لندع جانبًا من سيسكن البيت الابيض بعد 20 يناير 2021 القادم ، لأن الأمر ستحسمه في النهاية المحكمة الاميركية العليا ، وهي أعلى مؤسسة قضائية في الدولة العظمى الأولى في العالم ، ولن يستطيع ترامب أو سواه عصيان قرارها ، وأيا كان الرئيس فإن الدولة الاميركية هي الفائز ، ونموذجها الديمقراطي ، هو الأفضل مقارنة مع كل النماذج المضادة في روسيا أو الصين أو حتى أوروبا الغربية .
أما نزول “شبيحة” ترامب الى الشارع ، واستقواؤه بهم ، واستقواؤهم بالسلاح ، فهي مشاهد “عراضة فولكلورية” ، من تراث رعاة البقر (الكاو بويس) لا أكثر. والسلاح الناري في كل الولايات الاميركية (زينة الرجال) كما يقول المثل في بلادنا، يشبه حمل الخنجر في اليمن . والأرجح أن الرئيس ترامب لا يقل حرصا عن غريمه الديمقراطي بايدن على استقرار البلاد وأمنها ، ورفض العنف .
ما يجب تصويب الأنظار اليه الآن هو مسألة أخرى أكثر أهمية ، تتعلق ب( نموذج الدولة) الأميركية الكبرى في العالم ، لا بالرئيس ذاته الفائز او الخاسر . لقد كنا قبل عشرين عاما نتحدث عن ( القطب الاميركي الأوحد ) ، أما الآن فعلينا التحدث عن النموذج الاميركي الأوحد .
لنلاحظ أن جميع سكان الكوكب ، بصرف النظر عن هوياتهم القومية وجنسياتهم وعناوينهم على سطح الأرض ، تابعوا بشكل جماعي سيناريو ” الانتخابات الرئاسية ” في الولايات المتحدة على مدى أسابيع واشهر ، كما لو أنهم يتابعون انتخابات تجري في بلادهم ، لا رغبة في التسلية ، ولكن تعبيرا عن وعي وشعور عميقين متناميين بأن ما يجري على ضفاف الأطلسي الغربية ، هو حدث يعنيهم وتنعكس آثاره عليهم ، ويؤثر على جوانب عديدة من حياتهم ومصالحهم الاقتصادية والسياسية . سواء كانوا فقراء أو أثرياء .
هذه الحالة الموصوفة غير عادية بالطبع ، وغير تاريخية ، أي ليست قديمة . بل اقترن ظهورها الطارىء بظهور العولمة التقنية والفضائية في العقود الثلاثة الأخيرة ، وتطورها ، وشمولها كل سكان كوكب الأرض ، إلا أنها في الانتخابات الأخيرة كانت أكثر وضوحا من الدورات السابقة ، ولا شك أنها ستكون أقوى في الدورات القادمة ، واحدة بعد أخرى .
إن المعنى الوحيد لهذه الحالة الجديدة التي نعيشها ونعيها جميعا هو اعترافنا واعتراف العالم كله ، أفرادا ودولا وجماعات ، بأن الرئيس الأميركي لا يحكم الأميركيين فقط ، وإنما يحكم بدرجات متفاوتة كل الدول وكل الناس في العالم .
إن متابعة كل مواطني العالم الانتخابات الأميركية بهذا الشكل إنما تعكس الوعي والشعور بتحول كوكبي وتاريخي فريد ، وتؤكده . بيد أن هذه الملاحظة لا تمثل سوى سطح أو وجه الحقيقة . أما محتواها الأهم ، فهو يتمثل في تعاظم وتضخم قوة الامبراطورية الأميركية ، الى حد خارق لكل التصورات والتوقعات التي تنبأ بها المفكرون الاستراتيجيون بعد انهيار الامبراطورية السوفياتية عام 1991 ، أي قبل ثلاثين عاما فقط ، ولولا ذلك لما تابع الناس في كل مكان هذا الحدث الاميركي ، وكل حدث آخر أيضا كبير ، اقتصدي أو سياسي أو علمي .
لقد بلغت الولايات المتحدة الأميركية في الأعوام القليلة الأخيرة درجة شبه خيالية واستثنائية من القوة ، تجعلها لا تشبه أي دولة، ولا تشبهها أي دولة أخرى ، بما فيها روسيا أو الصين أو اليابان أو الهند ، أو أوروبا مجتمعة . الى حد أنها تستطيع تحطيم أي دولة أخرى في العالم ، بدون أن تضطر لاستعمال السلاح النووي أو التقليدي . وتستطيع معاقبة أي دولة ، ومعاقبة أي منظمة ، وملاحقة أي فرد مهما علا شأنه ، وفرض العقوبات المدمرة عليها أو عليه ، وفق قوانينها هي ، لا قوانين الأمم المتحدة ، ووفق معاييرها هي للجريمة أو الشر ، لا معايير القانون الدولي ، ويمكنها الزام كل دول العالم بتطبيق هذه العقوبات ، وإلا شملتها أيضا ، أو نالها جزء منها .
ما يعني أنه لا حصانة لأحد ، أو لدولة من سيف العقوبات الأميركية في هذا الزمن الأميركي الخالص ، وهو زمن أو حالة لا مثيل لها في أي عصر سابق . إننا باختصار نعيش ذروة التألق الأميركي ، تألق القوة الضاربة ، وتألق القوة الاقتصادية ، وتألق القوة العلمية . ولا يبدو في أفق القرن الواحد والعشرين حتى غروب آخر يوم منه أي منافس لهذه القوة الكونية التي لا حدود لها ، ولن ينجو أحد من أذرعها الطويلة . وهذا عكس ما كان بعض الواهمين والحالمين يتمنونه قبل أربع سنوات في نهاية ولاية ألرئيس السابق باراك أوباما .
لقد تابعنا جيوشا من هؤلاء الحالمين والواهمين الدائرين في فلك ( محور الممانعة ) بقيادة ايران في بلادنا ، يغذون أوهامهم ويبنون قصورا في الهواء بنظريات وتحليلات يصفونها بالاستراتيجية عن تضعضع القوة الأميركية وأفول تأثيرها ، مبشرين أتباعهم بقرب صعود القوى الدولية البديلة ، كالصين وروسيا البوتينية ، وايران ، وكوريا الشمالية ، لتحل محل الولايات المتحدة المنسحبة من الشرق الأوسط – حسب زعمهم – ولكي تملأ فراغ الشرق الأوسط ، وابتكروا عالما افتراضيا من صنع تخيلاتهم وتهيؤاتهم السقيمة عن نهاية أميركا في الشرق الاوسط .. والعالم !.
لم يستيقظ هؤلاء من أوهامهم وأحلامهم إلا على ضربات العملاق الأميركي وعقوباته المدمرة على كل مكونات وحلقات ومفاصل المحور المذكور .
ولقد رأينا التنين الصيني العملاق الذي راهنوا عليه يسابق كل رؤساء العالم في بداية عهد ترامب لزيارة واشنطن ولقاء الرئيس الجديد الذي بنى حملته الانتخابية عام 2016 على تهديد الصين ، وكوريا ، وشعار إعادة هيبة وقوة أميركا ، وقد بذل الرئيس الصين قصارى جهده صاغرا ، ليتحاشى غضب ترامب ، ويخفف من غضبه ، وقدم التنازلات السياسية والاقتصادية له لكي يتفادى حربا تجارية شاملة تدمر قوة بلاده الاقتصادية المتواضعة . ولمن لا يعلم كان على الصين أن تقدم لترامب رأس حليفها الكوري الشمالي كجزء صغير من الصفقة ، لذلك جاء الاتفاق الأميركي – الكوري سريعا بعد القمة الأولى الأميركية – الصينية .
وإذا كان هذا شأن الصين ، فشأن روسيا أكثر بؤسا وعجزا عن مجاراة النموذج الاميركي ، رغم التبجح البوتيني ومغامراته الحربية في سورية والمتوسط واكراينا، فالاقتصاد الروسي لا يساوي أكثر من اقتصاد ولاية أميركية متوسطة مثل كاليفونيا ، كما إن مستوى تقدمها التكنولوجي يتراجع عما كان عليه حتى بالقياس الى العصر السوفياتي ، والنموذج الروسي لا يغري سوى حكام مستبدين من عيار بشار الأسد وخامنئي .
النموذج الأميركي استعاد قوته وحضوره على مستوى العالم ، وهو قوي الى درجة لا يمكن لأي دولة أخرى أن تتحداه أو تجاريه ، فضلا عن أن تضاهيه ، وسيبقى هذا النموذج يفرش جناحيه على كوكب الارض لنهاية القرن الحالي .. على الأقل ، وقد كتب منذ سنوات أكاديمي سويدي أنه يتوقع أن يأتي وقت قريب ، ويصير لدول العالم الأخرى دور ما بانتخاب واختيار الرؤساء الاميركيين ، نظرا الى أنهم لا يحكمون أميركا فقط ، بل يحكمون العالم كله . وعليه فلا بد أن يكون لهذا العالم ، أو لبعض دوله الرئيسية كلمة في اختيار من يحكمهم !
ولكي لا يخطىء أحد نشير الى أن عنصر التفوق العالمي في النموذج الأميركي ليس القوة العسكرية ، بل هو التفوق العلمي ، والقيمي ، والديمقراطي ، ومستوى العدالة والقانون ( رغم كل ما يقال عن عيوب النموذج الاميركي وثغراته ونقاط ضعف المجتمع الاميركي المتعدد الاعراق والاجناس والقوميات ) . فليراجع الجميع حساباتهم، وليعدوا العدة للتكيف مع عالم أميركي، وزمن أميركي شاء من شاء وأبى من أبى .
المصدر: المدار نت