، لا سيما في نصفها الثاني، وصولاً إلى الحرب الأهلية الكبرى وما تلاها من اجتياحات سورية وإسرائيلية، عن مسألة الحياد إياها والسجالات الحادة حولها. ذلك أن الانقسامات حول الموقف من الصراع العربي الإسرائيلي وأشكال الانخراط فيه، ثم حول تواجد المقاومة الفلسطينية المسلّحة في لبنان وإقامتها قواعد قتالية (نظّمت بعض شؤونها «اتفاقية القاهرة» العام 1969)، ثم حول انتقال القيادة الوطنية الفلسطينية من الأردن إلى لبنان بعد أيلول الأسود 1970 وتشييدها لكيان سياسي – عسكري بدعم من اليسار اللبناني ومن بعض القيادات المسلمة، أدّت جميعها إلى انزلاق تدريجي نحو الحرب ابتداء من نيسان/أبريل 1975. وطبعاً تداخلت الانقسامات المذكورة مع خلافات لبنانية عميقة بين يسار جهد لتغيير النظام الطائفي، ووجهاء مسلمين أرادوا الإبقاء عليه شريطة انتزاع حصصٍ في السلطة والإدارة والخدمات مساويةٍ لحصص أندادهم المسيحيين، ويمين مسيحي رفض أي إصلاح أو تعديل حصص أو مسّ بما أسماه «الصيغة اللبنانية» التي رأى فيها ضمانة وجودية للكيان اللبناني ذاته.
وإذ انتهت الحرب بعد خمسة عشر عاماً بموجب قبول أمريكي سعودي بحلّ سوريّ فُرض (بموازاة تحالف الأطراف الثلاثة المذكورة ضد العراق في حرب الخليج العام 1991) على اللاعبين اللبنانيين المتبدّلين منذ أخرجت تل أبيب وبعدها دمشق المقاومة الفلسطينية من صور وبيروت وطرابلس وأضعفتا اليسار في عشرية الثمانينات، دخل البلد الحقبة السورية التي أَمْلَت بالقوّة التحاقاً سياسياً لبنانياً بتوجّهات الحُكم الأسدي. والحُكم هذا، ألحق هزيمة بالدور المسيحي وأبعَد الزعماء الموارنة الحربيّين عن السلطة الجديدة في بيروت التي شكّل المشروع الحريري ذو الارتباطات السعودية والدولية عمودها الفقري اقتصادياً لسنوات، قبل أن تضعفه التبدّلات داخل سوريا مع توريث بشار الأسد، وتبرز في مواجهته داخلياً قوّة سياسية وعسكرية كانت قد تأسّست العام 1983 بتمويل وتدريب إيرانيّين، وتحوّلت تدريجياً وحتى تحرير الجنوب الذي تفرّغت للقتال فيه، وتفرّدت، إلى طرف وازن شعبياً يمثّل التقاطع السوري الإيراني في السياسة الإقليمية. والقوّة المعنية، أي حزب الله، انتقلت بعد التحرير العام 2000 ثم بعد اجتياح أمريكا للعراق في العام 2003 إلى دور جديد أشدّ التصاقاً بطهران ومشروعها التوسّعي وجبهاتها الشرق أوسطية المتعدّدة.
وتسارعت الأمور ابتداء من العام 2004 لبنانياً، مذكّرة كل مرّة بأن الحياد المتعذّر ما زال في صلب المعادلات والنزاعات. فمن القرار الأممي 1559 الداعي لانسحاب الجيش السوري ونزع سلاح حزب الله والخلافات عليه وحوله، إلى اغتيال رفيق الحريري العام 2005 وما تلاه من تحرّكات ضخمة في الشارع واصطفافات شعبية سياسية وطائفية أفضت معسكرين دعم كلّاً منهما أطرافٌ خارجيون متنازِعون (إيران وسوريا من جهة والسعودية وفرنسا وأمريكا من جهة ثانية)، وصولاً إلى حرب تموز بين حزب الله وإسرائيل العام 2006 ثم إسقاط الحزب الشيعي للحكومة اللبنانية بقوة السلاح العام 2008، تبدّى أن لا إمكانية للتوفيق بين الخيارات الخارجية المتنافرة للكتل اللبنانية الرئيسية رغم الوساطات الفرنسية والقطرية والهدنة التي أتاحتها عقب توقيع «اتفاق الدوحة».
وأدّى هذا التعذّر العام 2011، بعد اندلاع الثورة السورية ثم تحوّلها تدريجياً إلى حرب ضارية، إلى إسقاط حزب الله حكومة خصمه الحريري الابن وفرضه صيغة حكم جديدة له اليد الطولى فيها، ثم انخراطه بطلبٍ إيراني في القتال دفاعاً عن النظام الأسدي، رغم محاولة ما عُرف بـ»اتفاق بعبدا» النأيَ بالنفس عن المقتلة الدائرة على مسافة أمتار من حدود لبنان الشرقية والشمالية، والمهجِّرة إليه مئات ألوف اللاجئين.
هكذا، يمكن القول إن تاريخ لبنان الحديث وُسِم بصراعات وأزمات كان على الدوام للخارج والموقف منه ومن محاوره الأثر الكبير عليها وعلى أطرافها. ولا تشذّ الأزمة العميقة الحالية عن الأمر، إذ يبقى البلد المتهالِك في قلب التجاذبات في المنطقة رغم تقدّم حزب الله وراعيه الإيراني على سواهما من أطراف داخليين وخارجيين. ويُمكن أيضاً تفهّم موجبات الدعوات الجديدة إلى الحياد، ولَو أن الوصول إليه لا يبدو ممكناً، ومثل ذلك قدرته إن اعتُمد على توفير حلول لجميع المشاكل التي أنتجتها خيارات وممارسات وعمليات تناهب ممنهج للبلد على مدى عقود.
على أن تعذّر الحياد لا يعني أن لا ضرورة للاستمرار في إثارته، شرط توضيح المقصود ورفع الالتباسات، وتقديمه كـ»حياد إيجابي» يحاكي نماذج واقعية فلا يبدو مجرّد افتراض موهوم أو «أداة شغب» سياسي تُوظّف في سياق خلافات ومعارك طائفية. وهذا يعني أن ثمة قضايا، مثل القضية الفلسطينية، لا حياد تجاهها إلا عسكرياً أو حربياً، أي بما لا يؤثّر على الدعم الديبلوماسي والحقوقي والثقافي والإعلامي الواجب للفلسطينيين (بدءاً بإقرار حقوقهم المدنية والاقتصادية في لبنان واحترامها). والأمر يستند أصلاً إلى سجلّ تاريخي لبناني حافل، وإلى قرارات أمم متحدة ومفاعيل قانون دولي تُدين جميعها الاحتلال والاستيطان والأبارتيد الاسرائيلي.
في المقابل، ثمة قضايا أُخرى تستوجب حياد الدولة من دون تقييد المجتمع في مواقفه وتضامنه معها. منها قضايا الحريّات العامة والخاصة والحقوق الإنسانية التي يمكن للبنانيين واللبنانيات تأييدها في كل مكان خارج حدود وطنهم والتضامن مع المكافحين من أجل انتزاعها، من دون أن تكون لدولتهم مواقف تفصيلية منها أو تبعات سياسية مباشرة لمواقفها من خارج المعمول به مثلاً على الصعيد الأممي أو ضمن إجماعات المنظومات الإقليمية. وثمة قضايا إضافية تستوجب حياداً على مختلف الصعد تجنّباً لما قد تثيره التموضعات تجاهها من انقسامات عامودية في البلد أو من توتّرات في علاقات ثنائية ليس للبنان أن يخوض فيها. يسري الأمر هنا على النزاعات بين المحاور الإقليمية، وعلى المواقف من إيران والسعودية، أو من قطر والإمارات، أو من المغرب والجزائر. أما في العلاقات الدولية، فيمكن لمقاربة شبيهة بمقاربات منظومة «عدم الانحياز» أن تُعتمد كسبيل للدفاع عن قِيمٍ ومبادئ ديمقراطية مثلاً (مع ما يتطلّبه الأمر من خيارات تصويت في المؤسسات والهيئات الدولية)، من دون الانتماء إلى تحالفٍ أو المشاركة في جبهات لا مصلحة للبنان في الانخراط فيها.
الحياد الإيجابي إذاً، رغم أنه خارج المتناول اليوم ولا توازن قوىً داخلياً أو خارجياً يمكن أن يدفع ما تبقّى من الدولة إليه، يبقى منطلقاً للخروج من بعض الديناميات التخريبية، ومن انعكاسات الكثير من الصراعات على لبنان واللبنانيين. لكنّه، ولو حصل، لن يكون كافياً للتعامل مع الأزمات المتفاقمة التي تعصف بالبلد نتيجة التراكمات والمصائب التي أنزلها أهل الحكم وحلفاؤهم بالدولة ومؤسساتها وبالناس ومعيشتهم. فهذه وتلك شؤون تتطلّب علاجات ومقاربات لم يعد من الممكن ألّا تكون شديدة الجذرية.
* كاتب وأكاديمي لبناني
المصدر: القدس العربي