هوس الاستقلال

فارس ساسين

كان التعاطف مع الحركة الاحتجاجية في لبنان هو ردّة الفعل في زحلة، لكن ضمن سياق محافظ. ينظر العديد من اللبنانيّين إلى زحلة بالكثير من الإعجاب وبشيءٍ من الغيرة. فهي، إضافةً إلى مزاياها المعروفة، مدينة الشعر وموئل الحرية وواحة النُزهات والمقاهي والملاهي. هي مدينةٌ تتمتّع بنعم غير اعتيادية (بالنسبة إلى لبنان) ككهرباء دائمة ومياهٍ وفيرة وخدمات تنظيف منخفضة الكلفة نسبيّاً تتولاها البلدية. لكن أهالي زحلة مستاؤون من الأوضاع العامة الاقتصادية والسياسية، لذلك تعاطفوا بغالبيتهم مع انتفاضة 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019 ضد الفساد والهدر والعجز. وأمِلوا، كالعديد غيرهم، بسقوط الطبقة الحاكمة وقيام حكومة قادرة على التغيير، وتوفير التمثيل السياسيّ الحقيقي.

نزل الزحليّون بزخم في الأيام الأولى للانتفاضة، فتظاهر تلامذة المدارس، وتجمع المحامون أمام قصر العدل، ودعا الأطباء إلى مسيرة من مستشفى قريب إلى بناية المنارة. سلك المحتجّون الشارع الرئيس مُنادين بشعارات الثورة وهاتفين بها، وتوسَّعوا في حراكهم وصولاً إلى مستديرة المدينة الخارجية (على الطريق السريع شتورة- بعلبك) حيث وافاهم أهالي بلدات شمال القضاء وجنوبه، أي مواطنون من مختلف الانتماءات السياسيّة والمذهبيّة. نصب بعض الناشطين خيماً وأكشاكاً حول الساحة، لكن عندما أعرب حزب الله وحلفاؤه عن استيائهم من قطع طريق بيروت – بعلبك، وُوجِه المتظاهرون بوحشيَّة من القوى الأمنية واقتُلعت الخيام وهُدمت الأكشاك. أرخى حزب الله بظلاله على الأحداث ولقيَتْ بعض تصريحاته الاستفزازية ردوداً لا تقل عنها عنفًا، لذا بقي التحفظُ سيدَ الموقف.

تردّد الكثير من الشباب الزحلي إلى بيروت للمشاركة في أيامها الاحتجاجيّة المفصليّة، ولعبوا دوراً أساسياً في الفعاليات، فساروا في ساحة الشهداء وعلى جسر الرينغ، وأمام المجلس النيابي. أما مواقع التواصل الاجتماعيّ فكان الكثير من الزحليّين مجلّين فيها، وجادلوا أحياناً سكان مدينتهم من أنصار الرئيس ميشال عون (الذين تظاهروا بدورهم) بسخرية لاذعة، وأطلوا على شباب لبنان بأسره، وبنوا صداقات جديدة من مختلف المشارب السياسية.

لم يكن جديداً على الزحليين اعتماد الرموز الوطنية اللبنانية والمجاهرة بها، وتمجيد العلم اللبناني، وإنشاد النشيد الوطني، كما يفعل المتظاهرون في باقي المناطق. كما يحتفلون بعيد الاستقلال ويعتبرونه محطة سنوية تضاهي الأعياد الدينية المسيحية. لكن حذر معظمهم من الأحزاب السياسية، العقائدية منها وغير العقائدية، جعلهم متلكئين عن المشاركة الفاعلة في الانتفاضة.

وطغى الطابع الشبابيّ للحركة الاحتجاجية بسرعة على الطابع الشعبيّ. كما أرسل حزب القوات اللبنانية، أكثر الأحزاب انتشاراً في الأحياء على ما يقال، عناصره للمشاركة في الحراك من دون الإعلان عن ذلك ومن دون بروز أي من مسؤوليه على مسرح الأحداث، علماً بأنّ محازبيه عبّروا عن استيائهم من شعار “كلن يعني كلن” الثابت والمنتشر على نطاق واسع ضدّ النخبة السياسية. كما أنّ الثوّار طردوا في أيام الحراك الأولى مرشحةً تقليدية ومؤيّديها من إحدى المظاهرات مشهّرين بانتهازية خطوتها.

بعد الركود الاقتصادي الكبير في أعوام الحرب (1975-1990) شهدت زحلة نمواً سريعاً، فعرفت عمراناً كبيراً في أعاليها والسهل واكتظّت بالأبنية الحديثة والفيلّات الفخمة. كما توسّع فيها القطاع الصناعي، خصوصاً بعد أن ضُمَّت إداريّاً إلى بلديّتها منطقة تعنايل التي تكثر فيها المعامل والمصانع. وحقّقت إنجازات في القطاع السياحيّ، من فنادق، وصالات سينما، ومقاهٍ.

لكن الركود عاد ولازم المدينة طويلًا قبل الانتفاضة، ففقدت السيطرة الإدارية على جزء كبير من مناطق محافظة البقاع لصالح محافظة بعلبك-الهرمل المُستحدَثة. وخسر الزَّحليّون مواقعهم المُمَيَّزة في دوائر زحلة الحكومية، ثمّ إنّه بات للمحلات التجاريّة ما يماثلها، وللمصارف فروعها، في البلدات المجاورة، ناهيك عن مزاحمة أسواق بيروت القريبة وشديدة الإغراء. صحيح أنّه بقي لمدارسها ومستشفياتها سمعتها الطيّبة، إلا أنّها لم تعد الوحيدة في المنطقة ولا هي الأفضل تجهيزاً دوماً. أخيراً، لم يعد الكثير من الزحليّين يفدون إلى مدينتهم إلا بشكل مؤقَّت أو عابر، صيفاً وفي المناسبات الكبيرة. يُضاف كلّ هذا طبعاً إلى الانعكاس الهائل للتراجع الاقتصاديّ العام في لبنان على النشاط الاقتصاديّ المحليّ.

على الصعيد السياسي، شهدت المدينة أزمة قيادة عميقة الأبعاد، إذ إنّ الروم الكاثوليك، وهم أصحاب الغالبيّة والموقع الرمزيّ والتاريخيّ الأبرز في زحلة، “عاصمة الكَثْلَكة في الشرق”، فقدوا المقعدَيْن النيابيَّيْن الإثنين في دائرتها الانتخابيّة في انتخابات العام 2018، لصالح بلدات أصغر. كان الفائز بالمقعد الأوّل من بلدة رياق وينتمي إلى كتلة القوات اللبنانيّة، والفائز الثاني صناعيّ من بلدة الفرزل المجاورة.

هنا لا بدّ من التذكير بأنّه كان للزعامة الزحليّة الكاثوليكيّة، بثنائيّتها أو بفردانيّتها، أرجحيّة دائمة في منطقة البقاع الأوسط وذلك من زمن المتصرفيّة (1861-1918) إلى مرحلة الاستقلال مروراً بفترة الانتداب الفرنسي. وهذه الزعامة هي التي كانت تقود المعارك الانتخابية وتشكّل اللوائح، وهي التي كانت تؤمّن خدمات الدولة لناخبي الدائرة. وفي زمن الحرب الأهلية وإبّان الوجود السوري، تشكّل مجلس من أساقفة المدينة، وتألّف من الروم الكاثوليك، الموارنة، الروم الأرثوذكس، السِّرْيان الأرثوذكس، ولعب دوراً كبيراً على الصعيد السياسي والخدماتي، لكنه فقَدَ اليوم الكثير من دوره هذا بسبب خلاف أحد الأساقفة مع الكثير من أبناء طائفته.

أَيَّدت زحلة الانتفاضة، لكنها لم تنفتح انفتاحاً كلّياً على جيرانها على الرغم من الصعوبات الاقتصادية المشتركة، وعمق الأزمة الحياتيّة، والتقارُب المُفتَرض بين أهداف وتطلّعات سائر الفئات والأطراف. سَعَتْ إلى ذلك لكنها لم تستطع الخروج من تقوقعٍ وفوقيةٍ وأعرافٍ تقليدية لازمَتْ معظم أهاليها. هي لم تتوصَّل إلى إنتاج شعارات خاصّة بها تلائم موقعها وتطرح إجاباتٍ وحلولاً لأزماتها المستعصية. لم يبتدع شبابها تنظيمات بمستوى الأحداث الجِسام ولم تتوحَّد نخبها في أطر جديدة مبتكرة. وبالتالي لم تتولَّد من حركتها الاحتجاجية قياداتٌ جديدة لها أفكارها وطروحاتها، فظلت تستقدِم المحاورين والخطباء من الخارج. توافد للنقاش مقرَّبون من القوات اللبنانيّة وأحد مؤسّسي الكتلة الوطنية الجديدة، وهو من أصل زحليّ. حاولت نخبة خارجة على الأحزاب المسيحيّة التقليديّة القيام بمبادرات جديدة، لكنها عادت وانكفأت على الرغم من حسن نواياها وجدّية مساعيها. ولم تتمكّن الهيئات القائمة من وضع إطار عام يندمج فيه الشباب الجامعي ويتوحَّد عبره رفاقٌ آتون من آفاق سياسيّة يساريّة ومحافظة يسعون جميعاً للخروج من آفات النظام ومن هول ما أدى إليه.

شارك في تجمعات ساحة زحلة الخارجيّة أعداد كبيرة من شباب البلدات المجاورة، السنّية منها خصوصاً، حتى زَعَمَ كثرٌ أنهم شكلوا فيها الغالبية. أما “ثوّارها” فقد ظلّ حضورهم في احتجاجات البلدات القريبة ضعيفاً، كما بقيت مساهماتهم الواسعة في تظاهرات العاصمة فرديّة، فلا تقع فيها على مجموعات حضرتْ جماعاتٍ معاً بل على مثقفين ومواطنين فرادى هالهم الفساد المستشري وإفلاس الدولة والزبائنيّة والقمع، فأرادوا التعبير عن غضبهم وآمالهم والمُشاركة في الحراك الثوريّ العام.

لم تتخلَ المدينة عن أفقها السياسي المحافظ. لكنّها بقيتْ تفتخر بشعاراتها وقيمها الوطنية وزادها اقتناعاً بها انضمامُ المناطق والطوائف كافة إلى السير بهذه الشعارات والدفاع عنها. رأت في الثورة مجالاً لتخطّي الحواجز الطائفية والذهاب إلى لبنان جديد أقوى وأشدّ عافية. لكن أهلها انزعجوا من قطع الطرقات غير المدروس وغير المبرمج. استقلال لبنان هو في طليعة هواجس زحلة، تليه الهموم المعيشية والتخلص من الشِّلّة الحاكمة الفاسدة والمُستتْبَعة الخاضعة. لكن جهود أهلها لبلوغ الأهداف بقيت ما دون جذريَّة هذه الأهداف، وما دون حاجتها إلى الإبداع في مجالَيْ الفكر والتنظيم والاستراتيجِيّات المفيدة، والتضحيات الكبرى المطلوبة.

مع ذلك، تركت بصمات الانتفاضة أثرها في الزحليين، وهي لو بهتت أحياناً، لن تُمحى.

المصدر: مركز كارنيغي للشرق الأوسط

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى