
لطالما كانت الصحافة الإسرائيلية شريكاً للجيش الصهيوني في الجرائم والمجازر التي يرتكبها في حقّ الأطفال والنساء والمستشفيات والمدارس، فلم تكن يوماً تكتفي بتغطية الحدث، بل كانت دائماً جزءاً من صناعته، أو تبريره. ولم تكن الظاهرة وليدة المصادفة، بل نتاج أسسٍ قامت عليها كتبت لها التماهي التام مع الخطاب الأمني والعسكري للدولة، حتّى أصبح الصحافي الإسرائيلي جنديّاً آخر، يرتدي الحروف والكلمات بديلاً من الزي العسكري، ولا تقل مهمّته دمويةً عمَّن يطلق الرصاص.
ليس الحديث هنا عن حالة مؤقتة، أو مسألة عابرة، بل عن منظومة كاملة تنخرط في صياغة العنف وتبريره، لم تظهر في أي وقت بهذا الوضوح مثلما هي حالياً. ويلاحظ المتابع للإعلام الإسرائيلي أن رسالة الصحافة والفضائيات الإسرائيلية، منذ بداية الحرب الحالية، تحولت بيانات عسكرية، وتحريضاً على القتل، من دون علاقة بأخلاقيات المهنة مطلقاً. وأصبح هناك توجّه موحد: لا وجود لأبرياء في غزّة، الجميع مشبوه، وكل حي مأهول هو “بيئة إرهابية”، وكل صحافي فلسطيني هو على الأرجح “عضو في حركة حماس”، وكل مستشفى، أو بقايا مدرسة، أو آثار مسجد، أو كنيسة هي من مقرّات المقاومة في غزّة. خطاب تكرّر مئات المرّات، راح ضحيته أطفال ونساء وصحافيون، ووجد آلة إعلامية صهيونية تبرّر أعمال القتل والإبادة، بل وتطالب بها، فلم يعد خطابها مختلفاً عن بيانات المتحدث العسكري للجيش الإسرائيلي، فأصبحت شريكة كاملة في المذبحة.
لا تقتصر الظاهرة على الإعلاميين الموالين لقوى الائتلاف الحاكم في القناة 14 فحسب، بل تمتدّ لتصبح سمة عامة في الصحافة الإسرائيلية، فقد ينادي بعضهم إلى قتل أكثر من مليونين من سكان غزّة أو تجويعهم حتّى الموت، حسب قول الصحافي ياكي أدامكر “لا مانع أن يقتل أهل غزّة جوعاً، فما الذي يهمّني بشأنهم”، أو الصحافي يهودا شلزينجر الذي عمل في القناتين 14و12، ويشارك حالياً في برامج في القناة 13، والذي قال صراحة إن غزّة “ليس فيها أبرياء، لأنهم صوّتوا لحماس”، علاوة على دعمه اغتصاب الفلسطينيين المعتقلين في أحد البرامج في القناة 12 في أغسطس/ آب العام الماضي. وقد يطالب الرحماء منهم في بثٍّ مباشرٍ، مثلما فعل الصحافي في القناة 13، تسفي يحزكيلي، بقتل مئة ألف فلسطيني من سكان غزّة. أو أن يطالب بعضهم بقتل الأجداد والجدّات، مثلما تحدث الصحافي في معاريف، بن كسبيت، المعروف بتوجّهاته “الليبرالية”، في أثناء الحرب على لبنان: “ينبغي أن يكون الوضع كالتالي؛ أي مقاتل من قوة الرضوان، أو حتى جداتهم من الموجودين جنوب نهر الليطاني يجب أن يموت الآن، حتى لو كان هناك اتفاق، وحتى لو كانت البيوت مأهولة بالسكان”.
لا يتوقّف الأمر عند كتّاب الأعمدة ومقدّمي البرامج، بل يمتد أيضاً إلى رسّامي الكاريكاتير، فتروّج سردية الجيش المطلوبة؛ فالأسرى الإسرائيليون يجوّعون بينما يقرأ المقاوم الذي يحرسهم كتاب هتلر “كفاحي”، ويستمتع بالطعام، بينما يدّعي المجاعة (يديعوت أحرونوت 5/8/2025)، وقتل الصحافيين في مستشفى ناصر كان بسبب أنها نقطة انطلاق لمقاتلي “حماس” (يسرائيل هايوم 27/8/2025)، والجيش الإسرائيل ممثلاً بالدبابة التي تجر الطعام لسكان غزّة هو من يقدّم الطعام لأهل القطاع (يسرائيل هايوم 18/5/2025) في مشهد يتناقض مع القتل اليومي لمنتظري المساعدات في القطاع.
لا يتحمّل الرأي العام الإسرائيلي، المشبع بهواجس “الوجود المهدّد” و”الضحية الدائمة”، أي صوت يصف الآخر الفلسطيني بأنه إنسان
ما سبق مجرّد غيضٍ من فيض؛ لا تخطئه عين متابع للإعلام الصهيوني، مهما كانت اللغة التي كتب بها، وهو يظهر تبنّي الصحافة الإسرائيلية الرواية العسكرية، ويعكس طبيعة التحالف بين الصحافة والأمن، أو بين الكلمة والبندقية، وهو تحالف ناتج عن عمل مؤسّسي، وليس اتفاقاً عارضاً. وتوضح تقارير متعدّدة، نشرها الصحافي الإسرائيلي يوفال أبراهام، بأن تفاصيل كثيرة لهذه الظاهرة ترجع إلى وجود وحدة في الجيش الإسرائيلي يطلق عليها “خلية الشرعية”، أسّسها جهاز الاستخبارات العسكرية (أمان) بعد بداية “طوفان الأقصى” مباشرة، مهمّتها تنسيق الخطاب الإعلامي، والتعامل معه كأنه ساحة معركة، والتأكد من أن الرواية التي تُبث للجمهور، في الداخل والخارج، تبرّر العمليات العسكرية وتزيل أي شكوكٍ حول أخلاقيتها، وتُحدث إجماعاً حولها، حتى أنها كانت ترسل ملاحظاتٍ إلى الصحف والكتاب تحدّد لهم كيف يكتبون عن استهداف الصحافيين، وتقديمهم “إرهابيين” ينتمون إلى حركة حماس، أو يتعاونون معها، وهو ما تكرّر أكثر من مرّة، مثلما حدث عند اغتيال صحافي “الجزيرة”، إسماعيل الغول، ثم في الأسابيع الأخيرة عند اغتيال أنس الشريف ورفاقه.
وواقع الأمر أنه لا يمكن النظر إلى هذا الانزلاق الجماعي للصحافة الإسرائيلية نحو تبرير القتل والتماهي مع الخطاب العسكري باعتباره مجرّد خلل مهني، فهو نتيجة تراكم تاريخي وثقافي، وبيئة اجتماعية معقدة. في هذا السياق، يمكن رصد أسباب عدّة لهذه الظاهرة؛ أوّلها أن الصحافة الإسرائيلية نشأت في دولةٍ وُلدت من رحم السلاح، وصُمّمت على أن تكون “جبهة داخلية” لا سلطة رقابية، فهي ليست سلطة رابعة، حين يتعلق الأمر بقضايا الجيش وحروب يخوضها الكيان، بل تصبح درعاً رابعة، تستخدم الكلمة سلاحاً من أجل غطاء أخلاقي غير موجود. وثانيها أن أغلب الصحافيين الإسرائيليين خدموا في وحدات الجيش، سيّما الاستخبارات، وهو أمر يصبح أكثر وضوحاً عندما يتعلق بالمراسلين العسكريين في وسائل الإعلام المختلفة، أو بمراكز دراسات الأمن القومي، ويكفي دليلاً على ذلك أن نصف الباحثين في معهد دراسات الأمن القومي في جامعة تل أبيب ضباط وعسكريون سابقون في الجيش الإسرائيلي، ما يعني أن الوعي المهني والسياسي لهؤلاء الصحافيين تشكل في قاعات المعسكرات، لا قاعات التحرير. وثالثها وجود رقابة عسكرية قوية على الصحافة، تمارس أعلى درجات المنع حين يتعلق الأمر بالأمن القومي للكيان، ويصبح للجيش سلطة مباشرة على محتوى التغطية، وهو وضعٌ يدفع صحافيين كثيرين إلى تفضيل التعاون الطوعي على مواجهة الرقابة. ورابعها أن الأمر لا يقف عند السيطرة الرسمية، بل يمتدّ إلى قمع ناعم تمارسه الجماهير، إذ لا يتحمّل الرأي العام الإسرائيلي، المشبع بهواجس “الوجود المهدّد” و”الضحية الدائمة”، أي صوت يصف الآخر الفلسطيني بأنه إنسان. أما أهم هذه الأسباب فيتمثل في أنّ المكانة الرفيعة للجيش في دولة الاحتلال، واعتباره “درعاً واقياً” للدولة، يجعل أي حياد أو تعاطف مع الآخر، أو حتى أي انتقادٍ للجيش خيانة، أو “انحيازاً للعدو”.
79% من الإسرائيليين اليهود ليس لديهم أيّ مشكلة مطلقاً تجاه المجاعة والمعاناة اللتين تفرضهما إسرائيل على قطاع غزّة
وتتزامن هذه الظاهرة مع ظاهرة خطيرة أخرى تعكس صورة لمجتمع لا يقل إجراماً؛ ففي فبراير/ شباط 2024 أظهر استطلاع رأي أجراه المعهد الإسرائيلي للديمقراطية أن 68% من يهود إسرائيل يؤيدون منع أي مساعدات إنسانية عن قطاع غزّة، وفرض حصار كامل عليه. وفي مارس/ آذار الماضي نشرت صحيفة هآرتس نتائج استطلاع آخر تكشف عن تأييد 82% من اليهود في إسرائيل التهجير القسري لسكان غزّة، كما أظهر استطلاع رأي آخر أجرته الجامعة العبرية في القدس، في يونيو/ حزيران الماضي، موافقة 64% من اليهود الإسرائيليين على مقولة “ليس هناك أبرياء في غزّة”، وفي الشهر التالي (يوليو/ تموز)، أوضح استطلاع آخر أجراه المعهد الإسرائيلي للديمقراطية أن 79% من الإسرائيليين اليهود ليس لديهم أي مشكلة مطلقاً تجاه المجاعة والمعاناة اللتين تفرضهما إسرائيل على قطاع غزّة. وأمام هاتين الظاهرتين، يصبح من الصعب الإجابة عن السؤال: هل أثرت الصحافة في صياغة رأي عام داعم للقتل، ومؤيد طوال الوقت للإبادة التي يمارسها الجيش، ويُلبس المجزرة ثوب الدفاع عن النفس، أم أن الصحافة الإسرائيلية، التي تشارك الجيش كلياً، هي إفراز طبيعي لمجتمع لا يرى الفلسطيني إنساناً يستحقّ الحياة؟
وبغض النظر عن إجابة السؤال، الصحافة في دولة الاحتلال هي، في كل الأحوال، امتداد مباشر للبارود، فهي تُستدعى للتبرير وليس التقصّي، وللتحريض وليس المساءلة. فهي بهذا المعنى ظلٌّ لجيش إرهابي وشريك له في الجريمة، وإن لم تضغط على الزناد، تزيّن القتل وتصفّق للدم، وتُمارس العنف بالكلمة والخبر والعنوان، وبالرسمة، والتغريدة، وحتّى بالصمت وهي ترتدي حلة أنيقة خلف مكتب كان معداً لمهنة راقية.
المصدر: العربي الجديد


