
لذكرى وفاة حافظ الأسد هذا العام وقْعٌ مختلف. إذ يجوز القول إنه أخيراً مات، بعد ربع قرن من الإعلان عن وفاته. فالاعتقاد الشائع هو أنه استمر بالحكم عبر ابنه، وكان مرشَّحاً للاستمرار عبر حفيده، وهذا هو فحوى الأبد في الشعار الذي يعرفه السوريون جميعاً: قائدنا إلى الأبد.. الأمين حافظ الأسد. ثمة الكثير مما يُقال في أن حافظ الأسد لم يبقَ فقط من خلال حكم ابنه، فأثره المستدام كان أيضاً من خلال معارضيه الذين تمثّلوا الكثير من سيئات الحقبة الأسدية، بل لطالما اتُهموا بأنهم نسخة مقلوبة منه.
بعد الإعلان عن الوفاة، سار كل شيء كما كان مدبَّراً منذ سنوات، أي منذ مقتل ابنه باسل الأسد في حادث سير، ثم دفْعِه ببشار إلى الواجهة كوريث بديل. هكذا تم تعديل الدستور على عجل، وكما هو متوقّع أصلاً لأن وراثة بشار سارت على نحو معلن منذ بدايات سنة 1994، عندما أُعيد من إنكلترا حيث كان يتابع دراسته في طب العيون، ليكون رئيس المستقبل.
قبل سفره إلى إنكلترا، بل قبل وفاة باسل، لم يكن يُعرف الكثير عن بشار. كانت هناك معلومات أكثر شيوعاً عن أخيه الآخر ماهر، تحديداً ما كان يُقال عن نزوعه العسكري المشابه لعمه رفعت. لباسل نفسه وجهٌ عسكري، من بين وجوه عديدة كانت تُروّج عنه، فهو المظلي والضابط والمهندس والرياضي… وفوق ذلك هو ابن أبيه بما كان يروّج عنه من دهاء. قبل كانون الثاني 1994، كان من السهل الجزم بأن ذلك الابن الطبيب لن يكون حاضراً في صلب السلطة، أو على رأسها، والظن الشائع أنه بعيد جداً عنها.
بموجب معلومات متفرقة عن تلك الفترة، كانت الحظوة لدي الأبوين موزّعة في المقام الأول بين البنت والابن الأكبر، وبعد تحييد العم رفعت عن وراثة السلطة صار باسل هو الملازِم لأبيه، ولم تكن علاقة الوريث الأول بالوريث اللاحق على ما يرام. أثناء دراسته كان بشار يحظى بامتيازات كونه ابناً لحافظ الأسد، وإن حاول إظهار العكس، فلم يمارس سلطوية فظّة إلا في مناسبات قليلة، وهناك معلومات عن أنه كان يُظهر تململه من السلطة الذي أصبح باسل هو من يمثّلها فعلياً. على هذا، من المرجّح أنه كان يطمح إلى الخلاص من هيمنة باسل، وإن أتى الحلول مكانه هدية غير متوقَّعة.
الشائع أيضاً على نطاق واسع آنذاك، أن باسل سرُّ أبيه، بمعنى أنه إلى حد ما سيكون استمراراً للأب، في وقت كانت فيه أغلبية السوريين تتوق إلى التغيير. لقد كان باسل عسكرياً، وهو ما كانت تفضّله قلّة تخشى على إرث الأسد من الضياع إذا لم يكن الوريث عسكرياً حازماً وشديداً. على نطاق أوسع، هناك شريحة الشباب التي كان باسل يُقدَّم كرمز لها ولرغبتها في التحديث، ولم يكن سهلاً ولا صعباً إقناعها ببديل مدني، يدرس في الغرب كناية عن مستقبل حداثي غربي. أما الكتلة الأكبر المنشغلة بالاقتصاد والعيش، والتي قاست من العسكر والمخابرات، فهي بلا شك تفضّل حكماً مدنياً، وإن قاد هذا التحول وريث لشخصية غير محبَّبة بقدر ما صارت مُهابة.
الخلاص من حافظ الأسد كان مطلباً خارجياً وداخلياً، فوجوده صار معيقاً للكثير من الديناميكيات الداخلية والإقليمية. وقد سلّم الخارج والداخل بأن التغيير لن يكون إلا من ضمن السلطة، حيث لا يوجد مرشّح سوى من العائلة نفسها. من الوقائع الشهيرة الدالة على الترحيب الدولي بالوريث الجديد استقبالُه في قصر الإليزيه من قبل الرئيس جاك شيراك، ثم انفراد وزيرة الخارجية الأميركية به عندما أتت لتعزّي بوفاة أبيه.
لم تكن هناك أداة إحصائية موثوقة وقتذاك، لكن يمكن الجزم بلا مبالغة بأن بشار الأسد حظي قبل ربع قرن بقبول سوري واسع جداً. ولم تكن الأكثرية العددية السُنّية خارج هذا القبول، بل كانت من ضمنه، وبقوة أحياناً. وبالطبع كانت الآمال معقودة عليه ليقود البلد نحو الحداثة، ونحو قدر أوسع من الحريات، ومنها حرية الرأي والتعبير. الذين انخرطوا فيما سُمّي ربيع دمشق آنذاك كانوا في طليعة المنادين بالحريات السياسية، ومعظمهم كان مستعداً للقبول بعملية إصلاح سياسي يقودها الرئيس الشاب.
الصناعيون والتجار توسّموا خيراً أيضاً بالرئيس الجديد، وكانت قرارات الانفتاح الاقتصادي قد بدأت مع وضع مشروع التوريث على نار ساخنة، ومن جهة أخرى بدأت ثروات أبناء المسؤولين الكبار بالظهور في السوق، وكان البعض يأمل أن يكون لأموال الفساد تأثير مشابه لما حدث في بعض أنظمة أمريكا اللاتينية لجهة الانتقال من الاستبداد إلى الليبرالية. الأكيد أن الوضع الاقتصادي شهد تحسناً بعد ركود بدأ في الثمانينات، وإن كان توزيع الحصيلة غير متساوٍ، إذ نالت دمشق الحصة الأكبر، بينما بقيت مناطق الجزيرة السورية هي الأكثر تهميشاً.
نتحدث عن شاب كان في منتصف الثلاثينات من عمره، بلا خبرة سياسية في بلد ممنوع من السياسة، ومع ذلك يتسلم الرئاسة وهو يحظى بشعبية بناءً على ما هو مأمول منه، وعلى أنه “رئيس الضرورة”. وهو لم يبخل في تغذية الآمال حول التغيير الذي يحمله، إلى أن انقلب على ربيع دمشق، ثم انقلب عقب ذلك على وعوده الإقليمية والدولية، وبات متهماً باغتيال الرئيس رفيق الحريري.
خلال خمس سنوات لا غير أهدر بشار الرصيد الذي اكتسبه بين عامي 1994 و2000، وهو بنفسه فعل ذلك، لا تحت أية ضغوط تهدد حكمه، لا في المدى القريب آنذاك ولا البعيد. ورغم ما حدث، كانت أمامه الفرصة لا تزال سانحة ليلتفت إلى الداخل التفاتة حقيقية، بعدما اضطر إلى سحب قواته من لبنان، خصوصاً أن النوايا الدولية لم تكن متجهة لمعاقبته بعد انسحابه من هناك. بل سيُفهم أن ثمة تواطؤاً أميركي وإسرائيلياً معه مَنَع تقديم وثائق للجنة التحقيق الدولية في مقتل الحريري، ما يعني أن قرار الإبقاء على حكمه بقي سارياً.
في غضون ما سبق، وبعد القضاء على ربيع دمشق، عاد بشار إلى نهج أبيه لجهة تغوّل المخابرات على الحياة العامة. الذي لا يقل تأثيراً وسوءاً أنه أسفر عن جشع شديد على الصعيد الاقتصادي، حيث صار واضحاً أنه يتعين على أي صاحب نشاط اقتصادي القبول بشراكة إذعان مع السلطة، أو بالأحرى مع وكيل من وكلاء رأس السلطة المعروفين بالاسم. أي أن وعود منتصف التسعينات بالحرية والازدهار الاقتصاديين تبخرت في العقد الأول من الألفية الجديدة، فيما لم تبدر عنه أدنى حساسية إزاء الوضع العام بأكمله.
نتوقع أنه كان مزهواً بقدَره الذي أوصله إلى السلطة بحادث سير، وبتعامل الخارج معه على أنه “رئيس الضرورة” رغم كل ما فعله. ربما هذا ما جعله شديد الثقة بنفسه مع اندلاع الربيع العربي، ليصرّح بأن سوريا ليست تونس أو مصر. الثقة ذاتها جعلته يخرج وهو يضحك في أول خطاب له بعد اندلاع الثورة وقيام شبيحته ومخابراته بقتل المتظاهرين العزّل، فهو كان يضحك كشخص بلا أدنى إحساس بالجرم الذي يرتكبه، وهذا الانفصال عن الواقع يجد تبريره بأنه واثق من كونه (هو وسلطته) خارج دائرة العقاب.
تاريخ ما بعد اندلاع الثورة معروف أكثر مما سبقه، والأكيد أن حكم بشار كان آيلاً للسقوط في العديد من المناسبات، لولا العناية والمشيئة الدوليتين اللتين أبقيتا عليه ولو في “غرفة الإنعاش”. وإذا عدنا سنة إلى الوراء، يمكن العثور على أكوام من التسجيلات والكتابات التي يقرّ أصحابها بأن المشيئة الإقليمية والدولية تتجه إلى إعادة تدويره، والأسئلة التي راحت تطرح يدور معظمها حول كيفية طي صفحة المساءلة عن الجرائم التي ارتكبها. والشائع أنه بقي جشعاً للاستئثار بالبلد، فرفض تقديم التنازلات الضرورية لإعادة تدويره، ما أدى إلى إسقاطه في النهاية؛ ربطاً بإخراج إيران من سوريا.
ما سبق إحاطة موجزة أُهمِل فيها الكثير من الفرص التي أُتيحت لبشار الأسد، إلا أنه كمن أبى استغلالها، وكان مصراً على المضي في طريق الهاوية. قد يُقال الكثير في البنية النفسية له، لكننا لا نراها حاسمة أو مؤثّرة إلا بموجب بنية سلطة تستوعب هذا القدر من الجشع إلى الاحتكار، وهذا القدر من اللامأسسة الذي يسمح لشخص (أو لعائلة) بأن تقرر ما تشاء. ربما، في جانب من الملهاة والمأساة معاً، يصحّ القول بأن حكم الأسد انتهى مع الموت البطيء للأب المؤسس، وأن سنوات حكم الابن هي محاولات إنعاش للجثة، أي أنه السلطة ببنيتها وبحيثياتها الداخلية لم تكن قابلة للاستمرار، وفي الرهان بين قوة الخارج وقوة الداخل ربح الثاني منهما أخيراً، وربما هذه هي العبرة في أن “إصرار” بشار على السقوط كان أقوى من محاولات ثنيه عن ذلك!
المصدر: المدن
لماذا أهدر طاغية الشام “بشار” الفرص التي أُتيحت له، بإصراره على المضي في طريق الهاوية، البعض يعتبرها مرض نفسي، أم إن حكم الأسد انتهت مع الموت البطيء للأب المؤسس، وأن سنوات حكم الابن هي محاولات إنعاش للجثة، العبرة كانت بــ “إصرار” بشار على السقوط كان أقوى من محاولات ثنيه عن ذلك، قراءة موضوعية للمسيرة.