المخاض السوري… أقليّات وأكثريّات

علي العبدالله

لم يكن إطلاق وصف “فتنة طائفية” على المواجهات الدامية التي وقعت بين فصائل سلفية، وصفت بـ “متفلتة” و”غير منضبطة”، ومسلحين وفصائل من طائفة الموحدين الدروز في بلدات جرمانا وأشرفية صحنايا ومحافظة السويداء، وانخراط قوات الأمن العام فيها، “لفضّ الاشتباك” تارة، و”للدفاع عن نفسها” تارةً أخرى، و”لسحب الأسلحة غير الشرعية” تارّةً ثالثة، موفقاً أو معبّراً عن الواقع الحقيقي، واقع الصراع السياسي القائم بين السلطة السورية الجديدة وقوى سياسية واجتماعية سورية عديدة بمن فيها. فالمواجهات التي انفجرت لم تنفجر لخلاف على قضايا مذهبية، بل لأن ثمّة توتراً واحتقاناً شديدين تشكلا على خلفية عدم رضا لدى قطاعات واسعة من الموحّدين الدروز عن التوجّهات التي اعتمدتها السلطة السورية الجديدة في صياغتها أسس الجمهورية تحت التأسيس، بدءاً بمبدأ “من يُحرّر يُقرّر” في الاختيارات السياسية والاقتصادية، وفي التعيينات التي اصطبغت بلون واحد، مجسّدة ميلها إلى الاعتماد على الولاء، لا الكفاءة، وربط ذلك بخلفية قوى السلطة الجديدة السلفية الجهادية وتاريخها، ومطالبة الشخصيات والفصائل والقوى السياسية من طائفة الموحدين الدروز باعتماد التشاركية والتعددية والمساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات في دولة مدنية/ علمانية قائمة على المواطنة والديمقراطية تحت راية شعارها الأثير: “الدين لله والوطن للجميع”، وهو، التوتر والاحتقان، حاصل مع مكونات سورية أخرى، إن مع الكرد في شمال سورية وشرقها، أو مع العلويين في الساحل السوري. لا يغير وجود سبب مباشر لانفجار هذه المواجهات، التسجيل المفبرك الذي انطوى على المسّ بمكانة نبي الإسلام محمد (عليه الصلاة والسلام)، ووجود جهات داخلية وخارجية تعمل على تفجير الوضع بين مكونات المجتمع السوري ودفعه إلى الاقتتال على خلفيات دينية ومذهبية لجعل عيش السوريين في دولة واحدة مستحيلاً، لا يغير من طبيعة المواجهات وخلفيتها السياسية، التي حاول تصريح وزارة الداخلية الصحافي تمويهها بـ “شكره وتقديره للمواطنين الكرام على مشاعرهم الصادقة وغيرتهم الدينية دفاعاً عن مقام النبي صلى الله عليه وسلم”.

لم تكن المواجهات الدامية “فتنة طائفية”، فالخلاف السياسي الذي ترتب عن قرارات السلطة السورية الجديدة، بدءاً بمؤتمر النصر، الذي لم تشارك فيه سوى فصائل سلفية جهادية، إلى الإعلان الدستوري، الذي منح الرئيس الانتقالي صلاحيات ملك في مملكة غير دستورية، مروراً بهمروجة مؤتمر الحوار الوطني وبيانه غير الملزم، وما أثارته من ردود أفعال لدى الموحدين الدروز، ولدى الكرد والعلويين كذلك، جوهرها التحفظ والرفض والتحصّن، سبقت التسجيل المفبرك وأسّست لانقسامات عمودية بين مكونات المجتمع السوري. وقد زادت المجازر التي ارتُكبت بحق المدنيين من العلويين في الساحل السوري الطين بلّة.

زادت المجازر التي ارتُكبت بحق المدنيين من العلويين في الساحل السوري الطين بلّة

ليست التركيبة الاجتماعية السورية بسيطة أو ذات بعد واحد، إنها متعدّدة ومركبة، معقدة ومتداخلة ومتشابكة قومياً ودينياً ومذهبياً، شكلها تاريخ طويل من الانسجام والوئام بين أجزاء منها، والصراع والمذابح بين أجزاء أخرى عمّقت بينها الحدود والحواجز وحددت حدود الانتشار الجغرافي في بيئة قلقة ومتقلبة، فبات يمكن قراءة هذه التركيبة من منظورات عديدة ومختلفة حيث يمكن قراءتها من منظور قومي وإثني، فيكون العرب هم المكون الغالب على التركيبة، يأتي بعدهم الكرد والتركمان والشركس والشيشان والآشوريين السريان، إلخ. ويمكن قراءتها من منظور ديني، فيكون المسلمون، العرب، بمن فيهم العلويون والموحدون الدروز والإسماعيليون، والكرد والتركمان والشركس والشيشان، هم المكون الغالب، يأتي بعدهم المسيحيون بمذاهبهم العديدة. ويمكن قراءتها من منظور مذهبي، فيكون السُّنة، العرب ومعظم الكرد والتركمان والشركس والشيشان، هم المكون الغالب، يأتي بعدهم العلويون، فالموحدون الدروز، فالشيعة. تركيبة فيها تداخل وتشابك كبيران. فالعرب يشملون السُّنة، والعلويون والموحدون الدروز يشملهم الإسلام في الوقت نفسه، والسُّنة يشملون العرب والكرد، والمسيحيون يشملون الأرثوذكس والكاثوليك والموارنة واليعاقبة والنساطرة… ما يجعل التصورات والحلول البسيطة غير ناجعة في تحديد الخيارات والحلول السياسية. من هنا لجأت دراسات في الفلسفة السياسية إلى التمييز بين مستويين في الدولة: مستوى اجتماعي ومستوى سياسي. اجتماعي يشمل البنى الاجتماعية بتعددها وتمايزها وتكاملها وتفاضلها، حيث يمكن الحديث عن مجتمعات لا مجتمع واحد. وسياسي، المعبَّر عنه بالشعب باعتباره شخصاً اعتبارياً، حيث يمكن الحديث عن شعب واحد في حال تبعيته لسلطة سيادية واحدة في كيان سياسي واحد: دولة. والتفاعل بين المستويين، ونوعية العلاقة بينهما وطبيعتها، هو ما يحدد ويؤكد وحدة الانتماء ووحدة المصير لدى هذه المجتمعات. فالتعدد والتمايز في المستوى الاجتماعي وليدا تاريخ وسياق وتجارب عديدة متقاطعة في بعضها ومتباينة في أخرى، متكاملة في بعضها ومتفاضلة في أخرى، والعمدة في ربط المستويين ببعضهما مرهون بطبيعة تجسيد الشخصية الاعتبارية: الشعب، في الدستور والقوانين حيث يمكن لدستور مبني على قيم المواطنة والعدالة والمساواة والحريات العامة والخاصة أن يكرّس وحدة الشعب وتماسكه، ويجعل المستوى الاجتماعي يشعر بالرضا والانتماء، فيسود الاستقرار وتتوفر عوامل الازدهار الاقتصادي والتفاعل الاجتماعي والاندماج الوطني. ويمكن لدستور مبني على قيم السيطرة والهيمنة والغلبة القومية أو المذهبية أن يثير ردود فعل سلبية وانقسامات عمودية مشحونة بالهواجس والمخاوف ويحوّل المجتمع إلى مجتمعات متنافرة متصارعة يبحث كل منها عن خلاص فئوي، قومي أو ديني أو مذهبي. وهذا بدوره يشكل فرصة مؤاتية للقوى الخارجية الباحثة عن تحقيق مصالحها الخاصة باستثمار التناقضات الداخلية واللعب عليها.

اختلفت قراءات المعلقين والمحللين السياسيين للمأزق السياسي السوري وتقديراتهم بين قائل “بعدم امتلاك السلطة السورية الجديدة رؤية ولا وسائل عمل للمّ شمل مكوّنات المجتمع السوري”، وقائل “بعدم تمكنها من تأسيس بنى انتقالية مقنعة لمختلف السوريين، ومن رسم خريطة طريق واعدة نحو المستقبل، وعدم نجاحها في الاستجابة لمطلب إرساء العدالة الانتقالية، وهو أهم وأقدس مطالب الاجماع الوطني السوري، الذي من دونه لن يتوقف السير نحو حرب أهلية سورية طاحنة، تتخطى الحرب الأهلية اللبنانية”، وقائل “بعدم كفاية الإيماءات الرمزية نحو الشمولية والوحدة، والمشاركة الشكلية للمجتمعات لا يمكن أن تُثمر استقراراً حقيقياً ما لم تُعالج الانقسامات العميقة والمتجذرة التي تعصف بالنسيج الاجتماعي السوري”، وقائل “بعدم وجود اتفاق، ولو في ملامحه العامة، بين مختلف المكونات والقوى السورية الفاعلة والمؤثرة والمعنية، حول طبيعة التغيير المطلوب ونموذجه، وبالتالي طبيعة النظام الذي سيستقر لاحقاً في سورية”.

ليست التركيبة الاجتماعية السورية بسيطة أو ذات بعد واحد، إنها متعدّدة ومركبة، معقدة ومتداخلة ومتشابكة قومياً ودينياً ومذهبياً

تكمن مشكلة التوترات القائمة والتباينات السائدة بين مكونات المجتمع السوري في السياسة التي اتبعتها السلطة السورية الجديدة في إدارتها المرحلة الانتقالية وما تعكسه من توجّهات على المدى البعيد، أساسها سيطرة وهيمنة على الدولة والمجتمع من قبل الرئيس الانتقالي أحمد الشرع، والتفرد بالحكم بالارتكاز على السُّنة بعد تحويلهم إلى عصبية عبر دفعهم إلى خوض مواجهات مع بقية المكوّنات السورية، الدينية والمذهبية والقومية، لتحقيق هدفين متكاملين: تخويف السُّنة من مطالب المكوّنات الأخرى وأثرها السلبي على “نصرهم وسلطتهم”، واعتمادهم قوة باطشة في مواجهاتها، وتخويف المكونات السورية الأخرى من قوة السُّنة، من جهة، والعمل على استرضاء الخارج عبر تقديم تنازلات مجانية للكيان الصهيوني والولايات المتحدة لتأمين استمرار تفويضهم في حكم البلاد وإدارة المرحلة الانتقالية، من جهة أخرى، ما يتيح تجاهل مطالب المكونات السورية في التعددية والتشاركية والعدل والمساواة في الحقوق والواجبات والحريات العامة والخاصة.

يشكل غياب الثقة والأمان والعدالة والمساواة السبب الرئيس للتكتل والالتفاف حول عصبية مذهبية أو قومية أو إثنية، ما يجعل البحث عن حماية ما لتوفير الأمان هدف الجماعات المذهبية والقومية الصغيرة والضعيفة، فيما يكمن الرد المنطقي والحصيف على مثل هذه التوجّهات والخيارات في توفير عوامل الثقة والأمان والعدل والمساواة في نظام سياسي تعدّدي وتشاركي يضمن حقوقاً متساوية لمكونات المجتمع، بحيث تشعر بحضورها ودورها في إدارة الشأن العام ولعب دور حقيقي في اتخاذ القرار الوطني على الصعد السياسية والاقتصادية والحصول على حصّة مناسبة من الكعكة الوطنية، ما يعزز الشعور بالرضا ويكرس الانتماء والولاء لوطن واحد وشعب واحد.

المصدر: العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى