مها حسن روائية سورية متميزة، هذه الرواية الثالثة التي اقرأها لها، بعد مترو حلب والروايات. تنتمي للثورة السورية، تكاد تكون رواياتها شهادات توثيقية عن الثورة بكل أبعادها.
عمت صباحا أيتها الحرب، رواية تعتمد أسلوب المقاطع السردية بلغة المتكلم، على لسان شخصيات الرواية الكثيرة، ومنهم الكاتبة نفسها. تعتمد الرواية على الانتقال من شخصية الى اخرى، ومن حدث إلى آخر، متابعة الحدث المركزي في روايتها؛ انه مصير عائلة الكاتبة مها الذين كانوا يسكنون في أحد أحياء حلب منذ ما قبل الثورة بعقود حيث العائلة واستقرارها هناك وشرائهم للبيت، مركزة على سنوات الثورة السورية التي اندلعت في اوائل عام ٢٠١١م إلى عام ٢٠١٦م تقريبا. وجودهم في حلب وأوضاعهم في الثورة وغربتهم جميعا داخل سورية وخارجها، الّا الأم التي ستموت بعد تدمير بيتها بأسبوع في حلب وتدفن هناك.
تبدأ الرواية من الأم التي تتحدث عن بيتها بصفته جنتها ومركز كرامتها واحساسها بإنسانيتها، الأم التي تزوجت منذ عقود وسكنت مع زوجها في هذا البيت، أنجبت فيه سبعة اولاد، اربعة صبيان وثلاث بنات، ستكون أكبرهم مها الروائية. ستكون الام حاضرة بالسرد كثيرا، تحدثنا عن نفسها، انسانة تعيش على سجيتها، تعيش بأرحيّة الانسان الذي يتحدث كل ما يفكر به، دون حواجز أو ضوابط، تعيش بتلقائية مطلقة، مع زوجها وأولادها وجيرانها، التحدث والتفاعل مع المحيطين بها يملأ حياتها، تعتقد مها ابنتها أن ملكة الكتابة الروائية اخذتها عن موهبة القص والتحدث التي تمتلكها امها. والد مها كان من اليساريين وهكذا تأثرت به ابنته مها، وزرع في ذهنها العمق الحر المتمرد النقدي، الذي سيواكب حياتها وعملها الروائي. نشأت مها والعائلة في حي شعبي في حلب المزروعة بأعماقها وأعماق العائلة شغفا وحبا وانتماء، يظهر ذلك في الانتماء للحارة والجيرة والصحبة التي ستكون سندا للعائلة عبر عمر طويل، خاصة في ظروف الثورة. لم تكن مها وعائلتها تحس بتميزهم كأكراد بين عائلات عربية، ولا بتميز العلاقات بين الشباب والفتيات، كلهم اصدقاء وعلاقاتهم حميمية، صحيح أنهم عندما يكبرون سيأخذون انتماءات مختلفة دينية أو يسارية او علمانية، لكن هذه الانتماءات لم تكن تطغى على عمق علاقاتهم ببعضهم البعض، الكل ولدوا بالحارة وكبروا فيها، صنعت وجدانهم الذي سيبقى معهم كأخوة واصدقاء كل الوقت. يكبر الأولاد، مها ستكمل دراستها، وتهاجر باكرا الى فرنسا، وتصبح روائية معروفة، لكنها لا تنقطع عن اهلها وحارتها، خاصة وأن والدتها تضعها بصورة كل مستجد في حياتها، وقد تدفعها للتحدث مع بعض من حولها من جيرة او نازحين بظروف الثورة وتنكيل النظام بالشعب، اتصالاتها المستمرة بأمها، خاصة بعد حصول الثورة، واتصالات الاطمئنان المستمرة منها مع أمها وعائلتها. ستجعلها حاضرة في كل ما يحصل معهم وفي حلب وفي سورية عموما. اخوتها سيكبرون ويأخذون مسارات حياتهم، الكل سيتزوج ويغادر البيت ويعيش مستقلا بعيدا عن البيت التي ستبقى به الام واخوها الاصغر حسام الذي كان قد خدم العسكرية وتسرّح ما قبل الثورة. عاش حسام مع والدته الى ما قبل الثورة، التي أعادت ترتيب حياة الكل. ستبدأ الثورة في سورية في عام ٢٠١١م منطلقة من مدينة درعا، وستنتقل الى بقية المدن السورية تباعا، لكن حلب تتأخر بالالتحاق بركب الثورة. شباب حلب المنتمين للثورة عانوا من ذلك، كان منهم حسام أخو مها، كل الناس لديهم اسبابهم للثورة، انها المظلومية المعممة على الشعب السوري كله. والدة مها تقول لا اخاف الا من الله وحافظ الأسد، كانت تراه الغول والوحش ومركز الرعب داخل نفسها ونفوس السوريين، هذا يعني أن مبرر الثورة هي مظلومية عمرها عقود، واجهها الشباب السوري -جيل حسام- بتحد لا يصدق. عمل حسام وأصدقائه على خلق مظاهرات محسوبة، وتصويرها وتعميمها على وسائل الإعلام، سيتوسع العمل وتظهر تنسيقيات الثورة، وسيعمل النظام على اعتماد العنف لإنهاء المظاهرات. عبر العنف والاعتقالات، واستحضار الشبيحة والاستخبارات، وإطلاق النار وقتل المتظاهرين واعتقالهم. تطور عنف النظام بعد ذلك الى تقطيع اوصال حلب بالحواجز والاعتقالات العشوائية. عنف النظام سيؤثر في نفسيات الثوار ويدفعهم للتفكير بحماية أنفسهم، وبدأ التسلح وبدأت تظهر خلايا الجيش الحر. كان حسام محترزا من الانتقال الى العنف في مواجهة النظام، استمر على السلمية بالعمل، وعندما تعقدت الاحوال اكثر وصعبت المظاهرات انتقل للعمل الإغاثي مقدما المساعدات للنازحين من المناطق التي اعتمد بها النظام العنف المسلح القاتل. يتحدث حسام عن البدايات الثورية والبحث عن الحرية والعدالة والديمقراطية وأن البعد الديني لم يكن حاضرا في اندفاعة الثوار الاولى، لكن ما أن بدأت الثورة بتحولها للعنف المسلح، حتى بدأت الشعارات الدينية بالحضور، فأغلب المفرج عنهم من معتقلي الجماعات الاسلامية من الاخوان المسلمين او حزب التحرير الاسلامي وغيرهم كانوا وقودا للثورة ونواة لعملها المسلح، فهم ضحايا النظام بأجسادهم وأرواحهم، ستكون الأسلمة بداية لانحراف الثورة وبداية ظهور القاعدة والنصرة ومن ثم داعش في صفوف الثوار، سيكون ذلك خرابا داخليا في الثورة، ويكون ذلك مبررا للنظام أن يبطش بالثوار وبالشعب، وان تدعمه او تسكت عنه القوى الدولية، على انه ضد إرهاب داعش القادم إليهم في بلادهم. يتابع حسام اول بأول انتقال الثورة من السلمية الى المسلحة، سيبقى وفيا لقراره أن لن ينخرط في العمل المسلح، رغم أن اغلب اصدقائه صاروا في الجيش الحر وبعض اصدقائه قادة داخلهم. يتابع حسام تطور أوضاع الجيش الحر وبدايات الانحراف عن الأهداف الأساسية للثورة، سيظهر بين الثوار ما هو سيئا مثل النظام بممارساته التشبيحية والعنيفة من أوساط الجيش الحر، البعض سيصبح قائدا في حييه أو منطقته، إلاه ظالم صغير. انه مرض السلطة المغوي، سيراقب تحول البلد لمناطق منكوبة ومنهوبة. من النظام والشبيحة وبعض العصابات المتغطية بالجيش الحر. سنتابع هروب اخوة حسام واخواته بعائلاتهم، كلهم معارضون الا اخ التحق بموقف النظام، كان مواليا قاطع أهله وانتقل الى مناطق سيطرته. اغلب اخوته واخواته غادروا سورية الى تركيا وبعدها الى السويد وفنلندا، البعض استقر في تركيا. الوالدة استمرت في بيتها، كل الوقت، كانت تذهب الى لقاء اولادها كما فعلت مع مها حيث التقتها في غازي عينتاب التركية، وعادت للبيت، هو في مناطق النظام لكنه في منطقة اشتباك يقصف من النظام لتتهم الثورة، ويقصف من الثورة على أنه منطقة النظام. هرب أغلب سكان الحي، وبقيت الأم متمسكة به. احساسها باتجاه بيتها، يعني أنه عزّها وكرامتها وانسانيتها، لن تغادره إلا إلى القبر، وبالفعل أصابه أحد الصواريخ ودمر وهي داخله، وتم إنقاذها بأعجوبة، لكنها لم تحتمل العيش بعد تدمير بيتها. لم تغادر الحي وتبعد عن بقايا بيتها المهدم، تموت كمدا وتدفن في الحديقة المجاورة لمنزلها. ستبقى تستحضرها مها على طول صفحات الرواية تحدثها عن كل شيء. وهو إعلان لاشعوري عن رفض مها لهذا الموت المجاني على أنه قتل عمد بعد تدمير منزلها. وبالعودة الى حسام فقد وصل الحصار والتضييق عليه في عمله الإغاثي واعتقال أغلب رفاقه الناشطين، انه أصبح تحت ملاحقة الامن وقد يعتقل في اي وقت. وبما أنه رفض العمل المسلح والالتحاق به، صار لزاما عليه أن يخرج خارج حلب ويقوم بدور ما. كان ذلك يتزامن مع اجلاء النظام للثوار واهاليهم من حلب واعادة سيطرة النظام عليها كاملة. سيحاول حسام الانتقال الى مناطق الجيش الحر، وسيجد من يساعده من اصدقائه القدامى. سيجد عقبات جديدة، والجماعات المسلحة من القاعدة والنصرة يعلنون حربهم على بعض أطراف الجيش الحر، وحربهم على جماعة حزب العمال الكردستاني، ال ب ك ك وال ب ي د، الكردية، سيتم التعامل معه على اساس انه كردي وما كتب في هويته، إنه من عفرين. لم يكن موضوع كردية حسام يتناقض يوما عنده مع كونه سوريا ويعمل مع كل السوريين لتحقيق الحرية والعدالة. يواجه الأن بكونه كردي وكافر. وكاد يقتل على يد احدى المجموعات، لولا تدخل صديق له من أبناء الحارة يعرفه على حقيقته. واستطاع الوصول بمخاطرات كثيرة الى الحدود التركية، ودفع للمهربين ليدخل الى تركيا، كان خائفا من الاعتقال أو القتل على الحدود. وصل الى تركيا، هناك عاش حياة صعبة، عبر سنة ونصف من الأعمال القاسية التي بالكاد تؤمن لقمة عيشه في غازي عينتاب وغيرها، وضمن ظروف استغلال ومهانة من أرباب العمل. وعندما سدت في وجهه السبل قرر ان ينتقل الى أوربا لعلها تكون ظروف حياته الانسانية أفضل. اتفق مع مهربين، اجتمعوا بجوار البحر بمرسين اركبهم المهربين بقارب مطاطي وتركوهم لمصيرهم. استقبلتهم الشرطة البحرية اليونانية وهم بين حياة وموت بعد ثقب قاربهم لكي لا يرجعونهم إلى تركيا. استقبلهم اليونانيون في مراكز إيواء أقرب للسجون، أخذوا كل وثائقهم الشخصية، طالبوهم بالتوقيع على وثائق لجوء إلى اليونان. رفض حسام والكثيرين أن تكون اليونان مستقرهم. الحياة فيها شبه مستحيلة. أصروا على الذهاب الى المانيا او السويد او غيرها في أوربا. طالبوا بأوراق ثبوتية من السلطات اليونانية لأجل انتقالهم لأوربا. حيث لم يكن لدى حسام وكثيرين غيره المال الكافي لدفعه للمهربين ليوصلوهم بأمان إلى تلك الدول. رضي حسام وغيره ان يوقعوا على أوراق اللجوء على أن يأخذوا بعدها جواز سفر يسمح لهم بالذهاب الى المانيا او السويد. انتظر حسام أشهرا اخرى حتى حصل على جواز السفر اليوناني، سافر نظاميا الى السويد. وهناك وضع في مجمع يطلق عليه (كمب)، حيث يُدرس وضعه ويقرر بعد ذلك قبول لجوئه او رفضه، كانوا يعطونه مال يكفي معيشة متواضعة. عانى من اجواء الكمب الذي يحوي في داخله كل أصناف البشر وليس من سورية فقط. وجد ان اجواء الحصر داخل الكمب قد اعطت فرصة للفساد والمخدرات والصراعات البينية على اساس قومي او عرقي او بسبب التشدد الديني. حاول أن يغادر الكمب ويجد فرصة عمل لكنه فشل، لأنه لم يرضى أحد من اليونانيين أن يعمل عنده وأوراقه غير نظامية. قابلته الفتاة المسؤولة عن دراسة ملفه. ووعدته خيرا، وبعد أشهر جاء الجواب برفض لجوئه للسويد وأن يرحّل إلى اليونان. أحبط حسام نفسيا، قدم اعتراض، وعادت اليه الفتاة وسألته ألم توقع في اليونان على لجوئك اليها؟ أسقط في يد حسام وجاءه الرد بتقرير ترحيله الى اليونان. تنتهي الرواية وحسام يجهز نفسه للعودة الى اليونان ليبدأ من الصفر مجددا. يرصد حسام كيف حرم هو من اللجوء بينما غيره لا يستحقون وبعضهم من ازلام النظام ومرتزقته، حصلوا عليها. تألم حسام من اللامبالاة والروتين في التعامل مع قضية المعاناة الإنسانية القاسية للسوريين، وأن الغرب ذاته كان يساعد النظام بشكل غير مباشر، عبر استهتاره بواقع اللاجئين والجحيم الذي عاشوه في سورية أو في بلاد اللجوء عندهم.
تتابع مها حياة كل شخصياتها في الرواية، أمها التي ماتت في حلب ودفنت في قبر إلى جوار بيتها المهدم. واخاها حسام الذي فرض عليه العودة من السويد الى اليونان، وأخاها الآخر الموالي للنظام الذي قرر ان يعود الى بيتهم في حلب ويحصل على تعويض هدمه من النظام ويعيد بنائه، وكأن مكافأة ان تكون مواليا للنظام أن تحصل على بعض جوائز ترضية. بعد كل ما عاشه الشعب السوري من معاناة ومآسي، واخته التي تزوجت في تركيا وقبلت بعيشة قاسية لتحمي نفسها كفتاة قد تكون ضحية ابتزاز واستغلال. رضيت بهذا الزواج على كل ما فيه من عيوب. أما أخاه الآخر فقد قدم طلبا للهجرة الى فنلندا وقُبل وذهب وبدأ حياة يراها أقرب للجنّة. كذلك أخاها الآخر الذي قبل لجوئه للسويد وبدأ حياة ناجحة هناك. كما رصدت مها مصائر بعضا من صديقاتها؛ تلك التي كانت معها من شلّة المناضلات لتحقيق حقوقهن كفتيات ايام مراهقتها في مدرستهن منذ سنوات بعيدة، وكيف انها بقيت وفية لمبادئهن المشتركة، وانتمين للثورة بما فيها مها حسن نفسها التي قررت أن توثق عبر رواياتها الواقع السوري وظروف الثورة بمصداقيتها المعهودة. هنا تنتهي الرواية.
في تحليلها نقول:
مرة أخرى نحن أمام عمل روائي مشرق متميز، فهو يشد القارئ، يجعله صديقا حميما لمها حسن، ويجعل دائرة البوح تتوسع وتثمر عمقا معرفيا وانسانيا وتنويريا، لما حصل ويحصل في سورية ليس للزمان الحاضر بل لكل زمان حيث تكون الرواية أحد اهم عوامل التوثيق عندما تموت الذاكرة الفردية والجماعية، التي سرعان ما تنسى. رسالة روايات مها حسن وغيرها عن الثورة: لكي لا ننسى.
تتميز مها حسن في هذه الرواية بالتوثيق وعدم المحاباة، والمصداقية، لا تنحني الا لضميرها. تقول ما يجب أن يقال، وتضع النقاط على الحروف. تنير كل المفاصل المظلمة لثورة تكالبت عليها وعلى الشعب السوري كل القوى الدولية، وارداتها أن تكون في الظلام. مسكونة بالظلم دون أي معين. مها حسن بقدر طاقتها الروائية سلطت الضوء لنرى حقيقة ما حصل. أعادت حالتنا السورية إلى الضوء.
تتميز الرواية بالدخول الى أعماق شخصياتها بفرادتهم، وخاصة النساء منهم. إنها رواية تنتصر للمرأة في الحياة، لقدرتها أن تصنع ذاتيتها الخاصة. لكل شخصية نسائية بصمتها الخاصة والمتميزة. كل النساء مفهومات ومبرر ومشروع ما يعملوه، وان الخطأ والصواب على نسبيّته منسوب للظروف الحياتية المحيطة. عائليا ومجتمعيا وسياسيا. واخيرا ننتظر مزيدا من ابداعات مها حسن الروائية المتميزة.