في تشخيص رأسمال الجزائر العلمي والتكنولوجي

سيف الدين قداش

يشكل رأس المال العلمي والتكنولوجي عنصراً محورياً في قدرة الدول على تحقيق التنمية المستدامة والتموقع الاستراتيجي داخل النظام الدولي وإنتاج القوة المعرفية، فلم يعد الأمر مقتصراً على البنية التحتية الأكاديمية أو عدد الباحثين فحسب، بل على قدرة المنظومة العلمية أيضاً على إنتاج معرفة متقدّمة تتحوّل إلى أدوات فعالة في الاقتصاد، والأمن، والخدمات العامة. وفي الجزائر، يتجلى بوضوح غياب تقييم دقيق لقدرات (أو رأسمال) الحقل العلمي والتكنولوجي والمجالات التي يتمكّن منها الجزائريون، والتي لم يتمكّنوا منها بعد، وما هو برنامج تحقيق الأهداف في الجانبَين، حسب النقص أو الطموح، إذ لا تعكس المؤشّرات الكمّية بوضوح فعالية تحويل المعرفة إلى مشاريع ملموسة، لذلك من الضروري بناء أدوات تقييم نوعي لتحديد موقعنا في ميادين المعارف العامة والمتقدمة، مع التركيز على مجالات الإبداع والابتكار، وتحديد الاختلالات المؤسّساتية التي تعيق تحقيق أثر علمي فعّال، فترقية رأس المال العلمي والتكنولوجي تتطلب تحديد الاختلالات الهيكلية على مستويات التمويل والحوكمة، بالإضافة إلى ضرورة بناء استراتيجية وطنية واضحة تُعطي الأولوية للميادين ذات الأثر السيادي، وتربط مخرجات البحث العلمي بالأهداف الوطنية الكبرى في مجالات الصناعة والأمن التكنولوجي والسياسات الاقتصادية، الغذائية، الصحية والبيئية.

يعدّ رأس المال العلمي والتكنولوجي من أبرز الموارد التي تؤثر مباشرةً في قدرة الدول على تحقيق التنمية المستدامة، إذ يمثل مجموعة من المعارف والخبرات والمهارات والتقنيات التي تُستثمَر وتوظّف في ميادين البحث والتطوير والابتكار لتحسين الأداءَين؛ الاقتصادي والاجتماعي، بحيث يُعتبر رأس المال العلمي والتكنولوجي عنصراً محورياً في بناء القوة المعرفية والاقتصادية الوطنية، وتعزيز السيادة التكنولوجية في مختلف المجالات الحيوية، وقد سعت الجزائر منذ استقلالها إلى بناء قاعدة علمية وتكنولوجية معاصرة، إذ جرى توفير هياكل أكاديمية وبحثية عديدة، وتأهيل العنصر البشري، بُغية تعزيز القدرات المعرفية في مختلف التخصّصات. ومع ذلك، ورغم الجهود المبذولة على مدار السنوات، كانت الجزائر تُركّز في عديد من مراحلها على الجوانب النظرية التقليدية، من دون تحويل المعرفة إلى تطبيقات عملية تُسهم مباشرة في تحسين الواقعَين، الاقتصادي والاجتماعي، وهو التوجّه الذي كان، إلى حد كبير، نتيجة النموذج الاشتراكي الذي تبنّته البلاد بعد الاستقلال، إذ جرى تحويل عملية إنتاج المعرفة إلى عملية جمعوية أو مجتمعية غير ربحية، وغير مدروسة وبدون حاضنة تنفيذية، وهو التصوّر الذي ألقى بظلاله على مجالات البحث العلمي، إذ لم يكن يحقق الفائدة العملية المرجوة منه، بل كان يقتصر على الأنشطة الأكاديمية التي تفتقر إلى التفاعل مع الاقتصاد الوطني، كما أن غياب القطاع الخاص (أو بدائيّته مقارنة بالتحولات العالمية) في المشهد العلمي والتكنولوجي في الجزائر كان له تأثيرات عميقة في تقليص القدرة على استثمار وتوظيف البحث العلمي في تطوير الصناعات الاستراتيجية، فعدم وجود روح المبادرة الخاصة والتنافسية داخل القطاع العام، وعدم وجود محفزات تُشجع على الاستثمارات الخاصة في مجالات البحث والتطوير، كانت من العوامل التي أسهمت في كبح الاستثمار العلمي الخلاق، ففي ظل غياب بيئة حاضنة للابتكار، تعذر الاستفادة من الكثير من الأبحاث والابتكارات التي كانت تنتجها المؤسسات الأكاديمية.

رأس المال العلمي والتكنولوجي لم يكن يُنظر إليه بوصفه أداةً فاعلةً في بناء القوة الاقتصادية والاجتماعية، بل كان يُستغل على نحوٍ محدود

إضافة إلى ذلك، غابت المخططات الاستراتيجية المعمقة التي تستند إلى رؤيةٍ شاملةٍ لبناء “مشروع دولة مستدام (Sustainable State Project)، إذ كانت تلك المخطّطات تتطلب تحديد الأولويات في المجالات الحيوية التي تتعلق بالأمن القومي، مثل الصناعات الاستراتيجية والعسكرية، والابتكارات التكنولوجية المتقدّمة في مجالات الصحة والفلاحة، وغيرها من قطاعاتٍ تُعتبر أساسية لضمان استقلالية الجزائر في مواجهة التحديات العالمية، كما أن هذه المجالات، التي تتطلب استثمارات ضخمة في البحث العلمي والتطوير، ظلت فترات طويلة في هامش الاهتمام الحكومي، ما أثر على قدرة الجزائر في مواجهة التحدّيات التكنولوجية والاقتصادية في العصر الحديث.

وتتمثل المشكلة الرئيسية هنا في أن رأس المال العلمي والتكنولوجي الذي لم يكن يُنظر إليه بوصفه أداةً فاعلةً في بناء القوة الاقتصادية والاجتماعية، بل كان يُستغل على نحوٍ محدود، وكانت الموارد المخصصة للبحث العلمي أقلّ بكثير من المستوى المطلوب، كما كانت السياسات المعتمدة في هذا المجال تتسم بالارتجالية وعدم التنسيق بين مختلف المؤسّسات الحكومية والأكاديمية. ومن ثم، كان هناك عجز واضح في تحويل نتائج الأبحاث إلى حلول عملية تعود بالفائدة على القطاعات الحيوية، سواءً في مجال الصناعة، أو الصحة، أو الفلاحة، أو الصناعات المتقدّمة.

إزاء هذا الواقع، أصبح من الضروري إعادة النظر في استراتيجيات تطوير رأس المال العلمي والتكنولوجي في الجزائر، بما يضمن توجيه الموارد نحو تطوير مجالات علمية وتكنولوجية متقدّمة تواكب التحدّيات المعاصرة، وتحديد الفوارق الزمنية بين بحوث الجزائريين ومستويات العالم، وضبط أجندات تقدّمية للمنافسة في مجال البحث العلمي، مع تشجيع البحث الجاد والفعال ومراجعة جدوى مراكز البحث الحالية وتقيم وجودها وأدائها.

يجب العمل على إنشاء بيئة قانونية وتنظيمية محفّزة تشجّع القطاع الخاص على المشاركة الفاعلة في مشاريع البحث العلمي والتطوير

كما ينبغي أن تقوم هذه الاستراتيجيات على أسس من التنسيق بين القطاعَين؛ العام والخاص، مع التركيز على تعزيز الاستثمار في القطاعات الحيوية التي تتطلب استثماراتٍ طويلة الأجل في البحث والتطوير، مثل تكنولوجيا المعلومات، والطاقات المتجدّدة، والذكاء الاصطناعي، فمن الضروري استحداث آليات مرنة تدعم البحوث الاستراتيجية في مجالات مثل الحواسيب الكمومية أو الحوسبة الكمومية (Quantum Computing)، وهي تقنية رصد لها الرئيس الأميركي دونالد ترامب استثماراً قدره مليار دولار في عام 2018، ومن شأن هذا الاستثمار أن يعزّز تقدّم الأبحاث في هذا المجال الحيوي، الذي يُتوقع أن يكون له تأثير كبير في مجالات استراتيجية عدّة، منها الأمن السيبراني، والذكاء الاصطناعي، والطب، وعديد من الصناعات المتقدمة.

وفي إطار هذا السياق، يجب العمل على إنشاء بيئة قانونية وتنظيمية محفّزة تشجّع القطاع الخاص على المشاركة الفاعلة في مشاريع البحث العلمي والتطوير، عبر تسهيل الشراكات بين المؤسسات الأكاديمية والصناعية وتجسيدها على نحوٍ متسارع وفعال، وتوفير حوافز مالية وتشريعية لتشجيع الاستثمار في الابتكار التكنولوجي، كما أن الاستثمار في رأس المال العلمي والتكنولوجي يجب أن يكون جزءاً من خطّة شاملة من النموذج الاقتصادي الكلي الجاذب لتطوير اقتصاد المعرفة والصناعات المتقدمة، بحيث تستهدف بناء القدرة التنافسية للجزائر على الصعيدَين؛ الإقليمي والدولي، ولتحقيق هذا، يجب أن تُبنى استراتيجية وطنية تعتمد على تحديد الأولويات الوطنية في القطاعات الحيوية، وربط مخرجات البحث العلمي بالتحديات الوطنية الكبرى، بما في ذلك الأمن القومي (الاقتصادي، والأمني والتكنولوجي، والغذائي… )، والاقتصاد المستدام، والسياسات الفلاحية، والصحية والاجتماعية.

المصدر: العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى