عبد الكريم الخطّابي وذاكرة الريف المغربي

عبد القادر الشاوي

تخبر وثيقة إسبانية من وثائق الأرشيف الموجود في المؤسّسة الوطنية فرانسيسكو فرانكو، تحت عدد 473، لسنة 1957، أن الصحافي الإسباني المعروف باسم كامْبَرا أجرى حواراً مع عبد الكريم الخطابي، في القاهرة، استنتج منه، بناء على تصريح، أن الأخير قام بعدة محاولات، غير مكتملة أو لعلها فاشلة، وقد تكون مجرّد أفكار طافت بالعقل الريفي، أو بعقل الصحافي (كامبرا) نفسه، للثورة على الأوضاع القائمة في المغرب.

يؤكّد الصحافي، بصورة بديهية تقريباً، أن أولى المحاولات تعود إلى 1954، وكان الهدف منها، فيما استخلصه من أقوال الخطابي، إثارة القبائل الريفية بقصد التمرّد الذي قد يُفهم منه تحقيق الانفصال، وبناء كيان مستقل في المنطقة الشرقية التي سبق لعبد الكريم الخطّابي نفسه، ومن كان معه، أن خاضوا فيها أقوى مواجهة حربية ضد الدولة الإسبانية، تُوِّجَت في صيف 1921 بالهزيمة المنكرة، غير المسبوقة إلا بهزيمتها في كوبا (أو مأساة 1898)، التي منيت بها عُدَّة وعتاداً. ويؤكد الصحافي (كامبرا) أن عبد الكريم الخطّابي ما كان له أن يستنهض القبائل الريفية، في تلك الفترة، إلا لأنه كان على علاقة سرّية معها من مكان وجوده في المنفى القاهري. والأهم أن العلاقة السرّية، على الأرجح مع بعض الأفراد المؤثرين في أوضاع القبائل، كانت قائمة على مشروع قديم سبق للخطّابي أن بنى عليه ثورته الريفية أيام مجده وعنفوانه، أي إعلان وبناء “الجمهورية” المحلوم بها من أيام “السيبة”، التي عمت مختلف المناطق المغربية، قبل أن يستتب الأمر للعلويين ونظامهم المخزني بمساعدة الحماية الفرنسية. ولكن الغريب في هذا التصور أن كامبرا يعتقد أن الهدف الذي توخّاه عبد الكريم الخطابي كان أبعد من ذلك، فهو كان يرمي أيضاً إلى تحرير الجزائر المستعمرة من الفرنسيين منذ أوائل القرن التاسع عشر (1830). ويضيف، إلى هذا، أنه كان يراهن على الدعم المعنوي الإسباني لبلوغ مشروعه الطموح، بعد أنْ كان يعتبر إسبانيا عدوّاً لا تُقْبَل مساعدته أيّا كان نوعها.

المحاولة الثانية التي قام بها الخطابي، حسب ادّعاء كامبرا، بعد أقل من سنة على استقلال المغرب، أي في 1957 عندما بحث عن الدعم الذي يمكن أن تقدّمه له جبهة التحرير الوطني الجزائرية التي كانت قد دوَّخت الاستعمار الفرنسي بسبب العمليات الجريئة التي كانت تقوم بها، وربما كانت قد اشتدّت فصار من المحتم أن تبحث فرنسا عن حلٍّ معين، رغم الإرهاب الشديد الذي تمارسه، للخروج الآمن من الجزائر حتى لا تفقد مصالحها الاستراتيجية في الشمال الأفريقي كلياً. ويؤكّد كامبرا بصورة يقينية أن المحاولة كانت موجهة ضد شخص الملك محمد الخامس، مع أنه لا يُبيّن الشكل الخاص الذي كان من الممكن أن تكتسيه. وعلى هذا الأساس، بعث عبد الكريم الخطابي من القاهرة أحد أبنائه، إدريس، للدخول في علاقات مع وجهاء ريفيين قصد حثهم على التمرّد. ويبدو، حسب هذا التأكيد، أن ابن الخطابي سافر إلى ألمانيا قصد شراء الأسلحة، إلا أن العملية كلها، في نهاية الأمر، فشلت من دون أن تُعْرَف الأسباب التي أدّت إلى فشلها.

محاولات ثلاث في أقل من خمس سنوات لم يكتب لها، افتراضاً، أن تحقق شيئاً مما راهنت عليه

هناك محاولة ثالثة، حسب كامبرا، تمت مباشرة بعد هذه الثانية، أي في 1958، حين بعث عبد الكريم الخطابي مرّة ثانية ابنه الآخر، عبد السلام، الذي سبق له أن كان ضابطا في الجيش المصري. ويبدو أن هذا زار المنطقة الريفية، ولكنه عاد إلى القاهرة عن طريق إسبانيا، فكان مروره بها مناسبة، مرتّبة في ما يبدو، للالتقاء بالمستشار العسكري المصري الملحق بالسفارة في مدريد. ويقول كامبرا إن الضابط المصري هذا حاول الاتصال بجيش التحرير المغربي، العامل في الجنوب المغربي، داعيا قواده إلى دعم “التمرّد الريفي”. وحسب معلومات أخرى يوردها كامبرا، فإن لقاءً قد جرى بين عبد الكريم الخطابي وبعض أعضاء جبهة التحرير الجزائرية في القاهرة في مايو/ أيار 1958، ويؤكّد هذا ما قاله كامبرا عن أن رئيس الجمهورية الجزائرية في المنفى، فرحات عبّاس، حضر هذا اللقاء بنفسه.

محاولات ثلاث في أقل من خمس سنوات لم يكتب لها، افتراضاً، أن تحقق شيئاً مما راهنت عليه. وليس من المهم تماماً أن نصدّق كامبرا في أقواله المدّعاة على عبد الكريم الخطابي، كما أننا لا نملك من المعطيات ما يؤكد ذلك أو ينفيه، غير أن من المعروف أن الخطابي، منذ أن نزل في القاهرة هارباً عام 1947، وجرى استقباله بحفاوة قومية على العهد الملكي بوصفه زعيماً ثورياً واجه القوات العسكرية المتحالفة في استعمارها للمغرب، لم يغادر القاهرة إلى أن توفي في 1963، رغم الدعوات المتكرّرة التي وُجِّهت له واسْتَجْدَت عودته. ورغم أنه التقى محمد الخامس، وهو يومئذ ملك المغرب بعد الاستقلال، في زيارته العاصمة المصرية للقاء الرئيس جمال عبد الناصر، إلا أنه لم يبد أية رغبةٍ بالنظر إلى الظروف العائلية التي كانت تمنعه… فيما ذُكر. ولا يقال هذا أيضاً إلا لأن الرمزية الخاصة التي كانت له، في علاقة بالثورة الريفية، كانت توجب، في العهد الاستقلالي، نوعا من التسوية يكون الغرض منها إخماد شرارة التمرد التي عرفتها بعض مناطق المغرب في الجنوب وفي الأطلس، وبصورة خاصة في المنطقة الريفية نفسها، خصوصاً عندما تحوّلت فيها الأحداث التي نشبت في 1958 بالذات، إلى مواجهاتٍ عنيفةٍ لم تُخْمَد إلا بالطائرات والدبّابات، وفرار من استطاع الفرار من القوّاد الريفيين الذين أشعلوا التمرّد، وما لا يحصى من الضحايا والأسرى الذين حوكموا، في ما بعد، بأحكام ثقيلة ما زالت أصداؤها الأسيفة في عقول الأجيال اللاحقة تتردّد بعد مرور قرابة سبعين سنة عليها.

ليس من المهم أن نصدّق الصحافي الإسباني كامبرا في أقواله المدّعاة على عبد الكريم الخطابي، كما أننا لا نملك من المعطيات ما يؤكد ذلك أو ينفيه

وبصرف النظر عن طبيعة تلك الأحداث، وكذا الظروف والملابسات التي أدّت إلى انفجارها بالقوة المشار إليها، التصقت الاتهامات المبطّنة، وبعضها صريح، بعبد الكريم الخطابي، ويمكن أن تُفَسَّر على وجهين، أو أكثر: للاعتبارات المرتبطة باسمه وبنضاله وبدوره في الثورة الريفية، وكذا أيضاً بوجوده في القاهرة التي كانت، في تلك الفترة، عاصمة للقومية العربية التي انتصرت على النظام الملكي، وحقّقت للمصريين (وللأمة العربية من المنظور القومي) ما كانت تتطلّع إليه من تحرّر واستقلال فعلي… إلخ. وللوجه الثاني علاقة باعتبارات أخرى، أراها مرتبطة بالتطوّرات الخاصة بالوضع الداخلي بعد الاستقلال في 1956، أي بالفترة التي تصارعت فيها قوى متعدّدة، بما في ذلك المَلَكِيّة نفسها، ذات طموحات متفاوتة، وإيديولوجيات مختلفة (تقدّمية، دينية، قبلية وعرقية…)، تتغنّى بالنضال الوطني وبدورها الخاص في مجراه وحلقاته، فيما كانت أغلبها، وبمستوياتٍ معيّنةٍ من حيث الأسلوب السياسي ووضوح الاختيار، تتطلّع إلى ما كانت تصبو إليه من أهداف (الاستقلال، التحرّر… إلخ) ومغانم. وَلِلمُلاحِظ أن يستنتج أن الاستقواء، في مجال الصراع، بأي طرف، أو شكل، أو صيغة، أو رمز، لا يعمل، في جو من “الشراهة” السياسية، إلا على إحْمَاء أشكاله “العنقودية” التي تفجّرت في تلك المرحلة، وتجليها القوي كان ماثلاً أيامئذ في أحداث الريف التي رأى فيها محللون ما يشبه “الرعب” لأنها كانت “نقطة سوداء في تاريخ المغرب المعاصر”.

على أنه لا يجب أن يَغرُب عن البال أنّ مختلف المعطيات الواردة في تقرير كامبرا ما تعلق منها بمطامح عبد الكريم الخطابي وأدواره، أو كان على علاقة بالأحداث اللاحقة التي تفجّرت في منطقته الريفية، وبالذات انطلاقا من بني ورياغل (قبيلة مغربية ريفية أمازيغية) معقله وقاعدة جمهوريته، هي من تقدير (وتحليل) السلطات الإسبانية التي كانت في تلك الأثناء، أي في 1957، في مفاوضات صعبة جارية مع المغرب بقصد الجلاء النهائي عن المنطقة الشمالية التي “حمتها” أزيد من 40 سنة. وليس من الوارد بتاتاً تصديق أي تقدير أو تكذيبه، ولا المصادقة على أي تحليلٍ أو معارضته، لأن المؤكّد، بطبيعة الحال، في غيبة جميع المعطيات التاريخية المتعلقة بالمرحلة، خصوصاً بعد أن استقر الحكم للنظام الملكي الذي استبد بجميع الوظائف الممكنة على صعيد الدولة وفي المجتمع، أن “الذاكرة الريفية” طواها النسيان، أو تعرّضت للتلف، ومنها، على وجه الخصوص، الأحداث الأليمة التي تفجرت في 1958، ما لم يعد من الممكن تناوله، أو البحث فيه وتفسير وقائعه وتأويلها، أو الخروج بخلاصات معينة حول مساراتها، من دون الوقوع في المحظور السياسي الذي يمنع تقليب المواجع والكشف عن المستور، أو النبش في الحافظة الاستقلالية “الملعونة”.

المصدر: العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى