
أولا: مدخل في أهمية الوثيقة
في وثيقة أصدرتها السبت 18 / 10 / 2025 جماعة الإخوان المسلمين في سوريا بعنوان “وثيقة العيش المشترك في سوريا”، عرضت الجماعة رؤيتها للوضع في سوريا راهنا ومستقبلا، وقد وضعتها تحت ستة عناوين بدأتها بتمهيد استعرض الواقع السوري وأهمية العيش المشترك، ثم انتقلت لعرض ما تراه أسسا شرعية للعيش المشترك، واستعرضت دور الدولة في ترسيخ العيش المشترك ومن ثم دور منظمات المجتمع المدني ترسيخ العيش المشترك وتوقفت عند معايير تقييم وقيم تعضد العيش المشترك، قبل أن تنتهي إلى خاتمة تذكر فيها انها توجه هذه الوثيقة إلى الشعب السوري بكافة مكوناته في هذه المرحلة المضطربة عالميا تطلعا إلى مشاركة تثمر بناء مجتمع على قاعدة من العيش المشترك، وتولد الأمن والأمان والاستقرار لمجتمعنا ولأبنائنا.
الوثيقة التي تقع في ست صفحات هي أول وثيقة شاملة تطرحها الجماعة على الحياة السياسية والاجتماعية في سوريا منذ سقوط العهد الأسدي البائد.
وهي وثيقة مهمة لسببين اثنين على الأقل:
السبب الأول: صدورها عن جماعة الاخوان المسلمين، التي تعتبر قوة رئيسية في تيار “الإسلام السياسي”، وكان لها في تاريخ سوريا السياسي الحديث مكانة وتأثيرا، وما زال، وقد لعبت الجماعة دورا مركزيا في تاريخ الصراع مع النظام الأسدي البائد وكانت مواجهات حماة 1964، ومذابح حماة 1982 من أبرز محطات المواجهات العسكرية بين الإخوان المسلمين والنظام الأسدي، وقامت الجماعة بدور مهم في التأثير على مسار المعارضة السياسية بعيد استلام الأسد الابن السلطة وراثة عن أبيه، قبل تفجر الثورة الشاملة عام 2011، وذلك من خلال مساهمتها غير المباشرة في ولادة “إعلان دمشق للتغيير الوطني الديموقراطي” في تشرين الأول / أكتوبر 2005، وانحيازها لاحقا للتحالف مع عبد الحليم خدام المنشق عن نظام بشار الأسد، وتشكيل جبهة الخلاص الوطني في يونيو / حزيران 2006، ثم عبر سنوات الثورة كلها بأدوارها السياسية في الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية ، وفي الحراك والفصائل العسكرية، وإن الكثير من مكونات التيار السياسي الإسلامي الذي بات الآن يحكم سوريا، بعد أن تمكن من إسقاط نظام الأسد تتغذى من نهر هذه الجماعة. وبالتالي فإن ما تعرضه من رأي له قيمة نابعة من قيمتها الجماعة نفسها، ومن دورها في تاريخ العمل السياسي في سوريا.
السبب الثاني: يتصل برؤية وطنية خاصة ترسخت خلال سنوات طويلة في سوريا وعلى المستوى العربي، قبل أن تهتز هذه الرؤية بدواعي الانهيارات السياسية التي واجهتها مجتمعاتنا وقواها السياسية، عقب الربيع العربي، وعقب انكشاف الآثار المدمرة للتدخل الإيراني الطائفي في سوريا، وتذهب هذه الرؤية إلى أن راهن الأمة العربية بمختلف شعوبها في حالة انكفاء وتراجع، وأن مشروعها الحضاري مهزوم، وأن فرص استعادة قدرتها ومبادرتها مرتبط بإعادة بناء “الكتلة الاجتماعية الرئيسية” لهذه الامة التي يقع على عاتقها النهوض بمشروعها الحضاري، وهي الوحيدة القادرة على ذلك، وأن أساس هذه الكتلة الرئيسية يقوم على التقاء تياري “العروبة والإسلام” في حركة عامة واحدة.
ونحن في سوريا الراهنة، في أمس الحاجة إلى بناء هذه الكتلة الاجتماعية التاريخية لتحمل عبء بناء سوريا بعدما تركها النظام الأسدي ركاما قد تشوهت معالمه الحضارية، وبنيته الاجتماعية، ووحدته الجغرافية.
ولهذه الحاجة الوطنية، ولذلك الدور والمكانة المؤثرة لجماعة الإخوان المسلمين، فإن التفاعل مع رأيها ومشروعها ضرورة وطنية لا يجوز إغفالها.
ثانيا: قراءة في بنية الوثيقة
1ـ وضعت الوثيقة تحت عنوان ” وثيقة العيش المشترك في سوريا”، ولا أظن أن العنوان موفق رغم أنه يستجيب لكثير مما يُتداول اليوم على الساحة السورية، فمفهوم العيش المشترك، ينطلق من قاعدة الاختلاف، حينما تلتقي مع ضرورات الاجتماع، هذا اللقاء يولد السعي لتثبيت كل ما يمَكٍن هذه الجماعات المختلفة من توفير أسس العيش المشترك، وهذا المنطق يستجيب لرؤية قوى في سوريا تولدت نتيجة ممارسات أسدية على مدى ستين عاما، وهي تحمل مشروعات خاصة لوجودها ومستقبلها.
لكن ليس هذا حال السوريين الذين خاضوا معركة لم تتوقف ضد نظام الأسد الأب والابن، وكانت المعركة الأخيرة الممتدة لثلاثة عشر عاما، لا شبيه لها في أي دولة أو مجتمع في العصر الحديث.
عنوان “العيش المشترك” لا يعبر عن شعار” الشعب السوري واحد” الذي كان الشعار المتصدر دائما للثورة السورية. وهذا العنوان يحمل في طياته اعترافا ضمنيا بأحد أهم أسس النظام الأسدي وهو انقسام المجتمع السوري إلى طوائف، وأعراق.
والبديل عن هذا الشعار هو الدعوة إلى بناء سوريا على قاعدة “دولة المواطنة”، ودولة المواطنة بطبيعتها دولة توفر المساواة والعدل وتكافؤ الفرص بين كل المواطنين، فلا يكون التمييز بينهم على أساس العرق، أو الدين، أو المذهب، أو العشيرة والمنطقة، وإنما على أساس “الكفاءة والحاجة”.
ولعل من المناسب هنا أن نسترجع السؤال المركزي:
لماذا ثار السوريون على النظام الأسدي؟
هل لأن الأسد الأب والابن كان علويا؟
هل لأن السوريون حكموا عليه بالكفر؟
هل لأنه رفع شعارات اجتماعية ووطنية يرفضها شعبنا؟
الجواب على هذا السؤال يتيح لنا تحديد قاعدة بناء الدولة السورية الجديدة.
بالتأكيد ليس لهذه الأسباب ثار الشعب السوري، وإنما جاءت هذه الثورة المستمرة والعظيمة لأن النظام الأسدي كان على مدى ستين عاما وبشكل تصاعدي نظاما “طائفيا مستبدا فاسدا ومن ثم إرهابيا قاتلا”.
لقد أقام ذلك النظام كل سياساته على هذه القواعد، السياسات الاقتصادية والتربوية والدينية، وسياسة الابتعاث، والجيش، والأمن، والقضاء، وتوزيع الثروات، أعطى من أراد واختار من مكونات المجتمع ما أعطاها انطلاقا من هذه النظرة، وبما يحقق له الهيمنة الكاملة على مختلف مظاهر الحياة في بلادنا، ونتج عن هذه السياسات إعادة تشكيل المجتمع على نحو مشوه، مشدود كله بالترهيب والترغيب إلى قمة الهرم الطائفي المستبد والفاسد، وحينما نفذ صبر الناس وتفجر الوضع استخدم كل المكونات التي حباها بامتيازاته لتشاركه في جرائم التصدي للحراك الشعبي، وليرتكب معها وعبرها ما ارتكب من جرائم. وكان هو ومن شاركه جرائمه ـ من مختلف المكونات ـ طائفيون فاسدون حتى العظم.
ولقد جاء الرد الشعبي على هذا النظام صافيا دقيقا وحاسما” الشعب السوري واحد”.
نحن الآن في سوريا نريد أن نقيم نظاما لا طائفيا، ولا مستبدا، ولا فاسدا، نظاما يعتمد الشرعية الشعبية، وهذا هو ” نظام المواطنة” الذي نتطلع اليه.
لو كان الأمر لي لجعلت عنوان الوثيقة ” مشروع وثيقة جامعة لإقامة دولة المواطنة”.
صحيح تحدثت الوثيقة في الفقرة الخامسة عن مبدأ المواطنة، لكنها جعلته جزءا من التعريف بسورية الديموقراطية، وهي بذلك جعلته فرعا وليس أصلا، والحق أن مفهوم ” المواطنة” أصل تقوم عليه الدول والشعوب، يحفظ وجودها، ويحقق العدل والتكافؤ والتعاضد بين أبنائها، ومن هذا المبدأ تتفرع الكثير من القيم الأخرى الضرورية لبناء المجتمع.
2ـ بشكل عابر أشارت الوثيقة في الفقرة الأولى من البند الثالث الذي يتحدث عن “دور الدولة في ترسيخ العيش المشترك ” حين تعرض إلى دور منظمات المجتمع المدني في ترسيخ العيش المشترك إلى مفهوم الهوية، هوية المجتمع السوري، معتبرة ان “عملية بناء الهوية السورية قد يكون بالدرجة الأولى من واجب الدولة”، لكن الوثيقة لم تتطرق الى مفهوم هوية المجتمع السوري، وهي وثيقة مطروحة لبناء المجتمع السوري؟ ما مفهوم الهوية الذي تريد لهذا المجتمع؟ لقد غاب عن الوثيقة تعريف هوية المجتمع السوري، وغياب التعرف بهوية المجتمع الذي نريد نقص معيب في بناء هذه الوثيقة.
هناك من المفكرين والسياسيين من يطالب بشطب مفهوم الهوية، واعتباره معيقا لبناء المجتمعات الحديثة، لكن نحن نعتبر أن تحديد هوية المجتمع يمثل الخطوة الأولى في البناء الاجتماعي، وفي تحديد اتجاه التطور لهذا المجتمع، ويساهم في عمل مؤسساته.
نحن نؤمن أن الهوية ليست نتاج بحث فكري، ولا تخضع للإيديولوجيا، والرأي السياسي، وإنما هي نتاج حركة بناء تاريخي مر بها المجتمع على مدى مئات، وقد يكون آلاف السنين، نجم عنها هذا المجتمع الذي نرى.
وكل حديث غامض عن هوية مجتمع ما هو إلا الخطوة الأولى في التلاعب ببنية هذا المجتمع، تمهيدا لتخريب هذا المجتمع وتمزيقه.
والهوية تختصر وتكثف”العناصر المشتركة” التي سمحت بقيام هذا المجتمع، وبالعيش المشترك بين أبنائه، وببقائه على مدى التاريخ المنظور.
وحين نقول إن الهوية تختصر وتكثف العناصر المشتركة لمكونات هذا الشعب فإن العبارة دقيقة جدا، إذ هي تنفي التطابق بين هذه المكونات، وتنفي في الوقت نفسه التصادم بين هذه المكونات، وتثبت التنوع الذي يغني هذه الهوية ويزيد من تألقها وفاعليتها.
ونحن نرى أن الهوية السورية تقوم على عناصرها الثلاثة: “العروبة، والإسلام، والتنوع”، والحفاظ على مكونات هذه الهوية هي الوظيفة الأساسية لأجهزة الدولة، وما عداها من وظائف يمكن النظر إليها من منظور البرامج السياسية التنافسية بين القوى السياسية والاجتماعية لتوفير ما يعتقد أنه الأفضل لمستقبل هذا المجتمع.
لا يجوز الخلاف على هوية المجتمع، وأول وأهم مؤشرات الخطر الذي يتعرض اليه المجتمع أن يتم التشكيك بهويته، ولعلنا عايشنا هذا الخطر عيانا ونحن نتابع فعل الاستعمار الفرنسي للجزائر، وقد وضح مسعاه في التشكيك، بالإسلام، والعروبة والتنوع العرقي المكون للمجتمع الجزائري، وقد عمل على مدى عقود متصلة لتفكيك عرى هذه العناصر المكونة للهوية الجزائرية، وجعلها متناحرة يهدم بعضها بعضا. وما فعله الاستعمار الفرنسي في سوريا ـ إبان مرحلة الانتداب ـ في محاولة إقامة خمس كيانات سياسية على أساس مذهبي بدل سوريا الموحدة نموذج آخر للعبث في بنية المجتمع.
لقد جعلت الوثيقة من وظائف منظمات المجتمع المدني ” المساهمة في بناء الهوية السورية المشتركة”، كيف يمكن لهذه المنظمات القيام بهذه المهمة ما لم نحدد سلفا ماهية هذه الهوية؟
3ـ الدين والدولة: وهذه المسألة من أهم ما يجب أن يتحدد في طبيعة الدولة المنتظرة، ولقد خصت الوثيقة فقرة كاملة لتبيان الأسس الشرعية للعيش المشترك، وبسطت رؤيتها في نقاط عدة، لكنها رغم ذلك تجنبت تحديد العلاقة بين الدين والدولة.
نحن نتطلع إلى دولة مدنية، بمعنى دولة تأخذ السلطات فيها مشروعيتها من “إرادة الناس”، وتتصرف نيابة عنهم، ولا تأخذ مشروعيتها من رب الناس، ولا تتصرف نيابة عنه، وبالتالي فإن الناس هم من يحاسب هذه السلطات، وهذا وفق الآليات المعروفة في مفهوم الديموقراطية.
السؤال هنا يتصل بمسؤولية الدولة تجاه الاحتياجات الدينية للمجتمع، هل تُخرج نفسها من المسؤولية؟ هل تقف على الحياد؟ ما هو موقف الدولة من المسألة الدينية في هذا السياق؟
مهم جدا تحديد هذا الدور للدولة، والدولة هنا تعني “المؤسسات والبرامج والميزانيات والقوانين”؟، أين تقف الدولة في كل هذا؟
هل تعتبر الدولة نفسها ممثلة لطائفة محددة، لدين محدد، ولمذهب معين؟
يمكن الخوض طويلا في غمار الجواب على هذه التساؤلات لكن باختصار نذهب الى القول إننا من المؤمنين بأن “الدين” حاجة رئيسية في الوجود الإنساني الفردي والمجتمعي، وأن وظيفة الدولة يجب أن تكون دائما، ودون أي انقطاع ملبية لاحتياجات “المجتمع” من المسألة الدينية.
الحديث هنا ليس حياد الدولة، ولا المساواة في التعامل مع أديان ومذاهب المجتمع، وإنما الحديث عن تلبية الدولة لاحتياجات أبناء الوطن إزاء معتقداتهم وتشريعاتهم وواجباتهم والتزاماتهم الدينية، بما يعزز سلامهم واستقرارهم الداخلي الذاتي، ويعزز أيضا السلام والأمن الاجتماعي. وقد حددت الفقرة السابقة هوية المجتمع بعناصرها الثلاثة، فيكون واجب الدولة ودورها تعزيز هذه العناصر.
4ـ لا أدري لماذا وضع في الجزء الخاص ب “تحديد معايير تقييم وقيم تعضد العيش المشترك ” فقرة خاصة تقول بأن ” حرية الانتقال داخل الدولة حق مكفول لكل المواطنين”، ما مكان هذا الحق! هل هو تأكيد على المواطنة، يجب إدراك أن مفهوم المواطنة يتضمن ليس حق الانتقال داخل الدولة فقط، وإنما أيضا “حق التملك والعمل والاستثمار”، أي أن الحقوق الأربعة هذه تجسد مجتمعة المعنى الحقيقي لحقوق المواطنة، لا يمنع من ذلك اختلاف في الدين، أو المذهب، أو العرق، أو الطائفة، أو الانتماء السياسي والحزبي.
5ـ هناك توصيف غير دقيق بشأن موقف المكونات يجب ضبطه، فالقول بالعيش المشترك بحيث “لا يحجر أحد على أحد، ولا يستقوي مكون سوري بدولة خارجية على دولته للحفاظ على مصالحه”، هذا القول يستبطن معنى أن هناك مكونات سورية تستقوي بدول خارجية لتحقيق مكاسب داخلية، وهذا الاستبطان غير سوي، وهو يروج ـ ولو بدون قصد ـ لفكرة أن هذه الطائفة أو تلك تعمل على ربط نفسها بقوى خارجية، هذا غير حقيقي، من يفعل ذلك لا يمثل الطائفة، ولا يمثل الجماعة ” العرقية”، وإنما يمثل مشروعا يحاول أن يخطف الطائفة أو العرقية من سياقها الوطني، وإنه ليسعد هؤلاء الخاطفين أن نعتبرهم ممثلين لطائفتهم أو عرقيتهم.
في الختام
خمس قضايا مهمة بعضها رئيس وبعضها فرعي تعرضنا لها ونحن ننظر في هذه الوثيقة التي نصفها بالمهمة، وبعد أخذ هذه القضايا بعين الاعتبار فإن هناك الكثير مما ورد في الوثيقة يمكن اعتباره محل اتفاق، وخصوصا ما تم استعراضه تحت عنوان “معايير تقييم وقيم تعضد العيش المشترك”.
مرة أخرى أؤكد ضرورة أن تجد هذه الوثيقة اهتماما وتقديرا من القوى السياسية السورية، وأن تكون قاعدة حوار، وأن تشجع القوى الأخرى لتبني وثائق وطرح رؤى تساعد السوريين على تفعيل الحوار فيما بينهم، وتساعد السلطة القائمة على ترشيد حركتها، والخروج من أسر مفهوم الاستئثار بالمجتمع وبالسلطة الذي تحكم فيها طوال الأشهر الماضية، وتسرع في ولادة مجتمع المواطنة الحقة، مجتمع السلطة الديموقراطية، حيث يتساوى فيه المواطنون حقوقا وواجبات، على كامل الوطن السوري.
إستانبول 19 / 10 / 2025