بخلاف من راقب تجربة داريا خلال الثورة من خارجها، فإن من كان يعيش داخل المدينة كان يعيش مشاكلها والاستقطابات بين تياراتها وانعكاس تطور الأحداث في باقي المحافظات السورية على المدينة، بالذات صعود التيارات المتطرفة وتأثر الشباب بها. وكموقف استراتيجي، كنا قد اتخذنا قرارا بأنه يتوجب علينا حل مشاكلنا الداخلية بعيدا عن أضواء الإعلام، لنحافظ على صورة التجربة ناصعة مشرقة كما أردنا لها أن تكون.
وكغيري من السوريين فقد حلمت أحلاما سعيت لتحقيقها في مدينتي، وأخرى فكرت فيها كثيرا لكن لم يكن من الممكن تنفيذها في المدى المنظور في تلك الأيام.
وهنا أود التأكيد، أن داريا ستبقى بالنسبة لي ولكثيرين مدرسة كبيرة بتجاربها وتضحيات أهلها. بداية من حراكها السلمي وعُلب الماء والورد التي وزعت على جنود جيش الأسد، ثم إلى مجلسها المحلي الذي كان له الدور الرائد في الحفاظ على هوية الثورة الوطنية في المدينة، ودوره الفعال في التنسيق بين المدني والعسكري وإدارة الموارد بشكل ممتاز، في مدينة واجهت حربا وحصارا استمرا قرابة أربع سنوات، إلى حراكها المدني المستمر رغم الحرب والحصار، إلى المحاولات الثقافية لشبابها وتلك الكتب التي جمعوها من البيوت المهدّمة ليؤسسوا من خلالها مكتبتهم تحت الأرض، ثم إلى صمود مقاتليها الأسطوري لسنوات أمام آلة القتل والتدمير الهائلة. وما أحلامي التي أود الحديث عنها إلا صور بقيت في مخيلتي دائما أشبه بالمثال أو بتلك الدولة الفاضلة كما تكلم عنها الفلاسفة في كتبهم، صور حلمت كثيرا بها وسعيت لتحقيقها، وكنت أتهم بسببها أحيانا أو غالبا بالمثالية أو اللا واقعية، وفي أحسن الحالات، أن تلك الأفكار قد تكون عظيمة، لكن هي أشبه ببذورٍ تحتاج بيئة مناسبة لها، وليس الواقع الذي نعيش فيه.
أحد أكثر أحلامي التي راودتني أيام الحصار، وفي مشهد يتقمص مجلس الشيوخ في روما القديمة كما نراه في الأفلام والمسلسات، أو كمجلس العموم البريطاني بكراسيه المتحلقة حول المركز، حلمت أن يكون في داريا المحاصرة مجلس نجتمع فيه، رجالا ونساء، مدنيين وعسكريين، نطرح فيه القضايا التي تهم حاضر ومستقبل المدينة، نناقشها، نتخاصم فيها، وإن زاد الأخذ والرد والاستقطاب حولها، لكن في النهاية يدرك جميع الحاضرين أن الحل سيكون بطرح تلك القضايا للتصويت، ثم يكون القرار الذي يذعن له الجميع، احتراما منهم للثورة وقيمها العليا ولسوريا التي نحلم بتأسيسها، ثم يصار لاحقا إلى تنفيذ تلك القرارات.
في الحقيقة طرحت الفكرة على عدد من القادة العسكريين والمدنيين المقربين، بصيغة لا تتطابق تماما مع الصيغة التي شرحتها في الأعلى، وقد تحمسوا لها ووجدوا فيها حلا لكثير من المشاكل التي تواجهنا، لكن آخرين وجدوا فيها جزءا من مؤامرة تهدف إلى السيطرة على قرار المدينة، لكون أن معظم الأشخاص الذين قبلوا بها كانوا من الأشخاص المؤثرين في حديثهم وحضورهم، بالتالي فإن نتيجة أي حوار ستكون مضمونة لصالح هؤلاء، وهذا ما لا يمكن لأولئك الذي آمنوا بالمؤامرة أن يقبلوه. بالتالي لم نتمكن من تنفيذ الفكرة حينذاك، حيث كان لا بد أن يجتمع حولها غالبية تضمن لها النجاح والتأثير المطلوبين منها.
ثاني أحلامي الذي فكرت فيه كثيرا، وتمنيت لو يتحقق، وكنت قد تحدثت فيه مع المحامي الوحيد في المدينة، أو العلماني الوحيد، كما كان يقول لي مازحا وهو جاد في توصيفه، هو تأسيس مكتب لحقوق الإنسان في داريا. وهذه المرة ليس للدفاع عن الأقليات كما يحصل عادة عند طرح مثل هذه الفكرة، فقد كان وجود الأقليات في داريا نادرا خلال الحصار، وإنما للدفاع عن حقوق الأفراد في المدينة بغض النظر عن عمل مخفر الشرطة أو جهاز الأمن العام، اللذين كان لهما دور كبير في حفظ الأمن الداخلي والحد من الانتهاكات لمستواها الأدنى، إلا أنهما كانا مرهونين لتوازنات القوى في النهاية.
كان يحصل أن يشتكي أحد الأشخاص العاملين على الجبهة على سبيل المثال، أن قائده أخذ بندقيته أثناء نومه في نوبة الحراسة، وقائده هذا يهدده دائما بتلك الحادثة، لتبدأ عملية ابتزاز على راتبه وأيام مناوباته، في الوقت الذي كان فيه هذا الشاب لايجرؤ على أن يشتكي خوفا من تبعات القضية. ولا يجد بالتالي من يلجأ إليه. أيضا كانت تحصل، وإن في حالات نادرة، حالات ضرب أو تعذيب لا يسمع بها أحد. أضف إلى حالات سرقة وحقوق مغتصبة توجد في كل مجتمع.
كنت أحلم أن يكون مكتب حقوق الإنسان ذلك مكانا يلجأ إليه كل صاحب شكوى أو مظلمة وكل من حصل في حقه انتهاك، في الوقت الذي يكون فيه هذا المكتب بعيدا عن الصراعات وتوازنات القوى، بما يضمن استقلاليته، وهو بدوره يوثق حالات الانتهاك ويُعد تقاريره بشكل دوري، وربما ينشرها على المنصات والقنوات الإعلامية المحلية وغير المحلية، الأمر الذي سيساعد في منع ابتزاز أي شخص، رجلا كان أو امرأة، مدنيا أو عسكريا، وحتى المؤسسات الموجودة في المدينة، أمنية كانت أم عسكرية أم مدنية، ستحسب كل حساب قبل القيام بأي انتهاك.
لم أطرح هذه الفكرة على أحد سوى صديقي المحامي، وكنا متفقين أن الخطوة مستحيلة في أيامنا تلك بسبب ظروف المدينة الداخلية تحديدا. فوجود مثل هذا المكتب سيخدم كثيرا من أبناء المدينة، إلا أنه بلا شك سيكون هناك متضررون، أؤلئك الذي سيستخدمون كل حجة وأداة لمنع تأسيسه، حجج مثل التبعية لجهات خارجية، وتهمة العلمانية “المرعبة” الحاضرة على الدوام والشماعة الجاهزة لحرق الآخرين، وغيرها من الحجج.
حلمي الثالث، والذي كنت أفكر فيه كلما خرجت أسماء الأسد لتخاطب العالم وتُلّمع صورة نظام زوجها، وتتحدث عن التطوير والتحديث وإصرار السوريين على هزيمة المؤامرة والإرهاب. كنت أحلم لو أن في داريا تشكيلات نسائية ناشطة تنظم مؤتمراتها كل حين، وتبث خطاباتها للسوريين وللعالم، خطابات تتحدث فيها النساء عن حقوق الإنسان وقيم المواطنة والمستقبل الذي نحلم فيه نحن السوريين في داريا، بغض النظر عن الحرب الظالمة التي نتعرض لها، وبغض النظر عن خذلان القريب والبعيد. عن سوريا الجميلة التي سيعيش فيها السوريون بمختلف طوائفهم وقومياتهم متمتعين بنفس الحقوق والواجبات.
ولا بد هنا أن أعترف أنني كنت أحد الذين نصحوا عددا من السيدات اللواتي كان يمكن لهن أن يُنشّطوا هذا الأمر كثيرا، بعدم العودة إلى المدينة عندما كنّ يسألنني عن ذلك، خوفا على سلامتهن، ولعدم وضوح مستقبل المدينة، والحرب الطاحنة التي كنا نواجهها..
حلمي الرابع والأخير هنا، فقد بدأت مع أصدقاء رائعين بتأسيس معهد داريا المتوسط عام 2015م. تألّف المعهد حينذاك من عدة أقسام، صناعية وتقنية وإدارية. كان يهدف أساسا لملء الفراغ المتزايد عند الشباب في عمر الدراسة، الذي فقدوا فرص متابعة تعليمهم في المعاهد والجامعات. لكن أكثر ما كان يُلهمني في ذلك المشروع هو قاعة رابعة ستكون تحت اسم “المسرح الثقافي”.
اعتبرت دائما أن وجود الفن هو الذي سيطبع ثورتنا بصفتها الإنسانية العابرة للدين والمذهب والقومية أكثر من أي شيء آخر. وفي هذا المسرح سنتمكن من أن نحكي أوجاعنا وهمومنا وأشواقنا والكوميديا الخاصة بنا. في هذا المسرح كان يمكن لنا أن نبكي ونضحك بلا حدود. إلا أن الفكرة كانت ستواجه التحدي المتعلق بالوعي وإمكانية معاداتها من شرائح في المدينة، بالذات إن تم طرح مواضيع حساسة وإشكالية، وإن شاركت فيها النساء في المستقبل.
قطعنا أشواطا كبيرة في هذا المشروع، لكن قصف النظام الوحشي، ومقتل بعض الأصدقاء المشاركين في المشروع، واستهداف المكان نفسه بالصواريخ، جعل من الحلم الكبير رمادا.
ربما تظهر تلك الأحلام اليوم ساذجة أو لا ترقى لأن تكون أحلاما أساسا، بالذات لمن وُلد وعاش في مجتمعات تَعتبر ما أتحدث عنه هو ماء الحياة. لكن بالنسبة لي وأنا الذي أعيش في هذا الشرق التعيس، فقد كان تحقيقها هو المؤشر الأساسي الذي يضع ثورتنا على الطريق الصحيح الذي خرجت ابتداء من أجله، ثورة من أجل بناء نظام ديمقراطي عادل، ثورة من أجل الحرية والعدالة الاجتماعية. ثورة جميلة لشعب جميل، أرد أن يتحرر من سلطة عائلة الأسد الأب، والابن، مدمر سوريا العظيمة وطاغية القرن الواحد والعشرين.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا