
بعد حرب الـ12 يوماً، التي شنّتها إسرائيل على إيران، وشاركت فيها الولايات المتحدة بضرب المفاعلات النووية الايرانية بأكبر القنابل التي تملكها، ومع موافقة الطرفَين على وقف إطلاق النار، عاد الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، للحديث عن السلام في المنطقة. ولم يتأخّر مبعوثه إلى الشرق الأوسط ستيف ويتكوف في التبشير (بعد يومَين) بأنّ دولاً عربيةً جديدةً ستنضم إلى “اتفاقات أبراهام”، قائلاً إنّ “الأسابيع المقبلة قد تشهد إعلانات مهمة بخصوص دول عربية جديدة تنضمّ إلى نادي اتفاقات أبراهام”، من دون أن يذكر أسماء هذه الدول أو عددها المحتمل. وأوضح أن “هدف الرئيس (ترامب) توسيع اتفاقات أبراهام، ونحن نعمل على ذلك بالتنسيق مع وزارة الخارجية… نعتقد أنه ستكون لدينا أمور كبيرة للإعلان عنها في شأن الاتفاقات”، وأعرب عن أمله في “التطبيع مع دولٍ عديدة، ربّما لم يُفكّر الناس في أنها قد تنضمّ إلى اتفاقات أبراهام مع إسرائيل”.
أوقفت عملية طوفان الأقصى وما تلاها من حرب إسرائيلية على قطاع غزّة، مسار الاتفاقات الإبراهيمية
نعم، إنّ حلَّ المشكلات في الشرق الأوسط، يبدأ من السلام مع أبعد الدول العربية عن إسرائيل، أو حتى أبعد من ذلك، يبدأ السلام في المنطقة من السلام الإسرائيلي الإيراني، فالقضايا العالقة بين الأطراف، باستثناء الفلسطينيين، يمكن التوصّل إلى حلّ لها، ما يجعل المنطقة تعيش في سلام. وهذا يعني أن إدارة ترامب لا ترى قضية فلسطينية في المنطقة، وليست معنيةً بحلّها، ولا حتى بتكرار وعد الإدارات السابقة الكاذبة ورؤيتها إلى السلام في المنطقة، الذي يقوم على حلّ الدولتَين، التي أسرفت إدارة جو بايدن السابقة بالحديث عنه، من دون فعل أيّ شيء من أجله، بل على العكس، دعمت إسرائيل بكلّ ما يجعل حلّ الدولتَين غير ممكن. الرئيس ترامب، منذ ولايته السابقة، عمل في تحطيم الأسس التي يمكن أن يقوم عليها حلّ الدولتَين، من الموافقة على نقل السفارة الأميركية إلى القدس، مروراً بالموافقة على ضمّ إسرائيل هضبة الجولان، وصولاً إلى وقف تمويل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا). وفي تلك الولاية أيضاً، عملت إدارة ترامب لتوقيع “اتفاقات أبراهام” التطبيعيّة بين إسرائيل ودول عربية. وعندما خلفتها إدارة بادين، وكرّرت الخطاب التقليدي الأميركي برؤية حلّ الدولتَين، من دون أن تفعل شيئاً تجاه إسرائيل، وبانتظار أن تقتنع إسرائيل من تلقاء نفسها بذلك الحلّ، عملت إدارة بايدن لاستكمال الاتفاقات الإبراهيمية، من دون النجاح في ذلك.
جاءت عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر (2023)، وما تلاها من حرب إسرائيلية وحشية على قطاع غزّة، لتوقف هذا المسار، الذي كان يسير على قدم وساق. لم تضع إدارة بايدن أيَّ أسس لحلّ الدولتَين، وبقيّ موقف إدارة بايدن مجرّد كلام، كما أنها لم تضع أيّ عقبات في وجه تحطيم هذا الحلّ نهائياً، والذي بدأه ترامب في ولايته الأولى. ومن الطبيعي أن تعيد الهجمات القوية التي تعرّضت لها إيران، دفع موضوع التطبيع بين الدول العربية وإسرائيل إلى الواجهة. لذلك عندما شغل ترامب البيت الأبيض من جديد، عاد لاستكمال ما بدأه في ولايته الأولى، ولم يجد سوى الفلسطينيين المشكلة في الحرب التي تشنّها إسرائيل على الفلسطينيين في قطاع غزّة، فدعا إلى ترحيلهم إلى بلد ثانٍ وتحويل قطاع غزّة مشروعاً سياحياً، على أن يكون هذا الترحيل باتجاه واحد، وهو ما ناسب العقلية الاقتلاعية الإسرائيلية، التي بنتْ مؤسّسةً إسرائيلية رسمية لترحيل الفلسطينيين، تحت عنوان “الترحيل الطوعي”، وكأنّ تحويل حياة الغزّيين جحيماً، وتحويل القطاع مكاناً لا يصلح للعيش، يترك أمام الفلسطينيين أيّ خيار.
ويبدو أن الإسرائيليين لم يعودوا وحدهم من يريدون تجاوز القضية الفلسطينية، وبناء سلام في المنطقة بعيداً منها، فعديد من الأنظمة العربية تعمل في ذلك، ليس تلك التي انضمّتْ إلى الاتفاقات الإبراهيمية فحسب، بل التي تريد الانضمام إليها، فقد انتقلت علاقة هذه البلدان مع القضية الفلسطينية من اعتبارها قضيةً داخليةً، إلى أن ترضى هذه الدول العربية بما يرضى به الفلسطينيون، وهم تحت أشدّ أنواع الضغط والحصار، واليوم ينتقل الوضع، إلى أن هذه الدول لا شأن لها بالقضية الفلسطينية، بل معيقة لمسيرتها الوطنية، كأنّها مشكلة تقع في أميركا اللاتينية، وليس في المحيط الإقليمي، ويتحوّل الوضع عداءً للقضية الفلسطينية، وللفلسطينيين عند بعضهم، حتى في دولة لها أراضٍ تحتلّها. ذلك كلّه من أجل التكيّف مع الشروط الأميركية الإسرائيلية، التي تزداد سوءاً يوماً بعد يوم. ونحن حقيقةً لا نعرف مستوى التطبيع غير المُعلَن بين دول عربية وإسرائيل، حتى قبل انضمامها للاتفاقات الإبراهيمية. لكنّنا نعرف اليوم أن دولاً عربيةً ساهمت في اعتراض الصواريخ الإيرانية المتّجهة إلى إسرائيل، ولا نعرف المستوى الحقيقي لهذه المساهمة، لكنّها لم تكن مساهمةً سرّيةً.
يبدو أن ضمّ الضفة وترحيل الفلسطينيين هما المشروع المشترك بين إسرائيل وترامب خلال السنوات المتبقية من ولايته
وعد السلام الأميركي الذي تطلقه إدارة ترامب للمنطقة، هو سلام بلا فلسطينيين، أو بالأصحّ على حسابهم. وقد عبّر أفضل تعبير عن هذا التغييب للفلسطينيين التصريحُ الذي أدلى به السفير الأميركي في إسرائيل، المُقرّب من ترامب، مايك هاكابي لموقع بلومبيرغ (10 يونيو/ حزيران الماضي)، حين قال إن الولايات المتحدة لم تعد تُؤيد تماماً قيام دولة فلسطينية مستقلّة، مُضيفاً أنه في حال قيامها، يُمكن أن تكون في مكان آخر بالمنطقة بدلاً من الضفة الغربية. وهاكابي هو ذاته، الذي صرّح عندما كان حاكم ولاية أركنساس، قبل توليه منصبه الدبلوماسي: “لا يوجد شيء اسمه فلسطيني”، وأن الأمر لا يعدو “أداةً سياسيةً لمحاولة إجبار إسرائيل على التخلّي عن أرضها”.
يرى الشركاء في “الاتفاقات الإبراهيمية”، أنهم يستطيعون إقامة السلام في المنطقة بعيداً من الأسس المكوّنة للصراع، التي يمكن إغراقها في تفاصيل من التعاون الأمني والتجاري والاقتصادي، من دون أن يتأثّر هذا التعاون بما يجري في الأرض الفلسطينية، التي تأسّس عليها الصراع. وهذا ما أثبتته الأشهر العشرون المنصرمة من عمر حرب الإبادة التي تمارسها إسرائيل في قطاع غزّة، فلم تُبدِ أيّ من الدول المشاركة في الاتفاقات احتجاجات على السلوك الإسرائيلي، ولم تلوّح بالانسحاب من هذه الاتفاقات.
… في أثناء حملته الانتخابية الثانية، رأى ترامب أن مساحة إسرائيل تبدو صغيرةً على الخريطة، “ولطالما فكّرتُ كيف يمكن توسيعها”، والإسرائيليون يملكون جواباً واضحاً على حساب الفلسطينيين، بضم الضفّة الغربية وطردهم. ويبدو أن هذا سيكون المشروع المشترك بين إسرائيل وادارة ترامب خلال السنوات المتبقية من ولايته.
المصدر: العربي الجديد