
منذ اندلاع الحرب الروسية ضد أوكرانيا في مطلع عام 2022، واجه الاقتصاد الروسي تحدّيات غير مسبوقة، تمثلت في عقوباتٍ دوليةٍ صارمة واضطرابات عميقة في الأسواق العالمية. ورغم تلك الضغوط، نجحت موسكو، بشكل مفاجئ، في الحفاظ على تماسكٍ اقتصاديٍّ نسبيٍّ أثار دهشة متابعين كثيرين. هذا الصمود، وإن كان حقيقيّاً إلى حد ما، فإنه يستند، في معظمه، إلى عوامل ظرفية واستجابات سريعة، ما يجعله هشّاً وغير مضمون الاستمرار.
في المرحلة الأولى من الأزمة، عاشت روسيا حالة من القلق الاقتصادي، حيث فرّت رؤوس الأموال إلى الخارج بأرقام ضخمة، وسادت حالة من عدم اليقين بين المستثمرين والشركات. وفي مواجهة هذه الهزة، سارعت السلطات إلى فرض قيود مشدّدة على حركة رأس المال، ما أدّى بشكل غير متوقع إلى كبح جماح تسرّب الأموال إلى الخارج، رغم أن تلك السياسات كانت ردًاً على العقوبات الغربية. بالتوازي، ساهم الارتفاع الحاد في أسعار النفط والغاز عالميّاً في تدفّق كميات كبيرة من العملة الصعبة إلى خزائن الدولة، ما منحها هامشاً مريحاً للتحرّك.
كانت العلاقات التجارية مع شركاء آسيويين، لا سيما الصين والهند، بمثابة طوق نجاة لروسيا. فبينما أغلق الغرب أبوابه، ازدادت مشتريات هذه الدول من النفط الروسي، ما ساعد في إبقاء الاقتصاد الروسي نشطاً نسبيّاً. إلى جانب ذلك، اتبعت الشركات الروسية سياسات تكيّف سريعة، تمثلت في البحث عن بدائل للسلع والخدمات القادمة من الغرب. إضافة إلى ظهور نمط جديد من “الاستيراد الموازي” لتعويض النقص الحاصل في المنتجات.
من جهة أخرى، اتّخذ البنك المركزي الروسي إجراءاتٍ حاسمة لحماية النظام المالي، أبرزها رفع الفائدة بشكل كبير وفرض ضوابط على سوق العملات. كما تبنّت الدولة سياسة إنفاق عام توسعية، لا سيما في القطاع العسكري، ما ساهم في تحفيز بعض القطاعات الاقتصادية الأخرى. وتم تقديم زيادات في الرواتب والدعم الاجتماعي لتقليل آثار الأزمة على المواطنين، وهو ما ساعد، ولو جزئياً، في امتصاص حالة الغضب الشعبي وتعزيز دعم الرأي العام المحلي الدولة في أجواء الحرب.
أفرز توجه موسكو المعلن نحو عسكرة الاقتصاد مشكلات جديدة
لكن هذا المشهد المتماسك يخفي وراءه كثيراً من الهشاشة، فالنمو الذي تحقق في 2022 و2023 جاء إلى حد كبير نتيجة “ردّة فعل طبيعية” بعد ركود مفاجئ، وليس نتيجة انتعاش اقتصادي فعلي وحقيقي. كما أن استمرار هذا النمو يبقى مرتبطاً بعوامل لا يمكن التعويل عليها، مثل الأسعار المرتفعة للنفط والدعم غير المشروط من بعض الدول الآسيوية، والذي قد يتراجع في أي لحظة. وعلى سبيل المثال، رفضت الصين أخيراً القيام بتمويل مشاريع استراتيجية وضرورية للاقتصاد الروسي، ما يعطي إشارة واضحة إلى حدود هذا الدعم.
في الوقت نفسه، بدأت العقوبات الغربية تظهر آثارها بوضوح أكبر مع مرور الوقت، فقيود الاستيراد، وتراجع جودة المعدات، وصعوبة الحصول على التكنولوجيا الحديثة، باتت تؤثّر بشكل متزايد على الإنتاج كمّاً ونوعاً. حتى أن المصارف الصينية الكبرى باتت تتجنّب التعاملات مع روسيا خشية العقوبات الأميركية، ما ضيّق هامش الحكومة الروسية في المناورة المالية بشكل أكبر.
أفرز توجّه موسكو المعلن نحو عسكرة الاقتصاد مشكلات جديدة، فمع ضخ الأموال في قطاعي الدفاع والأمن، تراجعت قيمة الاستثمارات في الصناعة المدنية، وازدادت الضغوط على سوق العمل بسبب تعبئة الشباب للجبهة، ناهيك عن الخسائر البشرية من قتلى وجرحى ومعاقين. كما أن تضخّم الإنفاق العسكري فتح الباب أمام مزيد من الفساد، وهو ما يشكّل خطراً مباشراً على استقرار المالية العامة في المستقبل القريب.
رفضت الصين أخيراً القيام بتمويل مشاريع استراتيجية وضرورية للاقتصاد الروسي
على مستوى الاقتصاد الكلي، ليس الوضع مشجّعاً. فقد سجلت روسيا عجزاً كبيراً في الميزانية خلال 2023، كما أظهرت بياناتٌ رسمية استنزافاً واضحاً في صندوق الرفاه الوطني، أحد أهم أدوات التمويل الحكومي. وفي ظل تراجع قيمة الروبل وتزايد التضخم رغم ارتفاع سعر الفائدة، يبدو أن أدوات السياسة النقدية فقدت الكثير من فعاليتها. وعلى المدى الطويل، تلوح في الأفق تحدّيات أكبر بكثير، فالعالم يشهد تحولاً متسارعاً نحو الطاقة النظيفة، خصوصاً في أوروبا، ما ينذر بانخفاض كبير في الطلب على النفط والغاز، اللذيْن يشكلان العمود الفقري لمصادر الإيرادات الروسية. ومع تراجع عدد السكان، وما ينجم عنه من انخفاض في النمو السكاني، وشيخوخة القوى العاملة، تتقلّص القاعدة الإنتاجية، في وقت تحتاج فيه البلاد بشدّة الابتكار والنمو المستدام.
في النهاية، ما يبدو صموداً اقتصادياً روسياً هو في حقيقته مزيج من توفّر الحظ، والظروف الطارئة، والاستجابات القصيرة الأجل. لكنه في المقابل لا يعالج الخلل البنيوي العميق في النموذج الاقتصادي القائم، ولا يقدّم حلولاً طويلة المدى. وإذا لم يتم تبني إصلاحات سياسية واقتصادية جذرية، تنطلق أساساً من إنهاء الاعتداء على أوكرانيا، من المرجّح أن تواجه روسيا في السنوات المقبلة واقعاً اقتصاديّاً أكثر تعقيداً وكلفة، في ظل عالم يتغيّر بسرعة ويتجه نحو تقليص الاعتماد على الموارد الأحفورية، ويبتعد تدريجيّاً عن التعامل مع اقتصاد معزولٍ ومحاصر.
المصدر: العربي الجديد