لمّا قبل عبد الناصر مبادرة روجرز

معن البياري

متّعه الله بالصحّة، صديقَنا ربعي المدهون… في غضون متابعة الضجيج الذي أحدثَه، أخيراً، نشرُ تسريب جزءٍ من حديثٍ بين جمال عبد الناصر ومعمّر القذّافي، في أغسطس/ آب 1970، جاءت إلى البال الصفحاتُ في كتابه “طعم الفراق …” (2001)، عن احتجاج طلابٍ جامعيين فلسطينيين في القاهرة، كان منهم، على قبول عبد الناصر مبادرة وزير الخارجية الأميركي، وليم روجرز، في نهايات يوليو/ تموز 1970، فجرى إبعادُه (وغيرِه) من مصر. يروي، في سردٍ شائقٍ، تفاصيل عن تلك المحطّة الشخصية (والعامّة)، ومنها أنه لم يصدّق أن مصر عبد الناصر سوف تذهب في قمع معارضي تلك المبادرة إلى الحدّ الذي عايَشه وشاهدَه، خصوصاً ضد أمثاله من الفلسطينيين القادمين من غزّة. وكتب عن 60 عسكرياً مزوّدين بدروعٍ وهراواتٍ فعلوا ما فعلوا، وأن النظام المصري لم يكن مستعدّاً للتسامح حتى مع 40 طالباً، وأن عبد الناصر لم يتحمّل أية معارضة لسياسته “من غرف بيتِه”، فأمر بإغلاق إذاعتي “صوت فلسطين” و”صوت العاصفة” اللتيْن كانتا تبثّان من القاهرة.
… الجامع بين ما تذكّرناه من مرويّة الكاتب الفلسطيني وما سُمع في ذلك التسريب هو الانفعال الشديد الذي بدا عليه عبد الناصر (ونظامُه) مع الذين استهجنوا (ورفضوا) قبولَه مبادرة الوزير الأميركي في حينه، والتي تقضي بوقفٍ لإطلاق النار بين مصر وإسرائيل ثلاثة أشهر (في غضون حرب الاستنزاف المتقطّعة، القاسية على الطرفين بالمناسبة)، والدخول في مفاوضاتٍ بين الجانبين على تنفيذ قرار مجلس الأمن 242 (كان عبد الناصر قد وافق عليه بعد صدوره في نوفمبر/ تشرين الثاني 1967). وبعيداً عن تمرير إسرائيل موافقتها على الشقّ الأول، وامتناعها عن التفاوض، وبعيداً عن الاجتهاد الوجيه، والصحيح على الأرجح، أن عبد الناصر إنما أراد، بموافقته على المبادرة الأميركية تلك (ماتت بعد شهور)، كسب وقتٍ يُعينه في تمتين قدرات مصر العسكرية، الهجومية والدفاعية، ببناء حائط الصواريخ وتدريب الجيش على طيرانٍ وسلاحٍ سوفييتيين جديديْن، يعنينا من مؤدّى التسريب أن عبد الناصر لم يُفضِ للقذافي باستسلام، أو رغبةٍ في تطبيع، أو تفريطٍ بأرض، أو تنازلٍ عن حقوقٍ مصريةٍ أو فلسطينية، وإنما أدلى بعدم إرادته الحرب، لمعرفته عواقبَها، ودرايته، وهو رئيس البلاد، بشروطِها غير الناجزة لديه، فإذا كان لدى الآخرين، نظامي “البعث” في العراق وسورية، ورئيسي اليمن الجنوبي والجزائر، وياسر عرفات وجورج حبش، فليُحاربوا.
لم يقترف عبد الناصر ما يُخرجه من مربّع الثوار الصناديد إلى دائرة المفرّطين. وإذا استطابت أقلامٌ ومنابرُ ومنصّاتٌ وتلفزاتٌ عربية لا تضيّع وقتاً في إشاعة ثقافة نبذ فكرة المقاومة، وتتفيه أعلامها وحركاتها، وفي التبشير بإسرائيل التي في الوسع أن تكون وديعةً، لو جنحْنا، نحن العرب، إلى مهادنتها، إذا استطابت أن تأخذ الزعيم الراحل إلى “واقعيّتهم”، أصحاب رؤى سديدةٍ في معالجة أمر إسرائيل والصراع معها، فلن ينفع معهم هذا، ليس فقط لأن أجزاء أخرى من دردشته مع القذّافي، وتسريباتٍ أخرى لأحاديث له، لا تأخُذ الرجل إلى الحيّز الذي ابتهجوا به، وهم يكتشفون أن صاحب “ما أُخذ بالقوّة لا يُستردّ إلا بالقوّة” يقيم فيه، وإنما أيضاً لأن هذا الزعيم كان واقعيّاً من قماشةٍ أخرى. لم يكن يريد عداءً مع الولايات المتحدة، هو الذي أراد سلاحاً منها، فامتنعت، فصارت صفقة الأسلحة التشيكية في 1955. وأراد منها مساعدة مصر في تمويل بناء السد العالي فامتنعَت، بل حاربت هذا المشروع، فلبّى السوفييت ما طلبه منهم. وهذا لا يعني، في كل الأحوال، أن نخلع عنه رِداءَه صاحب مشروع تحرّري أممي ذي نزوع استقلالي لبلاده وغيرها في أفريقيا وآسيا.
ليست القصّة أبداً في الموضع الذي ذهبت إليه الزفّة التي ذاعت بعد التسريب المُجتزأ من قعدةٍ قبل 55 عاماً، وأريد منها “تكييف” عبد الناصر في خانة من يسلّمون بمماشاة إسرائيل والقعود عن مواجهتها. إنما القصّة أن حاكماً عربيّاً استثنائيّاً في توطّن شعوره بالزّعامة، لا في بلده فقط، وإنما بين أمّته، لا يجوز لأحدٍ أن يخدش هيبتَه، هو الذي خوّنته مظاهراتٌ في عمّان لأنه قبل مبادرة روجرز، فنعتتْه بما يعفّ ذكرُه هنا، وليس لرئيسٍ أو قائد فصيلٍ في أي بلدٍ عربيٍّ أن “يُزاود” عليه، في أمر الحرب أو غيرِها، ولا يستحقّ طلابٌ فلسطينيون في القاهرة يتطاولون على اجتهاده السياسي غير الطرد، كما الذي نال ربعي المدهون في شبابه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى