خلال اجتماعٍ مثير للجدل عُقِد في وقتٍ متأخرٍ من ليلة 11 تشرين الثاني/نوفمبر، أقرّ مجلس النواب العراقي اقتراض مبلغ 12 تريليون دينار (10 مليارات دولار) بشكلٍ طارئٍ لتغطية النفقات الحكومية الخاصة بالربع الأخير من عام 2020. وحصل التصويت على دعم 173 عضواً شيعيّاً وسنّيّاً من المجلس التشريعي المؤلَّف من 329 مقعداً، رغم مغادرة الأعضاء الأكراد البالغ عددهم حوالي 60 عضواً الجلسة، مما جعَل هذا القرار قراراً ماليّاً نادراً اتُّخِذ بدون أحد المكونات العرقية-الطائفية الرئيسية في العراق. ولم تكن هذه الخطوة مفاجئة نظراً إلى تنامي الاضطرابات بشكلٍ منتظم بين «حكومة إقليم كردستان» والكتل السياسية الأخرى، لكن يمكن القول إنه يستحيل على الأكراد تخطي التخفيضات الهائلة المطلوبة في وقتٍ قصير. ولهذا السبب، وبما أنّ القانون الجديد قد يضع التوقعات لميزانية عام 2021، فمن المهم إجراء توصيف دقيق لسبب انسحاب الأكراد من التصويت وكيف ينبغي أن يكون رد الولايات المتحدة والشركاء الآخرين.
توترات طويلة الأمد حول تقاسم الإيرادات
بعد سقوط نظام صدّام حسين، أنشأت الحكومة الاتحادية العراقية شكلاً عرفيّاً لتَقاسُم العائدات مع «حكومة إقليم كردستان»، وهي هيئة مشكّلة على المستوى دون الوطني تشمل أربعاً من المحافظات التسع عشرة في البلاد. وبموجب هذا النظام، حوّلت بغداد حصة كتلة شهرية من الإنفاق الحكومي – عادة حوالي 17٪ – إلى الأكراد بما يتماشى مع نسبة السكّان العراقيين في المناطق التابعة لـ «حكومة إقليم كردستان».
غير أنّ حصة «حكومة إقليم كردستان» استُمدَّت من مجموعة فرعية من الميزانية الاتحادية تُدعى الإنفاق “غير السيادي”، الذي لا يشمل الأمور “السيادية” مثل الدفاع ووزارة الخارجية ومجلس النواب وتكاليف إنتاج النفط وغيرها. ونتيجة لذلك، كانت النسبة الكردية البالغة 17% أشبه فعليّاً بنسبة 13% من إجمالي الإنفاق الحكومي، وتقلصت هذه النسبة عندما استفردت بغداد بتحديد المزيد من أجزاء الميزانية على أنها نفقات سيادية. بالإضافة إلى ذلك، شكا الأكراد من قيام الحكومة الاتحادية بدفع تكاليف قوات الأمن الاتحادية وإنتاج النفط كجزءٍ من النفقات السيادية، بينما لم يتم تغطية تكاليف الأمن والنفط الكردية.
كما ازداد الاستياء بشأن عائدات النفط. فمع نمو صادرات النفط الخاصة بـ «حكومة إقليم كردستان» لتبلغ ذروتها عند حوالي 550,000 برميلٍ يومياً في عام 2016، تحدّت السلطات الاتّحادية بشكل متزايد حق الإقليم في إدارة قطاع طاقة مستقل والاحتفاظ بالإيرادات، بينما استمر الإقليم في تلقي التحويلات الشهرية من بغداد. وفي السنوات الأخيرة، ضغط السياسيون على «حكومة إقليم كردستان» لتحويل بعض هذه الصادرات أو جميعها (حالياً 400,000 برميل في اليوم) إلى “شركة تسويق النفط الحكومية” (“سومو”) وتسليم إيراداتها غير النفطية المتزايدة أيضاً. (بلغ إجمالي الإيرادات الأخيرة حوالي 240 مليون دولار شهرياً في كانون الثاني/يناير، إلّا أن قيود فيروس كورونا خفضتها منذ ذلك الحين إلى حوالي 100 مليون دولار).
ولم تثق الحكومة الاتحادية بشكلٍ عام أيضاً في قوائم موظفي «حكومة إقليم كردستان»، حتى عندما كانت هذه القوائم مدعومة ببرنامج مهم للتسجيل البيومتري. ومع ذلك، لم يقم أحد بإخضاع قوائم الموظفين الخاصة ببغداد للتسجيل البيومتري.
ما هو المعروض في قانون تمويل العجز؟
بسبب مجموعة من العوامل – استقالة الحكومة السابقة في نهاية عام 2019، وتفشي وباء كورونا المستجد، وتشكيل الحكومة الجديدة الذي طال أمده واستقرارها – لم يمرر العراق أبداً ميزانية لعام 2020. وبالتالي، تعيّن على بغداد العمل من خلال تكرار بعض نواحي قانون موازنة عام 2019، والخروج بترتيبات مؤقتة على مستوى مجلس الوزراء. ومنذ تعيين رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي في أيار/مايو، حوّلت الحكومة 268 مليون دولار شهرياً إلى «حكومة إقليم كردستان» من دون الطلب من الأكراد إرسال كافة إيراداتهم إلى الحكومة الاتحادية. ومكّنت التحويلات من بغداد مسؤولي «حكومة إقليم كردستان» من الوفاء بمعظم – وإن ليس بجميع – التزاماتهم الإنفاقية الشهرية البالغة 1.08 مليار دولار، بما فيها الجزء الأساسي البالغ 710 مليون دولار واللازم لدفع الرواتب والضمان الاجتماعي. وقد يعتقد البعض أنّ هذا الترتيب يسمح للأكراد بالحصول على حصتهم وأكثر منها أيضاً، لكنّ الواقع هو أنّ «حكومة إقليم كردستان» تواجه صعوبةً حتى مع التحويلات الاتحادية.
وإذا تم تطبيق القانون الجديد لتمويل العجز كما هو، فإنه سيغيّر هذه المعادلة بشكلٍ هائلٍ. ويبدو أنّ التحويلات الشهرية البالغة 268 مليون دولار ستستمر، لكنّ القانون سيتطلب أيضاً من «حكومة إقليم كردستان» أن ترسل على الفور جميع عائداتها النفطية والجزء الجمركي من إيراداتها غير النفطية إلى بغداد. وإذا افتُرض أنّ الأكراد يبيعون 400,000 برميل يومياً من النفط شهريّاً بسعرٍ مخفّضٍ يبلغ حوالي 33 دولاراً للبرميل (مقابل 45 دولاراً للبرميل متوسطات برنت)، فإن ذلك يعني أنه عليهم التنازل عن 396 مليون دولار من عائدات النفط شهرياً، فضلاً عن حوالى ثلاثة أرباع من إيراداتهم غير النفطية. وبمعنى آخر، سينخفض دخل «حكومة إقليم كردستان» من 764 مليون دولار شهرياً (أي 268 مليون دولار من التحويلات الفيدرالية، و 396 مليون دولار من عائدات النفط، و 100 مليون دولار من الإيرادات غير النفطية) إلى 293 مليون دولار شهرياً (268 مليون دولار من التحويلات الفيدرالية بالإضافة إلى 25 ميون دولار من الدخل المتبقي غير النفطي).
وتواجه «حكومة إقليم كردستان» حاليّاً عجزاً شهريّاً قاسياً ولكن يمكن التحكم فيه بنسبة 30 ٪ (أي 764 مليون دولار من الدخل مقابل الإنفاق الإسمي البالغ 1.08 مليار دولار). لكن مع تخفيض هذا الدخل الشهري إلى 293 مليون دولار، سيتسبب القانون الجديد بزيادة عجز «حكومة إقليم كردستان» إلى رقمٍ صادمٍ يبلغ 73% ويتَرك المسؤولين الأكراد عاجزين إلى حدٍّ كبيرٍ عن الوفاء بالتزاماتهم الأكثر أهمية: أي المدفوعات الشهرية للرواتب والضمان الاجتماعي البالغة 710 مليون دولار. لذلك فإن الإصرار على التنفيذ الفوري هو بمثابة جرعة انتحارية اقتصادية لـ «حكومة إقليم كردستان».
ويقيناً، يتمتع «إقليم كردستان» بنسبة أعلى من موظفي الخدمة المدنية للفرد الواحد مقارنة ببقية أنحاء البلاد (التي تُعد أعدادها الخاصة مرتفعة بالفعل)، لذلك يجب أن يخضع هذا الإقليم للإصلاحات الاقتصادية. ومع ذلك، يضمن القانون الجديد عدم تمكّن الأكراد من دفع [رواتب] موظفيهم الحكوميين للفترة المتبقية من العام، حتى عندما يضمن هذا القانون تمكّن بغداد من الاستمرار في دفع [رواتب] الموظفين غير التابعين لـ «حكومة إقليم كردستان» دون انقطاع. ولا يحقق ذلك توازناً بشكل أساسي، إذ يجبر قسماً من العراق – ومجموعة عرقية واحدة – على المعاناة من التقشف الفوري والساحق، بينما تتم حماية بقية منافع البلاد.
خيارات السياسة الأمريكية
إذا سُحِقت «حكومة إقليم كردستان» ماليّاً على المدى القريب، فقد تصبح أكثر عرضة للضغط من قبل الكتل السياسية الموالية لإيران بشأن مجموعة كبيرة من القضايا الحاسمة للمصالح الأمريكية، بما فيها اختيار رئيس الوزراء المقبل والوجود الأمريكي المستقبلي في العراق. وبالفعل، قد ينهار هذا المعسكر المعتدل في البلاد – الكاظمي والأكراد وبعض الكتل العربية – بشأن هذه المسألة المتعلقة بتمويل العجز قبل أشهر فقط من الحملة الانتخابية القادمة عام 2021. فقبل عقدٍ من الزمن، نصحت طهران رئيس الوزراء آنذاك نوري المالكي بالاستئثار على ولاية ثانية من خلال ركوب موجة الطائفية قبل انتخابات عام 2010، واليوم تتْبع الكتلة الموالية لإيران نفس قواعد اللعبة مما يؤجج الكراهية العرقية لتقسيم معارضيها.
لذلك حان الوقت الآن لكي تساعد واشنطن حلفاءها من خلال حثّ بغداد على تعديل مطالبها الاقتصادية المتسرعة من «حكومة إقليم كردستان». وليس من قبيل الصدفة أن الوكيل الأساسي لإيران في العراق – «كتائب حزب الله» التي صنفتها الولايات المتحدة على قائمة الإرهاب – قد دعم بقوّة الأحكام المتعلقة بـ «حكومة إقليم كردستان» في قانون تمويل العجز عبر محطته التلفزيونية “الاتّجاه”. يجب أن يُنظر إلى مثل هذه الهجمات الإعلامية على خلفية الهجمات الفعلية لهذه الجماعة ضد الأكراد، بما فيها إطلاق الصواريخ على عاصمة «حكومة إقليم كردستان» في 30 أيلول/سبتمبر، وإحراق المكاتب السياسية الكردية في بغداد في 17 تشرين الأول/أكتوبر. وجاء كلٌّ من هذين الهجومَين ردّاً على تصريحات كردية داعمة للولايات المتحدة وحكومة الكاظمي وسط تهديدات مستمرة من قبل الميليشيات المدعومة من إيران. وإذا لم تنجح واشنطن في المساعدة الآن، ربما سيتم تذكُّر هذه اللحظة على أنها النسخة الاقتصادية لأزمة كركوك من تشرين الأول/أكتوبر 2016، حين شعر الأكراد بالخيانة من قبل شركاء خارجيين لم يتحرّكوا بالسرعة الكافية لمنع العقاب المفرط من قبل الفصائل المدعومة من إيران في بغداد.
ولتجنّب هذه النتيجة، على المسؤولين الأمريكيين إعادة التأكيد بشكل واضح على الحاجة الملحة لقيام «حكومة إقليم كردستان» بإجراء إصلاحات، مع إخبار السلطات الاتحادية في الوقت نفسه بأن الأكراد بحاجة إلى المزيد من الوقت لتحقيق هذه التغييرات. يجب أن تكون الإصلاحات المطلوبة جزءاً من موازنة عام 2021، وليس قانون تمويل في الحالات الطارئة أمده ثلاثة أشهر. وتتنوع الوسائل المتاحة لبغداد لتخفيف الضغوط المالية على المستوى الاتحادي (على سبيل المثال، الاعتماد على الاحتياطيات السيادية؛ الاقتراض الخارجي)، إلا أنّ الأكراد لا يملكون أيّاً من هذه الخيارات تحت تصرفهم. ولا يزال يتعين على واشنطن الضغط على «حكومة إقليم كردستان» لكي تصبح أكثر جدّيّة بشأن تنفيذ التدابير التقشفية خلال العام المقبل، بدءً من تقليص نطاق جدول الرواتب ونظام الضمان الاجتماعي بنسبة مئوية ملحوظة، ووصولاً إلى البدء بعملية نقل جزء من تسويق النفط إلى بغداد. لكن الأكراد لا يمكنهم اتخاذ هذه الإجراءات ما لم توفِّر لهم الميزانية الاتحادية مبلغاً معقولاً يضمن أن تكون قيمة الدخل الصافي الإجمالي لـ «حكومة إقليم كردستان» ما لا يقل عن 800 مليون دولار شهرياً. وستؤدي إعادة احتساب “النفقات السيادية” الخاصة ببغداد بشكلٍ أكثر عدلاً إلى جعل الأكراد أقرب إلى هذا المبلغ دون زيادة حصتهم من الإنفاق الاتحادي.
وكخطوة أولى، يجب على واشنطن أن تضغط فوراً على مختلف الفصائل في بغداد لتأجيل الالتزامات المتعلقة بـ «حكومة إقليم كردستان» في قانون تمويل العجز، والنظر بعناية في الكيفية التي يمكن أن تؤدي بها هذه القيود إلى تقويض ميزانية عام 2021. يجب ممارسة هذا الضغط على الصعيدَين العام والخاص، وبالتنسيق مع جهود “صندوق النقد الدولي” و “البنك الدولي” و”الأمم المتحدة” و”الاتحاد الأوروبي”. ويمكن لمثل هذا الاتفاق الدولي أن يعزز حوار الحكومة العراقية مع «حكومة إقليم كردستان»، ويساعد الطرفين على تطوير عملية تتسم بطابع تدريجي أكبر – وبالتالي بقابلية أكبر للتحقيق – لإعادة تشكيل علاقتهما الاقتصادية على مدى سنوات متعددة.
أخيراً، لضمان الوحدة الداخلية بين الأكراد بشأن هذه القضية، يجب على الولايات المتحدة وشركائها حث قيادة عائلة بارزاني في «حكومة إقليم كردستان» على زيادة اللامركزية في صنع القرار الحكومي. إن ذلك يمكن أن يعيد الجهة الفاعلة الرئيسية الأخرى في المنطقة – «الاتحاد الوطني الكردستاني» – إلى التوافق مع الموقف الكردي الأوسع في المفاوضات مع بغداد.
مايكل نايتس هو “زميل برنشتاين” في معهد واشنطن، وهو يقوم كل عام بإجراء بحوث مكثفة في العراق وفي منطقة «حكومة إقليم كردستان» منذ 2003.
المصدر: معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى