
لا يمكن تجاهل، وإخفاء حقيقة، أن المنطق الذي تتمسك به الدولة اللبنانية راهنا، في المرحلة الحالية، ضعيف ومحرج وغير متماسك. خصوصا بعد إبرام التفاهم على وقف النار مع إسرائيل برعاية أمريكية وفرنسية، والذي لا يبدو حتى الآن، انه قد أمن متطلبات لبنان وأنه قابل للحياة والاستمرار، على هذا النحو الذي نتابعه ونعيشه.
السبب واضح، وبكل بساطة، أن هذا الاتفاق لم يردع إسرائيل، ولم يجلب الأمان للبنان. بل يظهر أن هذا الاتفاق برعاية وإشراف أمريكا وفرنسا، يعطي إسرائيل المجال واسعا لكي تقتل وتضرب وتقصف ساعة تريد، ومن دون أية معادلة أو صيغة مضمونة للتهدئة ولتامين وقف النار أو للردع والتوقف عند حدود محددة وواضحة.
هذه النتيجة المربكة والضبابية، المحيطة بالاتفاق الأخير الساري المفعول، والذي سمح لإسرائيل بالبقاء على راس خمس تلال جنوبية، ضعيف جدا، ولا يبدو انه سيستمر أو ستستمر الأوضاع كما هي عليه راهنا.
السبب في كل ذلك أن الدولة اللبنانية، غير قادرة على التأثير على القوى الغربية الداعمة لها، والتي أشرفت على الاتفاق وضمنته. بدليل ما يجري كل يوم من إطلاق يد إسرائيل، في استمرار حربها على حزب الله، بشكل خاص ولبنان بشكل عام.
في المقابل، فان تراجع وظهور ضعف مقاربة ومنطق الدولة اللبنانية، يقابله تقدم وتبلور منطق مقابل تحمله، ما تسمى بالمقاومة وحزب الله، الذي يقول أن القوى الدولية عاجزة، عن ردع إسرائيل وإيقافها عند حدها.
والواقع أن منطق المقاومة المسلحة في لبنان، في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، سبق أن سجلت أشواطا كبيرة واختبارات متقدمة من النجاح والتفوق.
وقد كانت تجربة الغزو والاحتلال الإسرائيلي للبنان، عام 1978 خير دليل. إذ أعلن المجتمع الدولي يومها بوجه إسرائيل القرار الدولي 425، والذي طالبها، باعتبارها قوة محتلة، بالانسحاب فورا من جنوب لبنان، ونشر قوات الطوارئ الدولية فيه.
المفارقة الدالة والمؤثرة، أن الشرعية الدولية، عجزت عن تنفيذ القرار المذكور وتحقيق الانسحاب طوال 22 سنة امتدت من 1978 حتى عام 2000، وهو العام الذي نجحت فيه المقاومة الوطنية اللبنانية بقيادة حزب الله، على إجبار إسرائيل على الانسحاب من ارض عربية محتلة، ولأول مرة بقوة المقاومة المسلحة غير الرسمية. فقد سبق للجيوش العربية أن حررت الأرض المحتلة في تجربة حرب تشرين في العام 1973 حين اقتحمت مصر وأزالت وأسقطت خط برليف في سيناء، واسترجعت سوريا مرتفعات الجولان لبضع ساعات.
معنى الحديث أن التجربة دلت أن استرجاع الأرض وارد، وممكن مع إسرائيل عن طريق القوة. في المقابل فهو صعب ومتعثر، ويكاد يكون مستحيلا ومكلفا بشكل كبير عن طريق التفاهمات واتفاقيات السلام.
الذي جرى بعد العام 2000 وإنجاز التحرير المبهر والفريد، والذي حقق فيه حزب الله خطوة متقدمة على المستوى السياسي والعسكري والوطني. لم يصمد كثيرا، بل سرعان ما تبخر مفعوله حينما ارتد حزب الله بعد انتصاره على إسرائيل إلى الداخل اللبناني، لاستخدام السلاح ووهج الانتصار في تحقيق الغلبة الداخلية، على باقي الأطراف في لبنان. إن عبر الضغط لمناصرة التمديد لإميل لحود ومن ثم اغتيال رفيق الحريري، واستخدام القوة المسلحة او التهديد بها، لإسقاط الحكومات وتغيير المعادلات، عبر الاعتصامات والعراضات المسلحة في وسط العاصمة، أو عبر غزوة السابع من أيار التي وصفت بالمجيدة.
لم يقف الأمر عند هذه الحدود، في استخدام وهج السلاح وفائض القوة المسلحة المتسلطة، التي حررت الأرض المحتلة، بل انتقلت مقاومة حزب الله بما تمثله من مكون اجتماعي مذهبي، إلى المشاركة في التدخل في شؤون إقليمية لا تعنيها وتتجاوز الحدود والمصالح الوطنية اللبنانية، عبر لعب دور في زعزعة المجتمعات العربية والتأثير على تركيبتها.
وقد كانت مشاركة حزب الله في النزاع العسكري السوري، بمثابة الفخ الاعمق والأكبر، وذروة التدخل المسلح المشؤوم في شؤون الدول والمجتمعات العربية المحيطة، بشكل سافر وغير مسبوق أو متوقع. بعدها انتقلت هذه الفرقة المسلحة من سوريا إلى العراق، فدول الخليج، فالنزاع في اليمن انطلاقا من لبنان، الذي تحول إلى منصة إيرانية عائمة على ضفة المتوسط، لتصدير المخدرات والعملات المزورة، والخبرات القتالية، لتهديد الدول والمجتمعات العربية واللعب والتأثير على استقرارها، بدفع من نظرية ولاية الفقيه العابرة للحدود، ما نزع صفة المقاومة عن سلاح حزب الله، وحوله قوة غاشمة متدخلة في شؤون الأخرين، ما سمحت وساهمت ببناء جدار عازل وسميك، بين الحزب، وبين قطاعات واسعة من الراي العام اللبناني والعربي.
صحيح أن مقاومة حزب الله قد حررت الأرض عام 2000، من الاحتلال الإسرائيلي، لكن الصحيح في المقابل أن حزب الله قد أنفق وأهدر وبدد كامل رصيده الذي جناه في التحرير، نتيجة انزلاقه وتورطه في الغزوات اللبنانية المجيدة والتهديد بها، وتعطيل الدولة عن طريق القوة المسلحة القمعية الإرغامية، وعن طريق عراضات قمصانه السود، واشتراكه في الحروب الأهلية العربية، بدفع واستخدام مفرط ومبالغ فيه من قبل إيران ونظام آل الأسد، بحجج واهية ومختلقة وغير مبررة.
في العام 2006 تمكن حزب الله، في منع إسرائيل من تحقيق انتصار، على لبنان. مع انه كان هو المبادر والمتسبب بالحرب عبر اختطاف جنود العدو، من دون مبرر مقنع وكاف خدمة لأهداف إيرانية تفاوضية. لكنه سقط في العام 2023 في لجة الخطوات المتسرعة والمتعجلة الكثيرة، حين ادخل بلده حربا مدمرة فتاكة وغير متكافئة أو مدروسة أو محسوبة، ما جعل لبنان وبيئته ومجتمعه تحت قبضة تسلط العدو الغاشم والمذل، أما سلاحه “الرادع” فتحول كلاميا وإعلاميا وظاهريا.
وهكذا وبسبب الغرور المنفوخ والمضخم والمبالغ فيه، والتجبر المتصاعد والفارغ، والمصالح الإقليمية، تحول سلاح المقاومة سلاحا لتخويف وتهديد الداخل اللبناني، وآفة مدمرة والى لزوم ما لا يلزم.
المصدر: المدن