
بعد عقود من الظلام تحت حكم أسرة أسدٍ لسوريا بالحديد والنار، بزغ فجر جديد عليها في الثامن من ديسمبر 2024 بدَّد ظلام ذلك النظام فكان حدثا تاريخيّا أنار سوريا وأعاد رسم خريطة جيوسياسية معقدة في الشرق الأوسط. ومثل أي ولادة جديدة تخرج من رحم المعاناة، جاءت سوريا الجديدة إلى العالم تحمل آمالا عريضة بمستقبل يسوده العدل والحرية والكرامة، وفي الوقت نفسه تواجه تركة ثقيلة من الدمار والانقسام ومجتمع أنهكته سنوات القمع والحرب الطويلة.
ومع تشكيل الحكومة الجديدة برئاسة السيد أحمد الشرع، انطلقت عجلة الدولة تدور من جديد وفق رؤية تهدف إلى إعادة بناء المؤسسات وتحقيق المصالحة الوطنية واستعادة مكانة سوريا في محيطها العربي والدولي لكن هذا التحول الجذري لم يرُق للجميع، ذلك أن بعض فلول النظام الساقط ومن يدور في فلكهم من صحفيين وأقلويين ما زالوا يعيشون في حالة من الإنكار والصدمة، فعقولهم التي تشبعت بعقيدة (الأسد إلى الأبد) لم تستوعب بعد أن هذه الأبدية المكذوبة قد انتهت وتحطّمت إلى الأبد من غير رجعة، وأن سوريا قد لفظت جلاديها.
لم يجد هؤلاء سلاحا يواجهون به الواقع الجديد غير سلاح الشائعات والتضليل، فتحولوا إلى أبواق للتنفير والتشكيك، في محاولة يائسة لزعزعة ثقة الناس بالحكومة الجديدة وإحداث شرخ بينها وبينهم وعرقلة مسيرة التعافي، وقد تنوعت أساليبهم في ذلك وكثرت وكانت بين العسكرية الخشنة والإعلامية الناعمة، ولعل أبرزها الحرب النفسية المبنية على أكاذيب وأوهام وأحلام اليقظة، مثل إشاعة عودة بعض رؤوس النظام الساقط وتحديد مواعيد وهمية لسقوط النظام الثوري الحالي، مدفوعين بحالة الإنكار التي يعيشونها والتي تشبه إلى حد كبير متلازمة الأطراف الشبحية التي يشعر فيها المريض بألم في طرف مبتور توهماً منه بأنه لا يزال موجودا، فهؤلاء يشعرون بألم فقدان نظامهم، ويتصرفون كأنه لا يزال موجودا أو على وشك العودة. وانطلاقا من هذه المتلازمة، أطلقوا حملة منظمة من التنبؤات الزائفة التي سرعان ما تكشف الأيام زيفها، من دون أن يتورعوا عن إطلاق حملات كاذبة جديدة لتحل محل سابقتها في سلوك يذكرنا بقول كعب بن زهير بن أبي سلمى:
كانت مواعيدُ عرقوبٍ لها مثلا وما مواعيدُها إلا الأباطيلُ
فلا يغرنَّك ما منَّتْ وما وعدتْ إنَّ الأماني والأحلام تضليلُ
بدأ مسلسل الأوهام من بعد الانتصار العظيم، فحدد هؤلاء الفلول مواعيد لانهيار الحكومة بعد شهرين، وبعد نهايتها حددوا موعدا آخر، وكلما انقضى موعد جددوا موعدا، حتى وصلنا إلى شهر أغسطس 2025 فحددوا أوله موعدا لانهيار الحكومة الانتقالية، ولما مر الشهر بسلام، وأثبتت الحكومة قدرتها على تسيير شؤون البلاد، لم يعترفوا بخطئهم، فقاموا ببساطة بتأجيل الموعد إلى أوائل سبتمبر ثم إلى منتصفه، وكذلك حال العصابات الهجرية الخارجة عن القانون في السويداء، فقد حددوا مواعيد لإعلان الاستقلال في الثاني من أغسطس ثم أجلوه إلى الخامس من أغسطس ثم أجل مرة أخرى إلى الأول من سبتمبر ثم إلى الخامس والعشرين من سبتمبر…، وكل موعد يمر يفضح ضحالة تحليلاتهم وتهافت أمانيهم، لكنهم كمن يغمض عينيه عن نور الشمس ويصر على أن الظلام لا يزال مخيما.
وصلت بهم أحلام اليقظة إلى نسج سيناريوهات هوليوودية كان آخرها وأكثرها إثارة للسخرية هو الادعاء بأن الولايات المتحدة قد نصبت فخّا للرئيس أحمد الشرع خلال زيارته لحضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، فزعموا أن السماح له بزيارة الولايات المتحدة الأميركية وإلقاء كلمة تاريخية من على منبر دولي مرموق لم يكن إلا طُعما لاعتقاله لكونه مدرجا على قوائم المطلوبين، ولكن وكما هو متوقع، تبدَّد هذا الوهم سريعا، ولم يُعتقل الرئيس بل على العكس، فقد كانت زيارته بمنزلة اعتراف دولي بالواقع السوري الجديد وأن التعامل مع حكومة تمثل تطلعات شعبها هو الطريق الصحيح للمضي وأن استقرار سوريا هو جزء لا يتجزأ من استقرار المنطقة بل ربما هو مفتاح الاستقرار، كما كانت فرصة التقى فيها بعدد كبير من زعماء العالم وعرض رؤية سوريا المستقبل وبحث سبل رفع العقوبات ودعم إعادة الإعمار، وبذلك تحولت نظرية الفخ الفلولية إلى شهادة دولية بشرعية الحكومة التي يهاجمونها.
إن المتأمل لتكتيك الأكاذيب والأماني عند الفلول يدرك أن هذا السلوك لا يعبر عن تحليل سياسي بقدر ما يعبر عن أزمة نفسية عميقة عند الفلول الذين يسعَون إلى إبقاء أنصارهم في حالة تعبئة وشحن معنوي زائف، وبث الإحباط في نفوس السوريين الذين يتوقون إلى الاستقرار من خلال بيع الوهم لمن لا يزال لديه قابلية لشرائه، متناسين أن الشعب السوري الذي قدم تضحيات جساما من أجل حريته، لم يعد يشتري بضاعتهم الكاسدة، ولم تعد تنطلي عليه أكاذيبهم المفضوحة وشعاراتهم الخداعة. كما يدرك المتأمل أنه في الوقت الذي كان فيه هؤلاء الفلول غارقين في أوهامهم، كانت الحكومة السورية -رغم ما تواجه من تحديات حقيقية كثيرة وكبيرة- تعمل على الأرض وتبني أسس دولة قوية ومستقرة، واستطاعت أن تنجز في زمن قصير إنجازات كثيرة أبرزها استتباب الأمن وإعادة تشغيل مؤسسات الدولة والحفاظ على وحدتها الوطنية وإفشال المشاريع الخبيثة التي كانت تهدف إلى تقسيم البلاد أو فرض نظام فيدرالي قائم على أسس عرقية وطائفية.
لقد أدركت القيادة الجديدة أن قوة سوريا تكمن في تنوعها ووحدة نسيجها الاجتماعي. ومن هذا المنطلق، تعاملت بحكمة مع مختلف المكونات السورية، ففي شمال شرقي البلاد، توصلت إلى اتفاق تاريخي في مارس 2025 مع (قسد) يقضي بدمج مؤسساتها المدنية والعسكرية في هيكل الدولة السورية، ومع أن هذا الاتفاق لم ينفذ حتى الآن إلا أن أهميته تكمن في توجيهه رسالة قوية بأن سوريا لن تكون إلا دولة واحدة موحدة لجميع أبنائها، فاستطاعت الحكومة بذلك سحب البساط من تحت أقدام دعاة التقسيم، وأكدت أن مشروع الدولة الوطنية الجامعة هو الخيار الوحيد الذي يضمن أمن البلاد واستقرارها، وأدركت أن الاستقرار السياسي والأمني لا يكتمل إلا بتعافٍ اقتصادي يلمس حياة المواطن اليومية، فشرعت في اتخاذ خطوات جادة ومدروسة لوقف التدهور وإرساء أسس لنمو مستدام، فأطلقت حزمة من الإصلاحات الاقتصادية بهدف مكافحة الفساد وتبسيط الإجراءات البيروقراطية وخلق بيئة جاذبة للاستثمار المحلي والأجنبي رغم التركة الكارثية التي خلفها النظام السابق من اقتصاد منهار وبنية تحتية مدمرة وعقوبات دولية خانقة، وقد بدأت هذه الجهود تؤتي ثمارها، وأبدت العديد من الشركات الإقليمية والدولية اهتماما كبيرا بالفرص الاستثمارية الواعدة في سوريا لا سيما في قطاعات إعادة الإعمار والطاقة والزراعة.
كذلك تعمل الحكومة بشكل وثيق مع المؤسسات المالية الدولية مثل البنك الدولي للحصول على الدعم الفني والمادي اللازم لخطط التعافي وبناء اقتصاد حديث ومتنوع يوفر فرص عمل للشباب ويضمن حياة كريمة لجميع السوريين. ومع أن الطريق لا يزال طويلا وشاقّا إلا أن الخطوات الأولى تبعث على التفاؤل بأن عجلة الاقتصاد السوري قد سارت في الاتجاه الصحيح في ظل استعدادات لإجراء انتخابات مجلس الشعب في الخامس من أكتوبر 2025 والتي تمثل نقطة تحول حاسمة في مسار التحول الديمقراطي الذي سيتيح الفرصة للسوريين لاختيار ممثليهم بحرية تامة بعيدا عن قوائم الجبهة الوطنية التقدمية الصورية والانتخابات التي كانت نتائجها معروفة سلفا وقبل إجرائها. ولعلّ الرسالة المهمة التي تبعثها هذه الانتخابات لفلول النظام الساقط هي أن سوريا الجديدة قد اختارت طريق الديمقراطية والمشاركة الشعبية والحرية والكرامة وأن لا عودة إلى نظام القمع والإجرام، فكفاكم أكاذيب وأوهاما وتضليلا.
ولم تقتصر جهود الحكومة على الداخل، لكنها امتدت إلى الخارج لاستعادة مكانة سوريا الطبيعية، فبعد سنوات من العزلة التي فرضها النظام الساقط بسبب جرائمه، بدأت سوريا الجديدة تعود تدريجيا إلى محيطها العربي والعالمي، وكانت المشاركة في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة تتويجا لهذه الجهود الدبلوماسية، ولم يعد مقعد سوريا شاغرا ولم تعد هي دولة مارقة، وإنما دولة فاعلة تستقطب الأضواء وتسعى إلى بناء شراكات قائمة على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة.
وفي المحصلة، يبدو المشهد السوري واضحا جليّا لمن كان له أدنى نظر، فعلى أحد جانبيه بقايا فلول وأقلويون يمثلون صدى نظام ساقط، ولا يملكون أي مشروع للمستقبل سوى الحنين إلى زمن الاستبداد، يعيشون في الماضي ويتغذون على الأوهام ويطلقون الشائعات والأكاذيب ويراهنون على فشل الدولة الجديدة.
وعلى الجانب الآخر سوريا الحقيقية حكومة وشعبا، سوريا تعمل بصمت ودأب على تضميد جراحها وتوحيد صفوفها وبناء مؤسساتها واستعادة مكانتها، وتراهن على العمل الجاد والتخطيط الواقعي والرؤى الاستراتيجية لا على الأوهام والأحلام، فتُفشل مشاريع التقسيم بالوحدة، وتواجه التضليل بالشفافية، وتحارب اليأس بالأمل المبني على الإنجاز، وكأنها تقول: إن المواعيد الساقطة التي يُمنَّي الفلول بها أنفسهم لن تعرقل مسيرة سوريا الصاعدة نحو الحرية والاستقرار.
المصدر: تلفزيون سوريا