“صلاة القلق” والانحياز النبيل

بسمة النسور

اعتمد الروائي المصري محمد سمير ندا في روايته “صلاة القلق”، الحائزة على الجائزة العالمية للرواية العربية عام 2025، حيلة روائية ماكرة، ساهمت في استدراج القارئ وتوريطه في عوالم النصّ المتين شديد الإحكام، إذ جعل الراوي الأبكم يكشف الأحداث، ويُفصح عن دواخل الشخصيات في الصفحات الأخيرة من الرواية الفذّة، التي تُخلّف، بعد الانتهاء منها، إحساساً بطعم المرارة والأسى، مصاحباً الانبهار بقدرة الكاتب على تشييد عالم قائم بذاته، يتراوح بين الغرائبية والواقعية والتأمل والسرد السهل الممتنع.
يجد القارئ نفسه أسيراً هو الآخر في “نجع المناسي”. قرية منسية في الصعيد، كما يشي اسمُها، تتعرّض ذات ليلة من عام 1977 لانفجار جسم مجهول يُضيء سماءها على نحو مخيف، فيعزلها عن العالم ويجعلها حبيسة قدر غاشم، وقد سيّج محيطها بحقل ألغام جعل إمكانية مغادرتها مستحيلة، بعد أن انمسخت هيئات سكّانها إلى ما يشبه السلاحف، ليتفتّح النص على أصوات شخصيات ثمانية تعود بنا إلى الوراء عشر سنوات منذ وقوع الانفجار، وصولاً إلى هزيمة حزيران 1967، حين نهض الأمل على وقع خطابات عبد الناصر ووعوده بالنصر المؤزّر ودحر العدوان، قبل أن يتبدّد الوهم الكاذب.
تغطّي الشخصيات بأسلوب التداعي الحرّ الحدثَ الغامض، كلّ من زاويته؛ “الشيخ أيوب” و”نوح النحال” و”محروس الدباغ” و”القابلة وداد” و”عاكف الكلاف” و”محجوب النجار” و”الغجرية شواهي”، فينجلي المشهد الكلّي عن عذابات شخصيات متناقضة، متصارعة أحياناً، جمعها الحبس القهري، وقد أتاح لها الكاتب مساحة من البوح التطهّري المُنفلت.
لعلّ أصوات الشخصيات النسائية كانت الأكثر تأثيراً ودرامية. القابلة وداد التي يحتمل الفصل المخصّص لبوحها رواية متكاملة مبنية على تداعيات امرأة غامضة لم تنعم بالأمومة، أتقنت أعمال القبالة، وولد على يديها أولاد النجع. لطالما اعتبرت بشارة خير للأهالي قبل أن ينكشف المستور، من خلال كلمات خُطّت بحروف سوداء على سور بيتها، وأسوار البيوت القليلة في النجع المنسي، تفضح قتلها الرضّع ممّن كانت تكتشف فيهم علّة أو ضعفاً. كانت تضع يديها على الأفواه الصغيرة حتى تكتم أنفاسها، لتتوارى عن الأنظار في النهاية وتنجو من العقاب، وتموت ثمانينيّة وحيدة بعد افتضاح أمرها بفعل الكلمات التي خُطّت على الأسوار، وهتكت الأسرار المسكوت عنها. وكذلك شخصية “الغجرية شواهي”، الصغيرة، التي أصبحت امرأة فاتنة يحلم جميع الرجال بوصالها، وهي تحلم بفارس غامض ينتشلها من أطماع الرجال وحقد النساء. تسرد شواهي حكاية هروبها من قومها ولجوئها إلى النجع ربيبة لوداد القابلة.
تمكن الروائي من رسم ملامح الشخصيات ومفاصل حيواتها ونقاط صراعها ببراعة خبير في النفس البشرية، لم يلجأ إلى خطاب إدانة مباشر، ولم يتخذ تجاهها منطقاً تبريرياً، بل ظلّ على الحياد سارداً عليماً قادراً على الحفر والنبش في أعماقها، غير أن النصّ الروائي انطوى على إدانة جلية للسلطة (ورموزها) التي استبدّت وطغت وقتلت وعذّبت الأحرار، وأهملت مطالب الضعفاء في حياة كريمة، واستغلت بساطتهم وساقت أبناءهم إلى حرب لا عودة منها، وجرّعتهم الهزيمة والخذلان وخيبة الأمل.
جاء الفصل الأخير ليضيء المُعتم في النصّ، من خلال حكيم الصبي الأبكم، الذي يحبّ صوت عبد الحليم، ويمقت والده حليف السلطة، وقد شهد صغيراً واقعة قتل والدته على يد أبيه المتسلّط المستغلّ لأهل النجع، يكتب حكيم التفاصيل كلّها، بناءً على طلب طبيبه المعالج في المصحّ الذي أودع فيه. وتأتي الخاتمة الذكية لتؤكّد قيمة الكلمة في التصدّي للظلم، وذلك من خلال ما ورد في تقرير الطبيب، إذ كتب: “من الحتمي أن يواصل المريض الكتابة، لا بدّ من تشجيعه وتحفيزه على تفريغ كلّ ما يختزنه من صور ومشاعر وكلمات حبيسة، الأوراق هي صلته الوحيدة بالعالم، فإذا انقطعت هذه الصلة سقط في عوالمه البديلة، الحبر هو ما يغذّي طاقته، ويروي خياله ليبقيه حيّاً، فإن جفّ الحبر ذبل الجسد، واستعدّت الروح للرحيل”.
تحية كبيرة للروائي محمد سمير ندا على تحفته التي أضافت للرواية العربية مزيداً من الثقل والعمق، وعبّرت عن انحيازه النبيل لعذابات المهمّشين في الأرض.

المصدر: العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى