في الحاجة إلى ثورة داخلية فلسطينية

سمير الزبن

                                                                                    

رغم أن المطالب الوطنية لم تتغيّر، وطوال تاريخها قضية تقرير مصير ودحر الاحتلال وإقامة الدولة المستقلة، حتى بعد المتغيرات الهائلة التي شهدتها المنطقة بعد عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وما تبعها من تداعيات، ما زال برنامج دحر الاحتلال والاستقلال يلبي الطموحات الفلسطينية، والمطالبة بإشرافٍ دوليٍّ على الأراضي الفلسطينية، يمكن أن يكون جواباً عن سؤال اليوم التالي لحرب الإبادة على قطاع غزّة التي تشنّها إسرائيل.

رغم كل الاحتضان الدولي لإسرائيل، والدفاع عن حقها “في الدفاع عن نفسها”، لا يبرّر “الدفاع عن النفس” جرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل في قطاع غزّة. وهو ما جعل دولاً عديدة تنفضّ عن هذا التأييد. وقد أخذت بعض هذه الدول المؤيدة، وبشدة، لإسرائيل تتجه إلى سياسة متوازنة، واليوم العديد من هذه الدول، في مقدّمها فرنسا وكندا وأستراليا والبرتغال تتطلع إلى الاعتراف بالدولة الفلسطينية.

تعطي الاعترافات بالدولة الفلسطينية القادمة، من دول مؤيدة تقليديّاً لإسرائيل، زخماً لإعادة بناء الخطاب السياسي الفلسطيني، على قاعدة حقّه المشروع مثل باقي شعوب العالم في العيش في دولة مستقلّة مسالمة. ولأن الاعترافات الدولية لا تجعل الدولة واقعاً ناجزاً، يبقى العمل على إنجازها مهمّة وطنية فلسطينية بامتياز. ولأن الواقع السياسي الفلسطيني الحالي منقسمٌ ومترهّلٌ ومشتّت، لا يستطيع التصدي لهذه المهمّة الكبرى، مع ضرورة ربط هذ المهمّة بإنجاز مهمّات فلسطينية ملحّة، وألا يتم التعامل والاحتفال بالاعترافات الدولية القادمة بوصفها بذاتها إنجازاً للاستقلال الفلسطيني، والتغطية على الواقع الفلسطيني العاجز. ولا يمكن استخدام هذه الاعترافات وإشاحة النظر عن واقع قطاع غزّة المأساوي.

ما زال برنامج دحر الاحتلال والاستقلال يلبي الطموحات الفلسطينية

وفي هذا الإطار، يحتاج البيت الفلسطيني ليس إلى إعادة ترتيب وحسب، بل وإعادة بناء أيضاً، فحالة الترهّل والعجز التي يعاني منها الإطار التمثيلي الرئيسي الفلسطيني، منظّمة التحرير الفلسطينية، حالة مخجلة، وباتت، بتكوينها الحالي، من قوى وأشخاص، عائقاً حقيقياً أمام إنجاز المهام الوطنية الفلسطينية، وعاجزة عن تقديم خطاب سياسي يلم بمتطلبات الوضع الفلسطيني. أما الشخصيات التي تشغل المواقع في هذه المؤسّسات، فجلّهم انتهى دورهم التاريخي، وانتهت أعمارهم، الولاء وحده يجعلهم في مواقعهم، وليس الكفاءة الوطنية. وبذلك، مطلوب تغيرات جراحية في بنية المنظمة تصل إلى حد الثورة على الواقع المترهل الحالي. على أن يقوم الواقع الجديد على توافق وطني بين القوى الفاعلة، والتخلص من القوى الشكلية، والاستعانة بالكفاءات الوطنية الفلسطينية المستقلة، من شخصيات وخبراء ومؤسسات بحثية ومؤسسات مجتمع مدني، ما يجعل مؤسسات منظّمة التحرير، مؤسسات تمثيلية حقيقية للفلسطينيين.

يبدو هذا الكلام حالماً في الأوضاع الفلسطينية القاسية والكارثية التي نمر بها، خاصة مع حرب الإبادة الإسرائيلية المستمرة على أهالي قطاع غزة، والتي لا يمكن بناء أي توافق وطني دون التعامل معها، والمتوافق عليها وطنيّاً، والذي يتمثل في أولياته وقف حرب الإبادة، والعمل بكل الإمكانيات للحفاظ على الفلسطينيين في القطاع، والعمل فوراً بعد وقف الحرب على جعل قطاع غزة مكاناً صالحاً للعيش بعد الجريمة الإسرائيلية بهدم أغلب المباني في القطاع وتحويله إلى مكان غير صالح للعيش، وتهجير سكانه الذي تسعى إليه بكل الوسائل لتفريغه من سكانه، لذلك يجب إفشال هذه السياسة، ويجب أن تكون على رأس جدول أعمال الجميع. ويمكن أن تكون المنطلق لبناء إجماع سياسي فلسطيني، على تجنب أن تصل الكارثة إلى منتهاها وتحقق إسرائيل أهدافها. وأن تكون مركزية غزّة في العمل السياسي الفلسطيني، وإعادة بناء السياسة الفلسطينية بمجملها، على أساس من مركزية الإنسان الفلسطيني. وبالتأكيد، ليس من السهل الوصول إلى حالة فلسطينية فاعلة، بعد كل هذه السنوات من تمترس القوى الفلسطينية في مواقعها العدائية لبعضها، وعدم الثقة بينها. ولكن الخروج من الوضع المشلول ليس مستحيلاً.

تسعى السياسة الإسرائيلية إلى الخلاص من القضية الفلسطينية من أساسها، تحت ذريعة “الدفاع عن النفس

كما تستدعي السياسة الإسرائيلية المعادية لأي حل سياسي مع الفلسطينيين، والإعلانات الإسرائيلية الرسمية، عن اجتماعات الحكومة الإسرائيلية، التي تبحث فرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية أو على أجزاء منها، ردًا على اعتراف الدول الغربية بدولة فلسطين، ويبدو أن الإدارة الأميركية لا تعارض الضم، وتعتبره شأناً إسرائيلياً، واعتبر رئيس مجلس النواب مايك جاكسون أن الضفة الغربية جزء من إسرائيل، ويسعى إلى إبدالها إلى يهوذا والسامرة.

تسعى السياسة الإسرائيلية إلى الخلاص من القضية الفلسطينية من أساسها، تحت ذريعة “الدفاع عن النفس”، وأن الفلسطينيين يشكلون تهديداً وجوديّاً على إسرائيل، ويجب التخلص منهم، أو إبقائهم تحت ضغط القوة الإسرائيلية الفجة. ويُفترض أن تدفع السياسات الإسرائيلية الإلغائية الجميع للعمل التصدي لها، والحفاظ على الوجود البشري في المواقع الفلسطينية التي تسعى إسرائيل إلى تهجيرهم منها، والحفاظ على مؤسسات منظّمة التحرير، ممثلاً للفلسطينيين، تسعى إسرائيل إلى إلغائه، وهناك السياسة الأميركية تتماشى مع هذه السياسات الإلغائية، وليس آخرها، عدم إعطاء تأشيرات دخول للوفد الفلسطيني فحسب، بل تعليق تأشيرات الدخول لكل من يحمل الجواز الفلسطيني. ويأتي هذا بعد تراجع إدارة ترامب عن الخطاب السياسي الأميركي اللفظي عن حل الدولتين.

ليس من السهل الوصول إلى حالة فلسطينية فاعلة، بعد كل هذه السنوات من تمترس القوى الفلسطينية في مواقعها العدائية لبعضها بعضاً

يستدعي ذلك كله استجابة فلسطينية سريعة وطارئة، على المستويين، السياسي والتنظيمي، وهو ما يحتاج إلى توافق يعيد ترتيب الأوضاع التنظيمية، ويترافق، مع إعادة صياغة البرنامج السياسي الفلسطيني، على أساس من حقّ تقرير المصير للفلسطينيين بنيل حريتهم واستقلالهم في دولة فلسطينية. إنّ بقاء الوضع الفلسطيني على حاله، هو وصفة للدمار الذاتي، ولتحلل الوضع الفلسطيني، وكنس القضية الفلسطينية إلى مكان مظلم، وتركها هناك تتعفن.

وحتى تستعيد هذه المؤسسات ثقة الفلسطينيين، عليها تجديد نفسها وبث الروح فيها، بتوافق وطني من الجميع، على برنامج سياسي، يقوم على شقين: الأول: قطاع غزّة، العمل على وقف الحرب، ودعم صمود أهالي غزة على أرضهم، وإفشال السياسات الإسرائيلية، والعمل على فضح جرائم الحرب والإبادة التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي. الثاني: الاستقلال الوطني، وهو ما يحتاج إلى إعادة بناء الخطاب السياسي الفلسطيني كخطاب جامع، يجب ربط هذا الهدف، مع المطالبة بسيطرة فلسطينية على قطاع غزة، يسبقها إشراف دولي، لحل مشكلة اليوم التالي التي يبحث عنها العالم. كل ذلك من أجل وضع فلسطيني يؤسس لبناء الدولة على الأرض الفلسطينية. من دون أن يهمل هذا التركيز السياسات الاستيطانية الإسرائيلية التي تلتهم الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية.

يمكن القول، حتى في أصعب الظروف، يجب أن تكون الحقوق أهدافاً قابلة للتحقيق، وليست مجرد أحلام لأصحاب هذه الحقوق، هذا ما يجب أن تكون عليه السياسات الفلسطينية في الظروف الصعبة التي نمر بها.

 

المصدر: العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى