
يجوز للملاحظ الفَطِن أن يفترض ثلاثَ فرضياتٍ تمثل انقلابات ثلاثة تمت، على صعيد البلدان المغاربية، في بحث نخبِها الواعية بواقع التخلف العام الذي يرسف فيه المجتمع، ويحدّ من تطوّر البنيات المنتجة وغير المنتجة، كما لو كان بحثها هذا أمراً مستحيلاً عن الحل الديموقراطي لإشكالية الدولة الوطنية الحديثة، التي هي أحد منجزات البناء الاستعماري المتحقق، خلال مرحلة السيطرة الأجنبية في تلك البلدان، طوال مراحل متفاوتة السنوات (ليبيا 40 سنة، تونس 44 سنة، الجزائر 132 سنة، المغرب 44 سنة، موريتانيا 56 سنة). ويمكن التقدير أن البحث عن الحل المستحيل في تلك البلدان استغرق سنوات عديدة توالت على أنظمتها بعد الاستقلال، وهي أيضاً سنوات متفاوتة (ليبيا 74 سنة، تونس 69 سنة، المغرب 69 سنة، الجزائر 63 سنة، موريتانيا 65 سنة) ولم يحدث فيها ما ينبئ عن شيءٍ من ذلك البحث المستحيل، ما يستوجب أن يُرى ذلك، على جميع المستويات البشرية والإنتاجية والإدارية والثقافية العامة، صيغةً مربكةً لما يمكن تسميته الهدر التاريخي المفزع الذي لا يمكن أن يُعَوَّض بأي شكل، لأن تجلياته كرّست حقائق، وتشكلت في أنظمة وذهنيات وبنيات وتصورات ومصالح، لم يعد من الممكن، فيما يبدو، بالنظر إلى الرسوخ الذي تتمتع به على أكثر من صعيد، اقتلاعها بالصيغ النضالية المتداولة عن الإصلاح، أو التغيير، أو الثورة، أو الانتقال… إلخ.
من المفروض أن نتكلم عن الانقلابات المشار إليها في إطار التحوّلات، لا الثبات، التي مرّت بها تلك البلدان بحسب مختلف الديناميات التي تفاعلت فيها تناقضات وصراعات، نجاحات وإخفاقات، منجزات وانهيارات، بلغت، في مراحل كثيرة، تناسباً مع الطبيعة الخاصة للمشكلات المثارة أو المختلقة، درجة عالية من الاحتداد، فانتهت إلى حروبٍ معلنة، وأخرى غير معلنة، كما انتهت، بصورة خاصة، إلى مشاحنات متبادلة كان فيها التعبير السياسي عن العداوة قوياً ولفظه شديداً لا يُخفي مظاهر التحرش والعدوانية اللذين تلبسهما. هذا بالإضافة إلى الصراعات الإقليمية الثنائية التي جعلت من السيادة، على ضوء مفهوم الحدود الموروثة عن الاستعمار القديم، أسلوباً لحل الخلافات الطارئة أو المفتعلة، أو التحالفات الظرفية التي ولدت محاور، أو دعمت استراتيجيات خططت لها قوى أجنبية ذات مطامح خاصة لا علاقة لها بالوطنيات المحلية ولا بمصالح شعوب المنطقة بشكل عام.
أنظمة وذهنيات وبنيات وتصورات ومصالح، لم يعد من الممكن اقتلاعها بالصيغ النضالية المتداولة عن الإصلاح، أو التغيير، أو الثورة، أو الانتقال
وأول انقلاب، في بعده التاريخي، تَمَّ على المستوى السياسي، بوصفه التصور الذي يحكم، في كل مرحلة أو ظرف، طبيعة التوجهات المرسومة، فينعكس، بآثاره وتفاعلاته وما قد يصاحبه من تناقضات أو اشتراطات، على هذا المستوى أو ذلك، من مستويات التطور التي تتفاعل في البلاد. ويفيد الانقلاب السياسي بهذا المعنى أن حصول مختلف البلدان المغاربية على استقلالاتها الوطنية، بقطع النظر عن الطبيعة “الشكلية” والأسلوب الناجز، أو عن المحتوى الاقتصادي التبعي والالتزامات المترتبة على الجلاء العسكري بشكل خاص، انتهجت، في سبيل التسوية (يمكن أن تفهم محاولة للتصفية أيضاً) السياسية بين القوى الوطنية وغير الوطنية التي عملت من أجل الاستقلال، سياسات مختلفة شملت أهم مناحي المجتمع والبلاد، لم يكن الهدف منها إلا ضمان الاستقرار الجديد على ضوء التعبئة الوطنية (أو المقاومة) الموجودة، أو التي كانت موجودة. وربما كان الهدف المتوخّى، بصورة خاصة وأساسية، استقرار السلطة الجديدة بكل الامتيازات المحصل عليها في المرحلة السابقة، تلك التي أدارتها الحماية الاستعمارية بفعالية الحفاظ على الأوضاع القائمة من حولها، طمعاً في الاستفادة أكثر من الاستغلال الاقتصادي الذي تحققه من مصادر الثروات الوطنية.
يمثل هذا الخط، في عمومه، محاولة الانتقال من النضال الوطني إلى بناء السلطة الفعلية والاستفراد بها تحت مظلة الدولة المتحكّمة وأجهزتها المتنفذة، بالإضافة إلى تنظيم الحياة الاجتماعية والسياسية وتأثيثها بما يتناسب مع الاختيارات الشكلية التي تقررت في غيبة أي نظام مهما كان شكله القانوني، أو الدستوري، أو الديموقراطي الانتخابي. لذلك يمكن القول إن مكوّنات هذا الخط الانتقالي هي التي كانت في أساس السلطة الاستبدادية، والتي اكتست، فيما بعد، طابعاً “ديموقراطياً” تحكمياً (الشكل البرلماني والتحكم المنهجي)، وهي التي أصبحت عماد السيطرة التامة حين أخضعت المجتمع برمته لسلطة التحكّم، والحزب الوحيد “المتعدّد”، والاستفراد بالرأي، ومصادرة مختلف الاختيارات ذات الطبيعة المستقلة والمعارضة بالطرق المناسبة، تبعاً لطبيعة المصادرة من حيث القمع، أو التحايل، أو اختلاق الأسباب والذرائع، وحجم المعارضة وخطاباتها الإيديولوجية وأساليبها المتنوعة.
الدولة الوطنية المستقلة حديثاً، لم تعمل، طوال سنوات، إلا على توسيع دوائر النشاط الاقتصادي الهادف إلى تكوين طبقات وسطى مندمجة في بنية النظام القائم
جرى الانتقال الثاني على الأصعدة الاقتصادية انطلاقا من البنية التي أوجدتها الحماية الاستعمارية، وكانت في أساس الاستغلال الذي مارسته عقوداً، انطلاقاً من ترسيخ (وتطوير) الآليات الرأسمالية التبعية المرتبطة بالمتروبول، وتغذيته بأوفر الأرباح المستخلصة من أساليبه ومجالاته. وربما كان العنصر – الأساس المهم الذي إليه استندت البنية الاقتصادية المرتبطة بالإنتاج الزراعي، والاستخراج المعدني، والمبادلات التجارية غير المتكافئة، أنها وضعت، بتخطيطٍ استراتيجيٍّ، اللبنات الأولى لنظام اقتصادي رأسمالي تبعي، أصبح في تجلياته الأساسية عماد الاقتصاد الوطني.
وحقيقة الانتقال، على ضوء هذه المعطيات، أن الدولة الوطنية المستقلة حديثاً، وريثة الحماية الاستعمارية، لم تعمل، طوال سنوات، إلا على توسيع دوائر النشاط الاقتصادي الهادف، في إطار توزيع “فائض الثروة” المُتَحَوِّل، إلى تكوين طبقات وسطى مندمجة في بنية النظام القائم، وإلى جانب ذلك، أو في سياقه، استيعاب النخب التقليدية (البورجوازية التجارية) التي استفادت بدورها من المجالات الاقتصادية المتطورة تاريخيا (النسيج والخدمات والسمسرة إلخ)، ثم أصبحت، من خلال تطوير آليات الإنتاج واستغلال أدواته، وسيطاً تجارياً في إطار العولمة الشاملة.
ويمكن الاستنتاج بسهولة أن مختلف الآليات المتعلقة والفاعلة في هذا الانتقال أدّت إلى مزيد من الاستغلال والتبعية والتحكم الضامن للاستقرار وهكذا، ولم يكن لها من نتائج فعلية مضمونة على صعيد المجتمع، وهي المظاهر الكبرى التي وَحَّدَت بين مختلف الاقتصاديات المغاربية، إلا في إعادة إنتاج معدلات الفقر، وترسيخ واقع التخلف العام (بعد إجهاض المحاولات التي سعت إلى الخروج من شبكته ومستواه)، وَاتساع الهوة القائمة، على الصعيد الطبقي، بين مَن يملك وَمَن لا يملك، واحدةً من أقوى نتائج تحويل السوق إلى ساحة “وطنية” لمختلف مضاربات الرأسمال الوطني المتحالف مع الرأسمالي الأجنبي والشركات متعددة الجنسيات، قصد الحصول على الأرباح المتوقعة بدون كلفة.
الغلبة كانت لمن أسس الجيش وَكَوَّنَه، واستولى، في الآن نفسه، على مقدّرات الأمة بالطروحات الإيديولوجية “السحرية”، أو بالسلط القمعية
وللانتقال الثالث بعد “ثيولوجي” Théologique، إذا شئنا، استند في مجمله إلى ثلاثة مصادر: الدين كمقوّم يقيني وهوياتي وشعوري ومعاملاتي، التراث العربي الإسلامي المكتوب وأساطيره المروية، وفي جوانب كبيرة منه على ما صيغ بمختلف الأساليب، بناء على التصورين العرقي والأسطوري (خير أمة أخرجت للناس…)، والاستلاب الذي في معناه تسويغ النماذج الثقافية والفكرية المؤثرة في مجالاتها الخاصة، مع ما يَحُول بينها وبين الإنجازات المنتظرة منها، أي تلك الهوّة المعروفة لدى الحاكمين وَمُنظِّريهم بـ”الخصوصية الوطنية” حصراً. وعلى هذا، جاءت الصيغة الإيديولوجية العامة متناقضة وتنهض بصورة واعية، بحكم الخَصَاص، على تجويز معظم التأويلات التي تُنتَج وتُصاغ وتُؤوّل أيضاً في السياقات الأخرى (سياق الآخر)، مما يصعب معها، لِعلَلٍ في (“الاستدماج” أو الاستنبات)، الاستجابة لمتطلبات الاستيعاب، أو القدرة الاقتراحية، أو بناء التصورات الوطنية النابعة من مستوى التطور الثقافي والفكري للبلدان المَعنية. ولهذا فشلت مختلف “العقائد” التي سعت إلى تغيير الأوضاع القائمة، بناء على تصورات إيديولوجية فوقية، ونجح الاستبداد المغاربي لأنه مسنود بمقومات ثابتة وراسخة تسند وتبرر أشكال الهيمنة والتحكم.
ومن نتائج هذا الانتقال أيضاً أن السيطرة الإيديولوجية تحققت، بشكل كلي إلى حدٍّ ما، ومغلق تقريباً، للفكر المحافظ في أغلب صوره الرجعية احتفاء بالماضي كقياس به تقاس عامة الأحكام، وبلاغة بها يتزيَّنُ التعبير، وانشداد أسطوري عليه تنبني جميع التأويلات التي تتناسب مع النوازل والمُحْدَثات الطارئة. فأصيب المجال الثقافي والفكري المختلف بأبشع ما يمكن أن يصيب الحياة الثقافية والفكرية في أخص معاييرها المبنية على الاختلاف، أو الاستقلالية، أو التناقض. هذا إلى جانب ما كان مِن ذلك مقروناً بأشكال “مبتدعة” من التجريم، أو التخوين، تُؤلَّفُ في الغالب في شكل قوانين، أو جزاءات وإجراءات زجرية، أطاحت مواقف كثيرة حين زجَّت بأصحابها في السجون، أو فرضت عليهم النفي القسري، أو دبّرت لهم مؤامرات للقضاء المبرم عليهم. وعلى هذا الأساس “تغوَّلت” الأجهزة القمعية والمخابراتية و”الإعلامية” الضامنة للسيطرة والتحكم طمعاً في الاستقرار والتدجين وتحفيز الوطنية الشوفينية القائمة على تمجيد الدولة الحديثة والبحث لها، في الماضي التليد، عن تاريخ يزكي حضورها واستمرارها.
الحاصل أن الانتقالات المذكورة تَعَنّت، في مختلف التجارب التي توالت على البلدان المغاربية أزيد من ستين سنة، بالشرعية الوطنية، أو باليعقوبية “الثورية”، ضداً على شرعيات وطنية (وغير وطنية) أخرى تفاعلت في خضم الصراع العام على صعيد المجتمع، ولكن الغلبة كانت لمن أسّس الجيش وَكَوَّنَه، واستولى، في الآن نفسه، على مقدّرات الأمة بالطروحات الإيديولوجية “السحرية”، أو بالسلط القمعية، وبالخصوص حين تزَيَّت معانيها، في العهود الاستقلالية، بالمعاني التي كانت لها مبررات وطنية في فترات الحماية الاستعمارية.
المصدر: العربي الجديد