
يحتفل العالم اليوم بعيد العمال..أتخذ الاول من أيار عيدا للعمال منذ سنة 1926 ، حين وقعت مجزرة بحق عدد من العمال في أحد مصانع الولايات المتحدة..ومنذ ذلك التاريخ والذكرى تتخذ مناسبة للحديث عن العمال وحقوقهم وظروف عملهم..ومع الوقت إتسع مفهوم الإحتفال ليصبح عيدا للعمال بالمعنى الشامل وأصبح عطلة رسمية في معظم دول العالم يتمتع فيها كل العاملين في كل القطاعات بإجازة خارج إطار الإجازات والأعياد الكبيرة..موظفو المؤسسات الرسمية..موظفو القطاع الخاص..أكانوا عمالا بالمعنى الضيق للكلمة أم عاملين في كل مستويات وأنواع العمل..
إلا أن تبني الماركسية والعقيدة الشيوعية لفهم العامل على إعتباره عامل المصانع ؛ أعطى للمناسبة والإحتفال بها معنى ضيقا يقتصر على ” طبقة ” عمال المصانع تبعا للفهم الطبقي – المادي للصراع الإجتماعي حسب العقيدة الماركسية..
ثم إتسع هذا المضمون قليلا مع الفكر الإشتراكي الذي تبنته الأحزاب الإشتراكية في أوروبا ، ليشمل كل العمال الآخرين من عمال السكك الحديد والمواصلات والنظافة والبريد والخدمات العامة ..لكنه بقي مقتصرا على المستويات الدنيا – ماديا – وتحديدا تلك التي تعتمد على قوة العمل الجسدي ..
وعلى أساس من هذه المحددات لمعنى العمال ، نشأت النقابات المهنية لتكون تنظيما وتعبيرا عن مجموعات محددة ومتجانسة من العمال..ثم نشات إتحادات عمالية عامة ولكنها بقيت مقتصرة على العمال اليدويين والحرفيين دون سائر العاملين في أنواع أخرى من العمل..
وفي مواجهة هذه المضامين ؛ فقد تحايل الرأسماليون على تحديد مضمون العيد والإحتفال به فراحوا يتحدثون عن عيد للعمل وليس للعمال ؛ وذلك لإستبعاد المعنى الطبقي – الإجتماعي للمناسبة تهربا من تحمل تبعات مفاهيمها ذات الطابع ” اليساري ” كما يتصورون..
وفي حقيقة الأمر فإن كلا المفهومين :
الطبقي الماركسي أو الرأسمالي الليبرالي ؛ قد خرجا بالمناسبة وأهلها ومستحقيها من مواقعهم الموضوعية ورموهم في إطار خلفياتهم العقائدية وإرتباطاتهم المصلحية..
وفي حين لا يمكن فصل العامل عن العمل من حيث المضمون والجوهر ؛ لا يمكن أيضا فصل العامل اليدوي – الجسماني عن كل أنواع العاملين الآخرين ..فكل عمل يتطلب جهدا جسمانيا ؛ يدويا أو ذهنيا او الإثنين معا..فالطبيب عامل..والمهندس عامل والموظف الإداري عامل وعامل النظافة عامل ومدير المؤسسة عامل والكاتب عامل والصحفي عامل ورجل الحراسة والأمن عامل والمرأة عاملة حتى لو كان عملها مقتصرا على بيتها.والمعلم عامل والعالم عامل وهكذا…وعلى أساس من هذا الفهم الموضوعي الواقعي للعمل ؛ يصبح لزاما إعادة الإعتبار لفهم أعمق وأشمل للمناسبة بحيث تصبح إحتفالا بالعمل كقيمة إنسانية وضرورة حياتية وطريقا وحيدا للتقدم والتطور والنمو..وفي ذات الوقت إحتفالا بالعاملين – كل من يعمل لينتج – وليس فقط لعمال المصانع ومن شاكلهم من حيث طبيعة عملهم الجسدي واليدوي..
تكمن أهمية هذا الفهم المتكامل الذي يربط العامل بالعمل – أيا تكن طبيعة عمله ما دام عملا واضحا منتجا – في جعل المناسبة إطارا لفتح أبواب التفاعل الإجتماعي بين أبناء المجتمع كافة في كل مستويات عملهم وأنواعه..وهذا يمهد لتعميق التفاعل الإيجابي لتقريب الفوارق بين أبناء المجتمع بمستوياتهم المختلفة..وهذا بدوره شرط لتحقيق تقدم حقيقي في المجتمع وتنمية مهاراته وقدراته وصولا إلى حل مشكلاته المتعددة والمتجددة دائما..الأمر الذي يخفف من حدة تلك الفوارق ويقلل من إمكانيات الصراع بكل أشكاله في المجتمع الواحد..
ومنذ سقوط الأنظمة الشيوعية – الماركسية بإنهيار دولة الإتحاد السوفياتي ؛ فقد تصدر المشهد الحياتي العام ؛ النموذج الرأسمالي وعقيدته الليبرالية الفردية ومضمونه المادي الإستهلاكي ومفاهيمه النفعية الذاتية وتغييبه لأية قيمة آجتماعية إنسانية أو أخلاقية أو إجتماعية.
بحيث أصبح الربح وكسب المال هو الهدف ؛ دون إعتبار لأية قوانين أو قواعد أخلاقية أو إنسانية..وأصبحت المنفعة المادية هي معيار العلاقات بين الناس..وسقطت مصالح المجتمع إنطلاقا من فردية الليبرالية الرأسمالية التي تبيح للفرد مبررات سعيه من أجل المزيد من الربح وكسب المال…
ومما زاد في تفاقم هذا المضمون الفردي النفعي ؛ ظاهرة العولمة التي فتحت المجالات واسعة جدا ؛ لتعميم وتسويق الفهم الرأسمالي للعمل ..وهو للتأكيد :
كسب المال مهما تكن الوسيلة..فالقيمة أصبحت للمال الذي بات هو معيار القوة والنفوذ والفعالية والتأثير..ثم إخترق السياسة فأصبح هدفا جوهريا في صلبها..
المال هو الهدف وهو القيمة وهو المعيار..
وعلى هذا الأساس تكدست ثروات ضخمة نتجت من أعمال غير نظيفة ، غير شرعية ، غير أخلاقية وغير إنسانية..أي أنها لم تكن ناتج عمل أيا كان نوعه : جسديا او يدويا أو ذهنيا أو حركيا في إطاره الواضح الشرعي المقبول…
وهكذا إزدهرت تجارات المخدرات والدعارة وتبييض الأموال والنهب الإستعماري والإستغلال والغش والتزوير وما شابهها..
وكان من نتائج هذا أن تراجعت قيمة العمل كثيرا لترتفع بديلا عنها قيمة المال..وإخترق المال كل شيء فأصبح صاحب السيادة والسعادة والريادة…وإذا ما إستمرت وتيرة تسويق وغزو العولمة وما تحمله من مفاهيم مقلوبة ؛ فإنها تهدد تماسك وقيم كل المجتمعات الإنسانية لتؤدي إلى تفكيكها أولا وصولا إلى تفكيك الإنسان ذاته وتحويله إلى كائن غريزي فردي عدواني لاهث وراء الكسب المالي بأية وسيلة دون إعتبار للمجتمع ولا لقيم الأخلاق والتكافل والتعاون والمحبة..كما أدت إلى تراكم ثروات فاحشة جدا في أيدي عدد محدود جدا من الأفراد وتراكم الفقر في حياة مئات الملايين من البشر وهو ما يشكل إختلالا كارثيا تدفع الإنسانية أثمانا باهظة له ويتسبب بالكثير من المشكلات والتطرف والأحقاد وغياب أي نوع من العدل..
أدى هذا الإنحراف القيمي لمفهوم العمل ومضمونه إلى إفقاد المناسبة مضمونها الإيجابي ومعناها الإنساني – الإجتماعي القويم والمفيد لتصبح مجرد يوم إجازة من العمل ..
إن إعادة الإعتبار للعمل كقيمة وكمعيار وكإطار مركزي للنمو والتقدم ؛ تتطلب مواجهة هيمنة العولمة وبيان خطورة مفاهيمها وتهافت أساليبها..وهذا يحتاج إلى جهود إنسانية حضارية عامة تستهدف وضع أسس نظام عالمي ثقافي – فكري – أخلاقي جديد..نظام عالمي ينقذ الحضارة الإنسانية من براثن الوحش الرأسمالي المفترس..
# إن أنماطا أخرى من العمل والكسب المادي ترعرعت في ظلال التقدم التكنولوجي وعلومه ومتطلباته ؛ تحتاج إلى حديث آخر #