في البحث عن مخارج لكارثة غزّة

أسامة أبو ارشيد

ما يجري في قطاع غزّة من جرائم وحرب إبادة إسرائيلية كارثيّ، وتعجز الكلمات عن وصفه. أيضاً، ما يُخطَّط للقطاع المنكوب وأهله لا يقلّ خطورةً، خصوصاً مع تمسّك الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بهوسه بترحيل مئات آلاف من الغزّيين من أرضهم، وتشبّث إسرائيل بفكرة التطهير العرقي والعمل على تنفيذها عبر تصعيد جرائمها بحقّ المدنيين هناك، ودعوتهم إلى الرحيل “طوعاً” عبر الأراضي والموانئ والأجواء التي تسيطر عليها. إلى أين؟… لا يهمّ إسرائيلياً، فالمطلوب إعلان الرغبة في الرحيل فحسب، ولو انتهى الأمر بالمُهجَّرين غرقى في قاع البحر. في الضفة الأخرى، يراوح العالم العربي والإسلامي في مربّع السلبية وانعدام الوزن والقيمة والتأثير، بعيداً من المنّ الذي يطبع خطاب بعضهم، رغم أنه يندرج في باب “وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا”، في حين أن بعضاً آخر منهم متواطئٌ وشريكٌ في الجريمة الإسرائيلية الأميركية بحقّ الشعب الفلسطيني. أمام هذا العجز، وعظم الكارثة العصيِّة على التوصيف، تتعالى أصواتُ كثيرين، مشفقين ومزاودين ومُتشفّين، يطالبون المقاومة الفلسطينية، وتحديداً حركة حماس، بالقبول بالشروط الإسرائيلية الأميركية، والخروج طوعاً من قطاع غزّة، وتسليم ما تبقّى من سلاح لديهم، وإعلان الاستسلام، ونقل ملفّ المفاوضات إلى القيادة الفلسطينية الرسمية أو إلى أطراف عربية. حتى بعض الغزّيين من ضحايا الإجرام الإسرائيلي بدأوا يجاهرون بهذا الموقف، والغالب الأعظم منهم ينطلقون من هول مأساتهم، من دون أن نُغفل أن ثمّة بينهم من تُحرّكهم حسابات فصائلية وسياسية رخيصة. أيضاً، ثمّة أصوات كثيرة اليوم، فلسطينية وعربية على السواء، مشفقة ومزاودة ومُتشفّية، تحمّل “حماس” (تحديداً) مسؤولية الإجرام الإسرائيلي على خلفية عملية طوفان الأقصى، في 7 أكتوبر (2023).

التوصيف السابق (على قتامته) واقعٌ لا يمكن إنكاره، وهو انعكاس لمستوى (وحجم) التعقيد الذي نحن بصدده في قطاع غزّة. وبغضّ النظر عن الاختلاف القائم في مقاربة “طوفان الأقصى” وتقويمه، بين من يعدّه انتصاراً مؤزّراً للمقاومة الفلسطينية سيكون له ما بعده، وآخرون يرون فيه فعلاً أرعن لم يأخذ في اعتباراته التداعيات الاستراتيجية والكارثية على الغزّيين، وعلى القضية الفلسطينية بشكل عام، فإن الواقع الذي أنتجته هو الواقع الذي ينبغي تقديم إجاباتٍ عنه. ومن ثمَّ، فإن إصرار بعضهم على محاكمة “طوفان الأقصى” بأثر رجعي، في خضمّ حرب إبادةٍ تشنّها إسرائيل في قطاع غزّة، ومساعٍ أميركية جادّة لتهجير سكّانه، نوعٌ من الرعونة والغباء. ما جرى جرى… هذا لا يعني أن المسألة فوق المراجعة، أو ينبغي تجاوزها. أبداً، إنما ليس في خضمّ تدمير إسرائيل قطاع غزّة والفتك بأهله والسعي إلى تهجيرهم، في الوقت ذاته الذي تمضي فيه بترسيخ نكبة جديدة في الضفة الغربية. المطلوب التصدّي للعدوان الإسرائيلي والمخطّطات الأميركية، وبعد ذلك يكون أمر آخر في تقييم ما جرى في “7 أكتوبر”، وتحديد المسؤوليات واستخلاص العبر والدروس.

الشعب الفلسطيني هو محلّ الاعتداء منذ أكثر من قرن من الزمان. وبالتالي، ليس لإسرائيل أصلاً حقّ في الانتقام

في هذا السياق، كلّ من يحسب أن إسرائيل ستوقف عدوانها على قطاع غزّة أو تتنازل عن أطماع السيطرة عليه وتهجير سكّانه، في حال استسلام “حماس” والمقاومة الفلسطينية، فهو واهم. في اللحظة التي ستنكسر فيها المقاومة الفلسطينية عسكرياً بشكل تامّ، وتفقد من بين يديها ورقة الأسرى من دون صفقة تنهي العدوان كلّياً ستبدأ عمليات إعادة تشكيل قطاع غزّة إسرائيلياً، وضمّ معظم أراضي الضفة الغربية كذلك. إذا انتصرت إسرائيل بالضربة القاضية فلماذا لا تجني حصاد مشاريعها الخبيثة؟ أم يا ترى هل ثمّة من يصدّق بيننا أن إسرائيل تفعل ما تفعله في غزّة والضفة انتقاماً من “طوفان الأقصى”؟… ثمّة فارق بين ردّ الصاع صاعَين أو أكثر، وبين اتخاذ “طوفان الأقصى” ذريعةً لتنفيذ أجندة قائمة سلفاً للتخلّص من الفلسطينيين كلّهم. ولا نريد أن ننسى هنا في فورة الغضب (أو التغاضب) أن الشعب الفلسطيني هو محلّ الاعتداء منذ أكثر من قرم، لا العكس. وبالتالي، ليس لإسرائيل أصلاً حقّ في الانتقام.

على أيّ حال (وكما تقدّم القول)، الواقع هو الواقع. هناك كارثة تحتاج حلّاً جذرياً وَخَلّاقاً في قطاع غزّة، وكل من يزعم امتلاك إجابة شافية أو تصوّرٍ وافٍ لتحقيق ذلك فهو واهِمٌ، أو أنه يتعمد التوهّم. الذين يدعون إلى “تسليم” القطاع إلى القيادة الفلسطينية الرسمية، وتولّيها ملفّ المفاوضات مع إسرائيل، يغفلون عامدين أن تاريخ ومسار هذه القيادة يثبتان أنها ليست أهلاً لمثل هذه المهمة الشاقّة والمفصلية. الحديث هنا عن المُشفقين من أصحاب هذا الرأي، وليس المزاودين والمُتشفّين. يتحدّث هؤلاء وكأنّ هذه القيادة لم تثبت فشلاً ذريعاً في خضمّ العدوان على شعبها في قطاع غزّة (بل وتواطؤاً كذلك؟). يدعون إلى الثقة بتلك القيادة رغم أنها مسؤولة، أو شريكة في المسؤولية، عما وصل إليه الحال الفلسطيني اليوم. هي القيادة ذاتها التي ورّطت الشعب الفلسطيني في اتفاق أوسلو (1993) من دون تفويض وطني. ومن ثمّ، إذا كان “طوفان الأقصى” جريمةً لأنه تمّ من دون تفويض وطني، فإن الحكم نفسه ينسحب على “أوسلو”، والاتفاقات الأخرى كلّها مع إسرائيل. وهي القيادة نفسها التي أفشلت مساعي رأب صدع الانقسام الفلسطيني، وما زالت ترفض تجديد دماء الأطر المؤسّسية الفلسطينية وشرعيّتها. أيضاً، يتناسى أصحاب هذا الرأي أن القيادة الرسمية متورّطة في “التنسيق الأمني” مع إسرائيل. كما أن تهويد الضفة وتشريد سكّانها يتمّان على قدم وساق تحت ناظرَيها من دون أن تقوم بأيّ نوع من الردّ. هذه قيادة صغيرة وغير مفوّضة وغير مستأمنة وطنياً. دع عنك (وهذه من المفارقات) أن إسرائيل لا تعدّها شريكاً، ولا تقبل بوجودها في غزّة، وتدعو إلى تفكيكها في الضفة الغربية، في حين تحتفي بـ”تنسيقها” الأمني معها.

المطلوب الآن هو التصدّي للعدوان الإسرائيلي والمخطّطات الأميركية، ثمّ يأتي تقييم ما جرى في “7 أكتوبر

هل يعني هذا ألا نحاول التفكير في حلول ومخارجَ محتملة؟… على العكس، بل نحن مطالبون بذلك. ولكن، مرّة أخرى، ينبغي أن ندرك أننا لا نملك أوراق القوة، خصوصاً بعد الضربات القاصمة التي تلقّاها بعض أضلاع “محور المقاومة”، وتحديداً في لبنان وإيران. وما دام المجتمع الدولي، بما فيه العالم العربي والإسلامي، قد خذل قطاع غزّة، والفلسطينيين عموماً، وما دامت الولايات المتحدة تقف بشكل صارم مع إسرائيل، فإن الخيارات المتاحة قليلة، اللهم إلا أن يكون هناك إزاحات جيوسياسية أو تحوّلات في موازين القوى الإقليمية والعالمية، ولا يبدو أيّ من ذلك محتملاً راهناً. ربّما يكون أحد الخيارات التوافق فلسطينياً على إطارٍ من شخصيات وطنية، مؤهلة ومفوضة بمتابعة شؤون قطاع غزّة فقط، والتواصل مع عدد من الأطراف العربية والإسلامية والدولية الفاعلة لمحاولة تطوير مشروع وقف إطلاق نار دائم. يتطلّب هذا طبعاً موافقة كلّ من قيادة السلطة الفلسطينية وحركة حماس. على الأرجح، إن لم يكن من المحسوم أن قيادة السلطة لن تقبل بذلك، حتى ولو كانت جزءاً من هذا الإطار، بذريعة “وحدانية التمثيل” التي تزعمها من دون شرعية شعبية ولا وطنية، حينها يمكن التوافق على ذلك الإطار الوطني المؤهّل والمفوّض فلسطينياً، من دون السلطة، ويكون عمله محصوراً في قطاع غزّة، ليقوم بمهمة التواصل مع أطراف عربية وإسلامية ودولية عدّة، كقطر والسعودية ومصر والأردن والاتحاد الأوروبي، وربّما أميركا نفسها، في محاولة لتطوير مشروع وقف إطلاق نار دائم، بالتشاور مع الفصائل الفلسطينية الفاعلة، التي تملك حضوراً حقيقياً.

سيقول كثيرون إن هذا خيار غير واقعي، وقد يكون كذلك، ولكن من كانت لديه فكرة عملية وأفضل فليقدّمها، فكلّنا نبحث عنها. أمّا الانتظار من دون أفق أو الركون إلى أوهام، التي قد يكون من بينها ما يطرحه كاتب هذه السطور، فلن يقودنا إلا إلى كارثة أكبر من تلك التي نحن فيها الآن.

المصدر: العربي الجديدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى