
رغم معرفة الدول مسبقاً أن دونالد ترامب غير قابل للتوقّع، وأن قراراته محكومة بعقلية التاجر وحسابات المكسب والخسارة المجرّدة من أيّ قيم أو محاذير، لم تستعدّ أيّ دولة أو تخطّط للحدّ من خطورته وإبطال مفعول شطحاته. والسؤال الذي يجب أن يشغل بال العالم هو عن كيفية التعامل مع ترامب، وتقليل خسائر اندفاعاته غير المتوقّعة.
ما كشفته الأسابيع الماضية منذ دخوله البيت الأبيض أن ثمّة طريقَين نحو مواجهةٍ ناجحةٍ وفعّالةٍ مع عقلية ترامب، إمّا امتلاك أوراق ضغط وأدوات قوة مكافئة لما لديه وقادرة على ردعه، وفي هذه الحال لا مشكلة في خوض المواجهة معه حتى النهاية، أيّاً كان مستويا التصعيد والتحدّي. ولأنّ موازين القوى العالمية لا تزال تميل ولو نسبياً إلى صالح الولايات المتحدة، فإن قلّة من الدول نجحت في مناطحة ترامب وتطويق جموحه، حتى إنّه اضطر إلى تعليق قرار فرض رسوم جمركية جديدة على دول عدّة، أمّا التي لا تملك أوراقاً مضادّة لترامب، فعليها الابتعاد تماماً عن هذا الطريق، لأنها ستتعرّض لإحراج شديد، ولنا في أوكرانيا وبنما درس بليغ وعظة علنية.
الطريق الثاني لتعامل ناجح مع عنجهية ترامب وبلطجته هو المُسايسة، أي تجنّب مناطحته واستفزازه بالرفض العلني، من دون الانصياع لشطحاته أو قبول أفكاره الغريبة، لكنّ المقصود هو إبطال مفعول قراراته بـ”شياكة”، أيّ بأسلوب غير مباشر، من دون رفض علني أو الردّ عليه بندّية وتَحدٍ.
وحتى تنجح تلك الطريقة في تغيير موقف أو قرار للرئيس الأميركي، يجب توضيح ما ستتكبّده واشنطن من خسائر اقتصادية وأمنية خصوصاً. ولترسيم تلك التبعات، تجب الاستعانة بمؤسّسات الدولة الأميركية العميقة، بدءاً بالبنتاغون والمجمع الصناعي العسكري والمخابرات المركزية ووكالات الأمن، وليس المقصود بتلك المؤسّسات قياداتها العليا، بل ربّما ينبغي استبعاد تلك القيادات لأنهم موالون لترامب شخصياً، وبعضهم يشاركه التطرّف والشوفينية الأميركيَين. المقصودون هم الصف الثاني من القيادات والمسؤولين المنخرطين فعلياً في التخطيط، ولديهم إلمام بأبعاد المشكلات والملفّات المعقّدة، التي يتعاطى ترامب معها ببساطة واستخفاف وحلول سطحية. على سبيل المثال، ليس لدى ترامب إلمامٌ كافٍ بمدى أهمية التعاون الأمني والاستخباراتي مع بعض الدول التي تعامل معها أخيراً بعنجهية، مثل مصر والأردن، وبعض دول الخليج العربية، وتصوّر أن بإمكانه إجبار أيّ منها على قرار مصيري مثل تهجير الفلسطينيين من غزّة، بل إعلان ذلك من دون تشاور مسبق أو معرفة مواقف الأطراف المعنية.
ما حدث أن تلك الدول أعلنت رفضها قرار ترامب، وحشدت مصر والأردن الرأي العام والإعلام والمجتمع المدني ضدّه. وفي مستوى آخر، تواصلت أجهزة ومؤسّسات أمنية وسياسية وعسكرية مع نظيرتها في الولايات المتحدة، واستُعرِضت التداعيات الخطيرة المحتملة لخطّة ترامب، وصدرت إشارات قوية أن مسارات التعاون مع واشنطن معرّضة للضرر والمراجعة على مختلف مساراتها، وهو أمر لا يمكن لواشنطن تحمّل تبعاته، تحديداً في حالتَي مصر والأردن، وهو ما ينطبق أيضاً على دول أخرى تجنّبت مناطحته، لكنها فرضت إرادتها.
التلويح بتلك الروابط المهمة يُعدّ بذاته ورقةَ ضغط قويةً وفعّالةً ضدّ ترامب، إذ تعتمد عليها واشنطن في ترتيب الأوضاع الإقليمية وتأمين مصالحها الجيوسياسية في الشرق الأوسط، وغيره من أقاليم العالم، لكن ثمّة فارق بين استخدام قوة الجبر وإعلانها، وتوظيف أدوات القوة بنعومة، ومن دون إعلان أي ضجّة، خصوصاً حين يكون ذلك عبر قنوات واتصالات مؤسّسية لا تضع ذلك البلطجي المغرور في حرج أمام دول العالم، التي يمارس سطوته ويبرم صفقاته على حسابها.
المصدر: العربي الجديد