
تتشكل السلطة الحاكمة عبر تكون نخبة فاعلة وتبَوُئِها مهمة إدارة البلاد وفق سند شرعي عبر احتكار القوة والسلطة، وتستمد القوة من قبول الجميع نظريا بها إذ تمثل طرفا يتعالى على اختلاف الجماعات وصراعاتها، كما يتعالى على تنافس الأفراد أيضا حيث يضبطها عبر المسافة المتساوية من الجميع.
تلك السلطة والقوة هي محصلة تنازل الجميع عن جزء من حرياتهم لصالح قوة أو طرف ثالث؛ يحاول تمثيل الجميع، ويضبطهم، ويحتكمون لديه مرتكزا على احتكار العنف المقونن، وهو شكل متطور من حيث المبدأ عن نظام القبيلة والمشيخة منذ بدايات ظهورها؛ عبر فرق جذري في الدولة الحديثة هو انتفاء التوريث.
حول بلدان المشرق العربي والكولونيالي عموما؛ يقول المفكر حمزة علوي إن الدولة في المشرق لم تتشكل نتيجة لسعي نخب أو قوى اجتماعية واقتصادية وسياسية لتشكيلها كما في الغرب؛ بل جاءت لتكون هياكل سياسية تستجيب لحاجة الدول التي استعمرتها بعد الجلاء.
قبالة ذلك نتخذ من رسالة مثقف حداثي وطني صار رئيسا لتونس في المرحلة الانتقالية بعد ثورتها؛ د. منصف المرزوقي عبر رسالته إلى ثوار سوريا؛ بالتنبه لملفات مربكة ستستخدمها جموع شعبية -دون تصنيف معياري لوطنيتها- تصل حد التخمة والإرباك في مطالبات قديمة ومشكلات عمرها سنين وعقود؛ للمطالبة بإيجاد حل لها من سلطة لا تمتلك رصيدا مؤسسيا، اقتصاديا، سياسيا للنهوض بدولة منهكة بإرث الحرب الثقيل بوقت قصير.
ما من شك في أن التدافع والتنافس حالة صحية في الدولة المستقرة؛ مادامت تأخذ شكلا مدنيا بعيدا عن التحشيد خلف مرجعيات ما قبل دولتية.
من الناجع للمواءمة بين الرأيين هنا أن نتلمس الفرق بين الدولة المنشودة- الدولة المثال؛ وبين واقعها الجنيني قيد التشكل والمتمحور حول أولويات بسط الأمن والخروج من عنق الزجاجة الذي يطول الدولة عبر الحصار الاقتصادي المطبق حتى الآن، في حين أن الكثير ذهب إلى تصورها النهائي كإطار عمومي تلتئم فيه الجماعات والأفراد وفق عقد اجتماعي أو سياسي؛ وأوقعها وفقا لتخيل الكثير في تصور أنها منتهى حلم الجميع لإنجازه بعيدا عن التدرج في الارتقاء به؛ متجاوزا حاجتها إلى مسيرة عمل دؤوب وطويل، وضرورة التكاتف حول محاور الأمن والاقتصاد والعدالة الانتقالية، ومعالجة ملف المتنفعين من عهد الأسد الهارب من مفسدين على اختلاف مشاربهم، وشركاء، ومن بيئات اجتماعية دجنها وأشعرها بقيمة التحالف معه في استخدام أداتي وظيفي لا يقيم لها وأدا، وتخندق داخلي، وتنميط للجماعات البشرية في المجتمع، وتفتيت وتنابذ لعب عليه النظام البائد.
إن المثالية السياسية، والتأطير المانوي، والقراءات الثقافوية التي يخضع لها الكثير من مثقفينا؛ أصبحت عبئا على الشعب وليس على السلطة، وشكلت عاملا مؤثرا على رفع الحظر الدولي أيضا.
ما من شك في أن التدافع والتنافس حالة صحية في الدولة المستقرة؛ ما دامت تأخذ شكلا مدنيا بعيدا عن التحشيد خلف مرجعيات ما قبل دولتية، تماما كما هو تباين المواقف تجاه الدولة وقوانينها أو سياساتها في أي بلاد، لكن حزمة المساعي المتخالفة والنزوع الحثيث لإظهار التناقضات مع السلطة؛ سواء لجهة شكل الدولة النهائي المأمول أو المتخيل؛ أو لجهة الإلحاح في تأمين خدمات التي تحتاج إلى تعاون هذه النخب، أوقع الكثير في مواقف تتباعد كثيرا عن الدولة في شكلها الأولي المؤسس الذي يراد تشييده الآن. يشهد الشارع السوري حراك جماعات ونخب حديثة التشكل ذات أهداف نبيلة وفق ما يظهر لنا؛ اختلطت أو اتفقت أيديولوجيا أو تقاطعت مع نزوع أفراد، وجماعات متفرقة، لأهداف انتهازية تقيس الوطن بجملة الامتيازات التي يمكن الحصول عليها منه، كما أن هناك جزءا غير مشخص بكتلة أو جماعة يحاول الانتشار توسيع جمهوره؛ مكون من أفراد مختلفين فكريا وثقافيا، متنوعي الرؤى والأفكار والمشارب؛ لا نبالغ إن قلنا إنه قد يمثل نصف المجتمع – إذا ما أخذنا بالاعتبار جملة من البسطاء والعامة الذين يفتقدون لوعي المرحلة سياسيا؛ ما يدفع بشعور الفرد من هؤلاء بفصام أو انفصال عن الدولة بشكلها المشهود حاليا؛ وأنها ليست معبرة عنه، ويرفض هذي السلطة الجديدة لدرجة إنكار الدولة بشكلها الأولي الحاضر؛ نتيجة لموقف أيديولوجي معها، أو لأنها تخالف ما حلم أن السلطة وجدت لأجله؛ أو عجزت أن تبني له الدولة الحلم الواجب والمرغوب واللائق بمجتمع حي كالشعب السوري بغضون بضعة أشهر، كما ذهب الكثير من جموع المكوعين من أنصار الأسد إلى العويل على الدولة التي تبدو وكأنها كانت عامرة وأسقطتها السلطة الجديدة، فصار يختزل السلطة بتنظيم إسلامي؛ كلا الموقفين تشاركا في تفتيت جبهة الشارع المندمج أو الراغب بالاندماج رغم الصعوبات والمستقبل الغائم الذي يتهدد سوريا ككيان سياسي يضم الجميع، وراح يصور الدولة كسياج عام يضم مجموعة كبيرة من البشر؛ أو إطار تتشارك قواه في حركته الموّارة، لتنتج كتلته الوازنة؛ فنزع للبحث عن ذراع قوة ليضطلع بحصة من كعكة الدولة، وامتزجت مواقف جموع هذا الطرف مع تلك المثالية المتسرعة؛ لتزيح فعل البناء المدني ذي الأثر اليومي بحياة السوريين، إلى نمط حراك سياسي انتهازي أو عاطفي ومراهق في بعض منه، وتلعب دورا في إرباكه؛ عبر فعل التدافع بين الأفراد والجماعات وتعمل على تشظيته. تظهر هنا معضلة مركبة إذا ما بقيت مسكونة بحمى الاستعجال والتسرع والقفز على الأولويات من أمن ومتطلبات معيشة وأمان وخدمات في مدن تغفو على أنقاضها وركامها، وتغيب فيها المبادرات الشعبية التي يجب أن يتبناها كل مجتهد؛ المختار في الحي، والوجيه في الشارع والقرية، والمثقف من برجه أو منبره، للتصالح مع اللحظة، وواقعها المأسوي لتجاوز قوى العطالة التي تضمرها.
إن المثالية السياسية، والتأطير المانوي، والقراءات الثقافوية التي يخضع لها الكثير من مثقفينا؛ أصبحت عبئا على الشعب وليس على السلطة، وشكلت عاملا مؤثرا على رفع الحظر الدولي أيضا، وعلى المعرفة والثقافة الشعبية كذلك، وبين طروحات علي حرب حول دور المثقف وتنظيرات غرامشي، لا بد أن نقرأ أنفسنا جيدا؛ فلكل كاتب جمهور متخيل أو حقيقي، ونسحب ذلك على المثقف الذي يضع نفسه دوما في موقع صاحب المنبر الذي يبحث عنه الجميع؛ أو يرتطم بوجوه الكثيرين ليسمعوه بالصدفة، والذي عليه أن يبرح برجه العاجي وينزل إلى مستوى الطين البشري بكل لوثته وصلفه ونزواته وغرائزه، لنصل للتساؤل حول المثقف نفسه ما هو الجمهور المتخيل لديه؟، هل هو مجتمع القبيلة؟، أم المدينة أم الأقلية والطائفة أم مجتمع الشعب ككل؟، لنصل في مقارنة بسيطة ومع الإقرار بحاجة مجتمعاتنا ذات التدين الشعبي للتجديد، لتجاوز مشيخات التنفع، والطرق الصوفية، والشعوذة تحت مسمى الدين، والذهنية القبلية، والمجتمع المنذر بالتذرير، علينا أن نقر بوضوح أن اليسار لم يتجاوز عقدة اليتم بعد سقوط الماركسية السوفيتية، وبقي متخشبا؛ فتح كتب ماركس ولم يغلقها، ولم يبرع سوى بالحديث عن الشيخ الذي دخل الحمام ليشرح أحكام الوضوء ولم يخرج، وفي حين يتحدث د. نجيب عوض في كتابه “الهوية الأموية والدور المسيحي فيها” عن الدولة وجملة الأنساق التي شكلت الدولة الأموية وأثر النصارى في تكونها الدولتي على صعد عدة، يصر المثقف من ثلة من رهط الحداثويين؛ واليسار المغترب أن يبقى منفيا في داخله؛ وحاصرا مواقفه بالتزام ثقافة البنية الاجتماعية ما دون الدولة؛ ويبقى حبيس الإثنية والطائفة ومشايخها، وعطفا على مقولة إن المثقفين خذلوا ثورات الربيع العربي، صار لزاما على المثقف الثورة في نفسه وعلى نفسه أيضا، وباعتباره يضع نفسه في أعلى السلم الاجتماعي عبر تصوره عن موقعه في المجتمع، وفي يغاب قسر السلطة الذي كان يعاني منه، يصبح لزاما عليه الثورة من الأعلى، أو إيصال شعلة الثورة التي اندلعت من القواعد الشعبية وانتصرت ببراءتها ونقائها؛ إلى منبره وفكره، فالقواعد الشعبية التي ضمت الفلاح والعامل البسيط قد ثارت وتجاوزتنا بكثير.
المصدر: تلفزيون سوريا