التاريخ قاسٍ لا يرحم، ولا يتعامل بالرغبات والأحلام. والهزائم أبشع دروسه، لأن عشرات الآلاف، والملايين في الحالة السورية، دفعوا ثمن الهزيمة، ولم يحققوا أهدافهم. من الصعب الإقرار بأن سلطة حاكمة هزمت المجتمع الذي تحكمه وحطّمته. عادة ما تتحكّم السلطة بالمفاصل الأساسية للمجتمع، فتسيطر على البلد، وسرعان ما تتفكّك هذه السيطرة، عندما يثور المكون الأساسي للمجتمع في مواجهة السلطة، فتتفكك البنية الصلبة للسلطة. لم يجرِ هذا في التجربة السورية التي لها كثير من الخصوصية في سياق الثورات العربية، وتحتاج إلى دراسة.
هل كان الناس على خطأ، عندما قرّروا أن يكسروا حاجز الخوف، ويثوروا في وجه نظام ديكتاتوري، متعسّف، شمولي، دموي، طائفي؟ منذ عقود، هناك عشرات الأسباب التي تجعل الناس تثور عليه، بل تبدو الثورة السورية تأخرت، بالنظر إلى الحجم الهائل من الظلم والقمع الذي مارسه النظام، كقمع معمم، لم يدفع البلد إلى الإذعان لسلطته فحسب، بل وأعدم كل عمل سياسي فيها، حيث جفّف هذا النظام كل المنابع التي يمكن أن يتسرّب منها العمل السياسي، بحيث أصبح المجتمع غير قادر على قول: لا. .. لسلطةٍ اخترقته حتى العظم، وأعادت تصميم المجتمع وفق آليات سيطرة سلطوية، غير قابله للفكاك منها. لذلك، عندما ثار السوريون، كانوا يقومون بعمل أسطوري، مفاجئ، لأنفسهم قبل أي أحد آخر.
من المبكر الحديث عن آثار الثورة السورية، لأن الآثار التي تتركها الثورات المهزومة تكون أكبر وأكثر عمقاً من الثورات المنتصرة، لأن واحدا من الأشياء التي تفعل فعلها في المجتمعات بعد الثورات الكبرى، تفعل فعلها، ليس بقوة المعطيات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية فحسب، بل بما أطلق عليه هيغل “مكر التاريخ”، وهو ما يتجاوز كل المعطيات السابقة، أو يكون نتيجة تفاعل كل هذه المعطيات، بطريقةٍ ليس للمحللين القدرة على استنتاجها المنطقي، فيكون “مكر التاريخ” العامل الحاسم في إكمال الصورة التي رفضت أن تكتمل خلال الصراع نفسه. ويمكن قراءة نتائج هذا “المكر” في ما بعد الحدث، ولا يمكن اعتماده مسبقاً في التحليل لقراءة الصورة، وقد يأتي مكر التاريخ من تراكم عوامل مخفية، لسنا قادرين على رؤيتها، لكنها تفعل فعلها الحاسم، من دون أن تعطي مؤشّرات. إنه نوعٌ من السحر الموضوعي، وليس حلماً فارغا لرغبة التغيير.
لماذا “مكر التاريخ”؟ لأن حجم الوقائع والحوادث الكبيرة والصغيرة الهائلة التي وقعت خلال العقد الأخير من تاريخ سورية لا يمكن الإلمام به، تبدو سورية اليوم حطاما من وقائع وأحداث لا يمكن الإلمام بها أو جمعها والوصول إلى قراءة مطابقة، أو قريبة من مطابقة الواقع وقراءة المستقبل القادم. ولأنه تصعب قراءة الحاضر، يمكن النظر في الماضي لفهم كيف وصلت الثورة السورية إلى الهزيمة. قد يكون فهم الماضي مدخلاً لفهم الحاضر، وبالتالي خطوةً من أجل النظر إلى المستقبل.
شهدت سورية التي ثارت قبل عقد أكبر إهانة في تاريخها الحديث، بعملية التوريث، التي حل فيها الابن مكان الأب في رأس هرم النظام السياسي في سورية. وجاءت الإهانة من أن حافظ الأسد أنجز فراغاً سياسياً هائلاً في البلد خلال ثلاثة عقود من حكمه البلد، بفعل عامل التجريف السياسي الذي اتبعه خلال فترة حكمه، خصوصا في مطلع الثمانينيات، تركت البلد أرضاً محروقة بالمعنى السياسي، كتنظيمات سياسية ورجال سياسة. ولم تكن تعمل في هذه الأرض المحروقة سوى أدوات القمع، في مقدمتها الأخطبوط الأمني، بأجهزته المتعددة المربوطة بالرئيس نفسه. الفراغ الذي تم تكريسه في البلد هو الذي جعل عملية التوريث تسير بالسلاسة التي سارت فيها، ولم يصدر أي اعتراض في البلد. وإذا كانت قوى المعارضة محطّمة، بفعل القمع المديد، فلم يكن موت الأب مناسبة لتعبر في الشارع عن معارضتها التوريث. ومن الغريب أيضاً أنه لم يظهر رجل طامح من رجال السلطة نفسها للوصول إلى منصب الرئاسة، فتم تعديل الدستور، والبلد كله، على مقاس الولد، ليصبح مقاس الرئاسة يناسبه. كان واقع الحال يومها يقول إن البلد استمرت محكومةً بجثة الأب، وليس بنباهة الابن. وسيبقى البلد كذلك، حتى انطلاق الاحتجاجات، معلنة الثورة السورية في مارس/ آذار 2011.
مع انطلاق الاحتجاجات، اهتز النظام السياسي في البلد، لكن النواة الأمنية الصلبة العاملة على حمايته بقيت متماسكة. وحدّدت هذه البنية الأمنية عدوها الرئيس، في الفعاليات المحلية في المدن والبلدات السورية، والتي باتت قوة محرّكة للاحتجاجات، والتي حازت احترام السكان المحليين. لم تأت هذه الشخصيات الفاعلة من أحزاب المعارضة، إنما جاءت على السياسة من واقع مكانتها الأهلية في أماكن سكنها. ومنذ البداية، تم تحديد هؤلاء بوصفهم العدو الرئيسي، والذين عمل النظام على تصفيتهم الجسدية أو اعتقالهم. تاركاً نماذج أخرى ولدت في سياق الثورة السورية، أو تم توليدها بفعل عوامل استخبارية وإقليمية، أكثر منها ولادة نتاج تفاعلاتٍ محلية. ما أعطى النظام الفرصة لتصوير الصراع في سورية أنه بين منظمات إسلامية إرهابية ونظام علماني. وبتسامح دول العالم مع الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها النظام، وبالقطبة الإسرائيلية المخفية في الأزمة، تمت هزيمة الثورة. لم يكن العالم جادّاً في فعل شيء في مواجهة النظام وجرائمه، وتم الحفاظ عليه لعدم معرفة البديل وغموض مستقبل البلد في حال سقوط النظام. وبدخول روسيا من أجل حماية النظام، بعد أن أصبح الدعم الإيراني غير كاف وحده، أصبحت هزيمة الثورة السورية مسألة وقت.
الوضع اليوم في غاية الغرابة، هزمت الثورة ولم ينتصر النظام، تحطّم البلد، والنظام الذي هدّد بحرق البلد أو بقاء الأسد حصل على الاثنتين، حرق البلد ودمّرها وبقي الأسد بوصفه حجر القفل في قوس النظام، من دونه ينهار هذا النظام. من جانب آخر، انهار النظام بالمعنى الدولتي للكلمة. ولأن البلد تحطّم سياسياً وأمنياً وجغرافياً، أصبح الوضع في البلد نوعا من الأحجية غير القابلة للحل، بوجود نظام لا يملك أيا من مقومات البقاء، وهزيمة ثورة شعب، لم يعد قادراً على التحرّك، للخلاص من بقايا نظام في بلد محطّم.
المصدر: العربي الجديد