
أطلقت جامعة هارفارد في عام 1979 مبادرةً سميّت بـ”مشروع هارفارد للتفاوض”، للبحث في أساليب التفاوض لدى الأفراد والجماعات والدول. كان المشروع بقيادة عالِمَين كبيرَين: أستاذ للقانون، متخصّص في النزاعات والمفاوضات الدولية، روجر فيشر، وأستاذ الأنثروبولوجيا، الباحث في شؤون المفاوضات، وليم يوري. وتكلّلت هذه الجهود بعد عامَين بإصدار كتابهما “الوصول إلى نعم” (Getting to YES)، قدّما فيه نهجاً مبتكراً للتفاوض، أطلقا عليه “التفاوض المبدئي”، ويقوم على توفير طريقة تفاوض تلبّي احتياجات جميع الأطراف قدر الإمكان. وعلى مدار السنين، أصبح الكتاب مرجعاً أساساً للسياسيين والدبلوماسيين ومستشاري التفاوض، واعتمدتْ كثيراً من فِكَره حكوماتٌ ومنظّماتٌ دوليةٌ وجيوشٌ وشركات. ويقال إن الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، في تعامله مع الاتفاق النووي الإيراني، تصرّف أحياناً وفق فكرة مهمّة تضمّنها الكتاب، “أفضل بديل لاتفاق تفاوضي”، خلاصتها ضرورة رصد البدائل المتاحة في حال عدم التوصّل إلى اتفاق، من أجل أن يكون التفاوض من موقع قوة، وتجنّب أيّ شروط سيئة.
ثمة أسلوب تفاوضي آخر رصده كتاب “التأثير… سيكولوجية الإقناع”، لروبرت سالديني (1984)، وكان ينطلق من فكرة نفسية مفادها الميل إلى ردّ الجميل، والمعاملة بالمثل، بمعنى أن صدور بادرة إيجابية من طرفٍ عادةً ما تقابل بردّ إيجابي من الطرف الآخر، والعكس في حال تصلّب المواقف، ما يصنع، في النهاية، ديناميكيةً تقرّب الطرفَين من اتفاق مشترك. وهي طريقة طبّقها الرئيس الأميركي رونالد ريغان في مفاوضاته مع الروس لضبط الأسلحة النووية، فعرض استعداد بلاده للتخلّي عن بعض الأسلحة إذا تخلّى الاتحاد السوفييتي عن بعضها. غير أن القارئ للفِكَر الأساسية لأساليب التفاوض السابقة، وغيرها من أساليب التفاوض، يلحظ أن الأبرز فيها جميعاً إمكانية توقّع أفعال المفاوض والتنبؤ بها.
لا يمكن اعتبار المواقف المتضاربة لترامب نتيجة تردّد، بل هي امتداد لأسلوبه القائم على إغراق المنطقة بكثير من الفوضى والخطاب الخادع
ولكنّ المتابع للنهج الذي يطبّقه الرئيس دونالد ترامب يلحظ أسلوباً يختلف جذرياً عن الأساليب التقليدية، ويمكن القول إنه أسلوب صادم للجميع، أطلق عليه علماء السياسة “استراتيجية المجنون”. ورغم براعته في توظيف هذا النهج وصعوبة التنبؤ بأفعاله ومعرفة نيّاته، ليس ترامب من ابتكر هذا الأسلوب، إذ يؤثر عن الرئيس أيزنهاور (1953 – 1961) أنه فرض على كوريا الشمالية توقيع هدنة بعد نقله رسالةً سرّيةً إلى الصينيين، بأنه سيلقي قنبلةً نوويةً على كوريا الشمالية، إذا لم يجرِ التوصل إلى هدنة، وهي استراتيجية قلّدها الرئيس ريتشارد نيكسون لاحقاً، وقادت إلى إنهاء حرب فيتنام، فنقل رسالةً إلى الفيتناميين بأنه وصل إلى مرحلة يريد فيها وقف الحرب بأيّ ثمن، حتى لو كان باستخدام السلاح النووي. والحقيقة أن أصل النظرية في الفكر الغربي يعود إلى عبارة لأحد أشهر فلاسفة الفكر السياسي في العصر الحديث، نيكولو ميكيافيلي “من الحكمة أحياناً التظاهر بالجنون”، وهي عبارة سبق إليها المثل العربي القديم “ذلّ قومٌ لا سفيه لهم”.
ويعتمد هذا النهج على أن يظهر القائد متقلّب المواقف، غامضاً، وأن يكون متطرّفاً في تصريحاته، ويستخدم التهويل والتصعيد، وإحداث المفاجآت مناورةً تفاوضيةً لإرهاب الخصوم، بل ربّما الحلفاء أيضاً، ودفعهم إلى تقديم التنازلات، أو لتحسين شروط التفاوض، وهذا كلّه يتّصل جوهرياً باستراتيجية المجنون، وهو أسلوب يتقاطع تماماً مع نظرية ترامب عن التفاوض التي شرحها كتاب “فنّ الصفقة” (The Art of the Deal)، الذي ينسب تأليفه إلى ترامب والصحافي توني شوارتز عام 1987. وهنا يمكن القول إن دونالد ترامب طبّق هذا النهج منذ ولايته الأولى، لكنّه نقله إلى مستوىً جديدٍ لم يسبقه إليه أحد، فلم يستخدمه ضدّ “أعداء الولايات المتحدة” وحدهم، بل ضدّ حلفائها أيضاً، فهدّد بالانسحاب من حلف شمال الأطلسي (ناتو)، لإجبار الدول الأعضاء على سداد التزاماتها المالية الدفاعية للحلف (2% من الناتج المحلّي الإجمالي)، فنجح في ما فشل فيه رؤساء أميركيون سابقون (بوش الابن وأوباما)، حتى استوفت ما عليها للحلف 23 دولة.
ذكرت مصادر مختلفة أن ترامب لم يكن يمانع أن ينقل عنه مبعوثوه (أو الوسطاء) أنه “مجنون”، أو “متقلّب المزاج“
يلفت الانتباه هنا ما ذكرته مصادر مختلفة أن ترامب لم يكن يمانع أن ينقل عنه مبعوثوه (أو الوسطاء) أنه “مجنون”، أو “متقلّب المزاج” ويمكن أن يفعل أيّ شيء، ويصرّح بأقوال عجيبة ليراقب سلوك الآخرين تجاهها، ثمّ ينأى بنفسه عن استفزازاته: فهل سيستولي على غرينلاند؟ أو قناة بنما؟ وهل يجعل كندا ولايةً أميركية؟… لا بدّ من السؤال عن مدى تأثير هذه الاستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط، وإلى أيّ درجة استفادت إسرائيل أو تضرّرت منها. حين نراجع أفعال ترامب وتصريحاته في ولايته الثانية، وحتى قبل أن يتولّى مهام منصبه، نجدها متقلّبةً بشكل كبير؛ فهو يهدّد يفتح أبواب الجحيم في غزّة، إن لم يجر التوصل إلى اتفاق، أو يهدّد بتهجير سكّان القطاع إلى مصر والأردن، أو بتحويل القطاع إلى “ريفييرا”، وجعل إدارته أميركية. وقد يشارك مقطعاً مصوّراً يسيء إلى نتنياهو، ثمّ يطالب بوقف محاكمته في قضايا الفساد المنظورة حالياً، وربّما وجّه ضربات ضدّ الحوثيين، ثم يفاجئ إسرائيل بوقف هجماته ضدّهم في اليمن، ولا بأس من أن يهدّد بقيام إسرائيل بضرب إيران، ثمّ يصرّح بإعطاء فرصة للدبلوماسية (إبريل/ نيسان الماضي)، وبينما يعطي مهلة أسبوعَين لإيران قبل أن يتخذ قرار توجيه ضربة عسكرية ضدّها، ينفّذ ضربة ضدّ مفاعلاتها النووية بعد يومين، ثمّ يقدّم الشكر إلى القيادة الإيرانية على موافقتها وقف الحرب…
الخلاصة، يشير هذا الفعل المتكرّر من الرئيس الأميركي إلى أننا أمام ما يمكن اعتباره نمطاً ثابتاً، بحيث لا يمكن اعتبار هذه المواقف المتضاربة نتيجة تردّد، بل هي امتداد، كما يقول الكاتب في صحيفة النيويوركر، دافيد رمنيك، لأسلوبه القائم على إغراق المنطقة بكثير من الفوضى والخطاب الخادع، وترك خصومه في حالة ترقّب وغموض، وصنع حالة من الردع النفسي والسياسي، يفرض بها فكره التي لا يمكن التنبؤ بها في النهاية. لا يبدو هذا الأسلوب محيّراً للعرب وحدهم، بل لأقرب حلفاء ترامب في إسرائيل، حتى كتب المحلل في “يديعوت أحرونوت”، إيتامار أيخنر، في مقال له إن السياسة المتقلّبة للرئيس الأميركي، وإن كانت مفيّدةً في بعض الحالات، تثير قلقاً استراتيجياً داخل الدوائر الأمنية والسياسية في إسرائيل، نتيجة صعوبة التنبّؤ بقراراته، والتغيّر السريع في مواقفه تجاه خصوم واشنطن وحلفائها في المنطقة. ويرى الكاتب في “يديعوت أحرونوت”، رون بن يشاي، أن النهج الذي يتبعه ترامب يتضمّن عيوباً ومزايا، فمن ناحية ينبع القلق الاستراتيجي في إسرائيل من المخاطرة بالتضحية بالأهداف الواضحة والتخطيط طويل الأمد من أجل مكاسب سياسية قصيرة الأجل، علاوة على الافتقار إلى أهداف واضحة المعالم وواقعية وقابلة للتحقيق. ونتيجة لذلك، ما يُقدّم من تصوّرات أو أفعال غالباً قد تفشل في خدمة الأمن القومي لإسرائيل، نتيجة الميل إلى إعطاء الأولوية للمصالح الشخصية لترامب أو نتنياهو، أو كليهما معاً. ومن ناحية أخرى، أهم مزايا هذا الأسلوب مفاجأة الخصوم، وإجبارهم على الرضوخ لشروط واشنطن وإسرائيل بالتبعية.
التحدّي الحقيقي احتمال أن تتحوّل استراتيجية المجنون عند ترامب مستقبلاً من أسلوب تفاوض إلى جنون حقيقي
وتستهدف هذه الميزة الأخيرة تليين مواقف الخصوم/ الحلفاء. فعلى سبيل المثال، وضع الطرح الترامبي بتهجير سكّان غزّة الأطراف العربية، وخصوصاً مصر والأردن، تحت ضغط كبير، وطبقاً لرئيس معهد الأمن القومي في إسرائيل، تامير هايمان، وضع طرح الفكرة البلدَين، والدول العربية، أمام خيارات كلّها سيئة، وأوجد وضعاً جديداً أصبح فيه من المنطقي (البحث عن) الموافقة على خيارات أقلّ سوءاً من أن يتهدّد أمنها القومي، بمعنى دفع العالم العربي إلى المشاركة في ترتيبات اليوم التالي بما يخدم المصالح الإسرائيلية، ودفع مسار التطبيع من دون اشتراط وجود دولة فلسطينية، وربّما الاكتفاء بأن يكون منع تهجير سكّان القطاع سبباً كافياً لإقامة علاقات دبلوماسية كاملة مع إسرائيل.
والخلاصة هنا أنه بينما ينظر اليمين الإسرائيلي إلى نهج ترامب التفاوضي فرصةً سانحة تقود إلى تشكيل شرق أوسط جديد، تكون الهيمنة فيه لإسرائيل، وبينما يرى محللون كثيرون أنه يقدّم حلولاً عملية في عالم يعجّ بالبيروقراطية والجمود، يرى أخرون أن تحويل السياسة إلى عرض دائم من التهديدات والارتجال، وإن كان مقصوداً، يعرّض استقرار العالم، والشرق الأوسط على وجه الخصوص، لمخاطر غير محسوبة، وهنا تحديداً التحدّي الحقيقي في احتمال أن تتحوّل استراتيجية المجنون/ مستقبلاً، من أسلوب تفاوض إلى جنون حقيقي.
المصدر: العربي الجديد